في مثل هذه اللحظات العصيبة، يعجز القلم على اختراق بياض الورق، خصوصا إذا كانت الضربة ثقيلة على الإحساس و نياط القلب.. المنون لا توقيت و لا موعد له يخطف متى يريد و كيفما اتفق (!). و نحن نتهيأ لبداية يوم مهني في مكتب الجريدة بآسفي.. جاءنا صوت الهادئ العميق عزيز الساطوري ..«عزاؤنا واحد سي عبد الله الولادي في ذمة الله ». يا إلهي لا نهضم مرحلة حزن و تيه ، حتى تصفعنا الأيام في الأحبة الذين فتحنا أعيننا بينهم و بجانبهم و معهم . أقول هذا الكلام كواحد من الجيل الرابع من مناضلي الاتحاد الاشتراكي ممن وجد نفسه قدرا وسط هذا الحزب / المدرسة الذي يرفع الغشاوة عن كل منتم لأفقه التقدمي و التاريخي. في آسفي كان اسم الولادي حاضرا بين المناضلين في كل المحطات، و يزيد حضوره عندما تنتدبه القيادة السياسية لفك إشكال تنظيمي أو رأب صدع إنساني داخلي. كان الولادي قبل هذا حاضرا في الانتخابات .. مصارعا و مدافعا عن برنامج الحزب .. مجسدا لأدبياته في سلوكه النضالي النبيل ، اشتغل كلما ترشح في هذه المدينة بنفس تقدمي، و بتعامل رفيع مع خصومه الذين كانوا لا يتوانون عن التواطؤ مع «سلطة» ذلك الزمان من سنوات الرصاص للتزوير ضده، و قلب النتائج النهائية لصالح الإمعات و الصنائع و توافه اليراعات (اليراعة لغة هو الجبان الضعيف الذي لا رأي له ) . و وصلت بهم يومئذ «جرأة» القمع حتى لا نقول أكثر ، إلى نفيه و منعه من دخول آسفي و تسجيله كخطر على «النظام المحلي» . و للمفارقة .. نفس هذه السلطة التي منعته هي التي حرصت و حرست و انتظرت جثمانه الطاهر عند مدخل المدينة لتشييعه إلى مثواه الأخير !. الأستاذ الولادي.. خرج من آسفي أستاذا درَس و درَّس مع النقيب سي احمد الخزامي و تخرج على يديهما أجيال لا حصر لها من الآسفيين الذين ما زالوا يذكرون أفضالهما. استقر ب «عمق المغرب» أي الدارالبيضاء ، و من هناك انطلقت مسيرة أخرى حفر و هيأ لها بعصامية نادرة و بإرادة لا تكل . تحول إلى محام مهووس بالهم الحقوقي ، و كان في مقدمة لوامع المحامين الاتحاديين الذين تصدوا لمخططات القمع و الإبادة التي كانت آخذة في تطبيقها أجهزة دولة السبعينيات ضد حزب القوات الشعبية ، و ما رافقها من توتر سياسي وسم التاريخ الحديث للبلاد بأكثر من ميسم . الرجل ظل زاهدا في المناصب، لا يتسابق على المواقع التي يحسبها البعض «ترقية اجتماعية» أو نوعا من «الجاه السياسي» . لم يردّ قطّ دعوة المكتب السياسي كلما كلفه بمهمة نضالية .. يذهب ، يؤلف القلوب، يبحث عن الخلل، يسد الفُرَجَ، لا ينفعل .. على الأقل كان مفاوضا صبورا و منصتا عميقا و ذا لسان دبلوماسي حذق، يعرف كيف يدبر الخلاف و الاختلاف مع صانعي» الانقلابات التنظيمية «. عشنا معه فترة انتخابات 97 بكل الفوضى التي رافقتها ، و بكل التزوير الذي أحاط بالدائرة التي ترشح بها ، كان يصر على النظام رغم عنف المنافسين . يحاول محاصرة شغبنا بنوع من الأبوية المستساغة التي لا تقمع بقدر ما توجه و تحترم ذكاء المناضلين و المناضلات. بعد هذا كانت لقاءات متعددة تجمعنا بالرجل الذي لم تكن الابتسامة تفارقه و لا القفشات التي يوزعها علينا كشباب و التي ينهيها دائما بعناق طفولي يحس المرء فيه بالحنو و العواطف الصادقة . و هذه هي الحقيقة التي لا نقصان و لا زيادة فيها . كان إذا التزم وفى ، و إذا صادق صدق ، لم يكن مترفعا ، و لا صاحب لغة خشبية جافة،ظل الحس البيداغوجي و التواصلي يرافقه في تعامله مع المناضلين، هو صاحب التكوين القانوني الرصين . عاش عفيفا .. قنوعا.. بسيطا . في الأيام الأخيرة قبل رحيله المفاجئ ، هتف لي الأستاذ النقيب امحمد الشقوري الكاتب الإقليمي لحزبنا في السبيعينيات و أحد مؤسسي المنظمة المغربية لحقوق الإنسان صحبة الرجل .. « لقد زرت الأستاذ الولادي في منزله ، و هو يسأل عنك ، اتصل به « لما كنت على ظهر «تيتانيك المغرب» الدارالبيضاء العزيزة و المناضلة بداية هذا الشهر ، اتصلت بالأستاذ ، جاءني صوته واهنا على المحمول .. « سي محمد أنا على وشك الذهاب في رحلة علاج قصيرة بفرنسا سأراك بعد العودة...» . و هاهي العودة تتحول إلى مأتم .. و إلى قبر و إلى صمت أبدي . لن أراك أستاذي مرة ثانية ، لن يهُشَّ علي بنظاراته، لن يعاتبني على اللسان السليط كما كان يقول دائما ، على مسارات قلم كسرته السياسة أكثر من مرة . لن أسمع صوتك كما في الصخيرات و الشوط الثاني .. «باقي حيْ آ البَالا ...» رحم الله الأستاذ عبد الولادي .. رحم الله معلم الأجيال بآسفي .. رحم الله الحقوقي النبيل و السياسي النظيف ..