إن هذا المدخل، بالنسبة لنا، هو السبيل الوحيد لتجديد رؤية المجتمع والدولة لموضوع السياسة وفتحه على عوالم اعتاد العلم السياسي المتداول أن يبعده عنها. والمدخل الثاني هو بناء فضاء تربوي وتعليمي يمكن أبناءنا من استعمال العقل وحثهم على الاجتهاد في فهم الأمور وإضفاء طابع العلمية على محادثاتهم وسلوكياتهم بالتدريج ودون الحد من حريتهم أو تقييدهم بالأفكار التقليدية. وعندما نتكلم على الاجتهاد والقياس، فإننا نبرز شيئين أساسين يتعلق الأول بضرورة استحضار التجربة العلمية في البحث عن الحقائق، والثاني بالإيمان بنسبيتها وحاجتها لقراءات متجددة. وفي هذا الصدد، قال محمد شحرور في كتابه المعنون "الكتاب والقرآن" أن صاحب الحق الوحيد في إظهار مصداقية كلام الله هو الخط الكامل للسيرورة والصيرورة الإنسانية كلها، من آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة. ويضيف، الاجتهاد صحيح ومقبول بمقدار ما يتجاوب مع الواقع الموضوعي، وبعبارة أخرى، بمقدار فهم قارئ النص المجتهد للواقع الموضوعي في لحظة القراءة التاريخية. ومعيار الفهم والمصداقية هذا هو الذي يحدد صحة القراءة أو خطئها، ودرجتها من الصواب والخطأ. وهذا أيضا ما يحدد نجاح أو فشل أي برلمان في تشريعاته. فكلما كانت تشريعاته متطابقة ومتجاوبة مع الواقع الموضوعي كلما كان البرلمان ناجحا في تشريعاته انطلاقا من فهمه الصحيح للواقع المعيش. كما دعا نفس الكاتب إلى إبعاد الآليات التقليدية في التعامل مع مسألة القياس. بالنسبة له، القياس هو ما يقوم على البراهين المادية والبينات العلمية التي يقدمها علماء الطبيعيات والاجتماع، والإحصاء، والاقتصاد. فهؤلاء هم المستشارون الحقيقيون للسلطة التشريعية والسياسية، وليس علماء الدين ومؤسسات الإفتاء، وبهذه البينات يتم السماح والمنع لا التحليل والتحريم. بالنسبة له، الشريعة الإسلامية إلهية، بينما الفقه الإسلامي إنساني تاريخي. وبدون وعي هذا الفرق وأخذه بعين الاعتبار، لا أمل لنا من الخروج من المأزق بأن الإسلام إلهي والفقه الإسلامي والتفسير إنساني، وأن هذا هو الفرق بين الإسلام والمسلمين. فالإسلام هو التنزيل الحكيم، والمسلمون هم تفاعل تاريخي اجتماعي إنساني مع التنزيل، وهناك فرق بينهما في الماضي، والحاضر، والمستقبل. ومما لا شك فيه، أن تأسيس الأصالة يحتاج إلى قراءة متأنية وعميقة للتراث المغربي الديني والحضاري وجعله مصدر قوة لبناء حداثة نموذجية في العالم العربي. علينا أن نؤمن، كما أكد على ذلك الكاتب شحرور، أننا في حاجة إلى القيام بقراءة ثانية للفقه الإسلامي الذي يبن أيدينا في ضوء ما استجد في اشكالياتنا ونظمنا المعرفية المعاصرة واختراق أصول الفقه التي لا يمكن أن يتم التطور والتقدم إلا باختراقها. ويجب أن يقرأه من يأتي من بعدنا قراءة ثالثة، ورابعة،... إلى أن تقوم الساعة. فالأحكام تتغير أيضا بتغير النظام المعرفي.. فالتشريع الإسلامي هو تشريع مدني إنساني، وهو يسمح بظهور التعددية والاختلاف في الرأي في القضية الواحدة. وأعتقد، أن الوضع السياسي المغربي قد حقق تقدما واضحا بالمقارنة مع الماضي وأنه يتجه اتجاها سليما ومشجعا نحو عقلنة الدين الإسلامي بآلية تنظيم المجتمع والمؤسسات وإخضاعهما المنهجي للتفكير النقدي، والتعامل معه كموضوع لإنتاج معرفة علمية حوله. وفي هذا الصدد، فإلى جانب افتخارنا بالإنتاج المعرفي لمفكرينا وعلى رأسهم عبد الله العروي بكتابيه الأخيرين "الإصلاح والسنة" و"من ديوان السياسة"، نفتخر كذلك بالمفكر محمد عابد الجابري الذي لا يدخر جهدا من خلال إسهاماته القيمة لتحديث وتحرير العقل العربي. فإضافة إلى كتاباته الكثيرة التي تزخر بها المكتبة المغربية والعربية، ومحتويات مدونته الالكترونية المعنونة "نحو تحرير العقل العربي"، ساهم مؤخرا، من خلال تجربته الفريدة في العالم العربي، في عقلنة التفكير في الإسلام من خلال إصدار محاولات تفسيرية جديدة للقرآن الكريم أعطت نوعا من الحيوية للفكر الإسلامي وإخراجه من حالة الجمود التقليدي المفتعل. وفي الأخير نقول، أننا في حاجة إلى مكتسبات جديدة تضاف إلى مكتسبات قديمة، لنخلق تركيبا أصيلا للحداثة يكون أعظم أثرا. والتجربة التاريخية تبين كيف استفادت اليابان من ذلك في بناء قوميتها الحديثة وأعطت الروح الجديدة للتشكيلة اليابانية، وبعثت الأمة التقليدية في شكل دولة قومية حديثة أقوى مما كانت عليه من قبل. ومن أجل ذلك، نعتبر هذا المقال مساهمة في عزل عوامل التعارض التي تمنع من فتح باب الحوار المثري والضروري بين مختلف الأطراف الاجتماعية لتحقيق انسجام عناصر القوة الروحية والمادية،الرمزية والعقلية، الدنيوية والدينية. وأختم بما قاله برهان غليون في كتابه "نقد السياسة:الدولة والدين": " إن الخلاف الراهن في الدين ليس مسألة دينية، ولا يرتبط بالعقيدة، ولا حتى بأسلوب فهمها وتفسيرها، بقدر ما يرتبط بالسياسة الكبرى، بما هي نظرية في التنظيم الاجتماعي العام، والرؤية الشاملة التي تحدد، في كل جماعة، أسس اجتماعها السياسي ومبادئه وغاياته".