تركيا على أبواب السماء بدعوة من المنبر الأورومتوسطي. وأنا أتهيأ للرحيل إلى عاصمة سابقة لإمبراطورية العثمانيين، لم أكن أتصور بعد أن يصبح المطار عقبة في وجهي بفعل الكثير من التساهل الذي يشرف على أن يكون لامبالاة. كيف حدث ذلك؟ كان مقررا أن أسافر يوم الخميس 17 دجنبر في الساعة الثامنة صباحا، لكنني عوض أن أدقق في التذكرة، كما يفعل كل المسافرين الذين يحترمون موظفات المطار وشركات الطيران، اكتفيت بمكالمة عبد المقصود الراشدي الذي ضرب لي موعدا، مع إخوان آخرين، في الساعة 11 صباحا بالمطار. وصلت في الساعة المذكورة، بالتدقيق، وأنا في كامل الزهو، كأي رجل متحضر يحترم المواعيد جيدا، دون أن أدرك بأنني متأخر عن الموعد الحقيقي بخمس ساعات، وأن طائرتي- طائرة الشركة التركية تحديدا- قد طارت في الساعات الأولي من ذلك الخميس. على كل تبين بأن التذكرة صادرة عن الخطوط الملكية المغربية، وأن علي انتظار يوم السبت من أجل الإلتحاق بمن سيسافرون في ذلك اليوم. وبمجرد ما ظهر الخبر، وذاع وسط الوفد المغربي، وجدت نفسي وسط حملة تضامنية قوية، محاطا بالحقوقي عبد الله مسداد، والنقابي بنحمو والجمعويين المنبريين لمريس ورشيد وأمادي والموظف الطيب عز الدين، وهي وقفة لا شك أن أمينتو حيدر ستحسدني عليها بالرغم من كل الشموع التي أشعلها الإسبانيون في وجهنا دعما لها. وانطلقت الاتصالات مع إسطنبول، ومع العواصم الأوروبية حتى يجد لي العالم تذكرة على نفس الطائرة التي تتجه إلى عاصمة تركيا التاريخية، قبل أنقرة. وبعد عياط ونياط تم حل الإشكال وأقلعت الطائرة. تقدمت مع من بقي من الوفد إلى الشركة التركية للطيران، وقد حملنا، بالإضافة إلى حقائبنا، «كارتونات» للمنبر من أجل تفادي الرسوم الباهضة، وفي تضامن جماعي مع المضيفين. أقعلت الطائرة، بمسافرين قياسيين. ووجدنا من ضمنهم وفد جماعي حضر أشغال مؤتمر مراكش حول المدن الكبرى، أو العموديات. وكان من بين الحضور «المعلم خوجة» الذي سرعان ما صادق بعض أعضاء الوفد، وبدا متبرما من نوعية الأكل المغربي في مراكش، ولم يفهم كيف يجمع المغاربة بين الحلو والمالح في طبق واحد. على المقعد جانبي، جلست سيدة أربعينية المشمش، باسمة تتحدث بلكنة شرقية. كان المقعد بيننا فارغا، لغياب مسافر ثالث، طلبت منها أن تستغله للنوم، بعد أن بدا أنها متعبة للغاية، اعتذرت فألححت قليلا: « نامي على مقعدين، لكي تضاعفي حظوظك في أحلام جيدة». ابتسمت وتركتها لأتابع الحديث مع أعضاء الوفد. وبعد قليل وقفت الفنانة نعيمة إلياس والمخرج حسن حموشي، ليغيرا المكان. قالت الفنانة إن «شابا يشعر بالألم وهو، في كل مرة، يريد القيء». وأضافت بأنها، والمخرج، أفسحتا له المكان كله لكي يستطيع التمدد. قال حسن إن المسافر المعني طلب كيسا لكي يتقيأ. وإنه طلب أيضا دواء للألم الذي كان يمزق بطنه. وعندما سأله إن كان قد شكا من مرض المعدة في السابق، أجابه بالنفي، لكن الطاقم المضيف جاءه بقرص لعله يهدئ آلامه. استمر الشاب في وضعه، وكان يطلب المساعدة من الطاقم. ولما اشتد عليه الحال، طرح المضيفون السؤال الدائم في هذه الحالة: «هل هناك طبيب في الطائرة». فتقدم حميد و رشيد لتقديم المساعدة. بعد محاولات منهما تقدمت المضيفة التركية الشقراء لكي تقوم بالمحاولات الأخيرة بالتنفس عن طريق الفم أو «البوشابوش». توقفت الحركة في الطائرة، وتحلق المغاربة حول الشاب الذي يعاني . وبالرغم من كل المحاولات لبى الشاب نداء ربه. عرفنا أن إسمه رضوان، وأنه من مدينة الدارالبيضاء. وأن لديه طفلين. كان رضوان متجها إلى جدة، عن طريق إسطنبول. وقال أحد صديقيه، وهو في حالة تأثر باد، إنه كان يريد أن يقيم مناسك العمرة، وأنه يشتغل في شركة للبرمجة الإلكترونية. وروى صديقاه أنه بدا متعبا قليلا وهو يصل إلى المطار، لكنه أصر على السفر، وهو يعتقد بأن الألم سيزول. في أجواء اليونان أسلم رضوان الروح لباريها، فاضطرت الطائرة التوجه إلى مطار أثينا، في هبوط اضطراري رافق خلاله الصديقان صديقهما. لما عدت إلى مقعدي سألتني السيدة في الجوار:«قلت لها وما تدري نفس بأي سماء تموت». صرخت ياإلهي، وطلبت معلومات إضافية عن الفقيد. خيم صمت رهيب بيننا، ووقفت مغربية شابة تتهم الطاقم بأنه لم يقم بواجبه، وتنبهنا إلى غياب الوسائل الطبية المعتادة لتقديم المساعدة من مجسات النبض والآلات الخاصة بتنشيط القلب، التي قاد غيابها كلا من الطبيبين المغربيين والطاقم إلى استعمال اليدين من أجل محاولة إنقاذ الفقيد رضوان. رضوان الله عليه في سماء أثينا وفي قبره المغربي .. (حلقات الرحلة في الصفحات الثقافية ابتداء من يوم غد الخميس)