لا أحد يشكك في قيمة التداخل العضوي المتين بين سيرورة إعلامية ناضجة وكذا التبلور الفعلي لمشروع مجتمعي سليم، ينهض على بناء الإنسان والأرض، الرموز والأشياء، المنظومات والوقائع، الأحلام والكيفيات. بمعنى، يستحيل مع استثناءات نادرة تفعيل تجربة إعلامية ناضجة في غياب مؤسسة للدولة ذات لبنات ومرتكزات ثم ممكنات، ما دام الإعلام بكل روافده سيعكس حتما مستوى التأمل والنقاش السائدين داخل دوائر الكيان الوطني، حيث الاستفسار عن الماهية والمفهوم. انتماء الإعلام للبنية الفوقية، يجعل منه أحد معالم التحليل المجتمعي وموجّه جوهري لأي جماعة إنسانية صوب مستقبلها المشترك. خطوط الإنزياح أو الاختلاف بين الإعلامي والمجتمعي تبقى دقيقة وحساسة جدا نظرا لنتائجها الحاسمة والمصيرية، بحيث يصعب غالبا القيام بتحديد أولاني لأحدهما مقابل الثاني. في نفس الآن، يستعصي تحديد وتبيّن عناصر الفصل والوصل، التأثير والتأثر بين قواعد التشكل المجتمعي ثم المنظومة الإعلامية القائمة وفق درجات تماهيها على المستوى المكتوب والسمعي والبصري. رغم ذلك، يمكنني انطلاقا من قناعة شخصية، إرساء دليلين تأسيسيين : * التفكير في نظام سياسي مسؤول، يستند على منظومة إيديولوجية ومفهومية وتاريخية، بما ينطوي عليه الأمر من تفكير واضح في الدولة الوطنية، الحاملة للواء المشروع المجتمعي الصادق والتي لها امتدادات جماهيرية ومؤسساتية. * التشديد بالمطلق، على الدور النقدي للاشتغال الإعلامي، من تمّ سعيه اللانهائي إلى التجاوز قصد استحضار الممكن المنفلت. فالإعلام سلطة، أي تفكير، تقويم؛ منهج ؛ رؤية وحصيلة ؛ يرضخ لنفس القانون البيولوجي الصرف، الذي يجعل من الموت انبثاقا أو ولادات لا مكتملة تصب في كل سياقات النشأة. يتبادر إلى الذهن، أن كل حديث عن الإعلام يصنَّف ضمن خطاب الأزمة، خاصة إذا انبنى على التفكيك والتأويل، لأن المؤسسة الديموقراطية الفاعلة قالبا وفعلا، غير "مضطرة" إلى استعادة سؤال الموضوع، حيث الإعلام يعيش وضعه الطبيعي دون صخب أو ضوضاء. فالمعادلة بسيطة، لينة ومباشرة قد تتوفر على مدخلين. الديموقراطية، هي أولا وأخيرا، إعلام حي. مثلما، أن الإعلام ديمقراطية بوهيمية تفتتن بجدتها في كل آن وحين. السياق إذن مكتمل العناصر : سلط جهاز الدولة، ثم الإعلام والمسافة القائمة بينهما وكذا نوعية حضور أحدهما اتجاه الآخر، من خلال الموقع، الترقب، المراقبة وبين طيات كل ذلك الودّ أو العداوة. أساس الدولة أن تكون عادلة، وقدر الإعلام سيادته على ذاته، ليس لأنه سلطة رابعة بعد التشريعية والتنفيذية والقضائية، لكنه بالأحرى سلطة السلط، وبشيء من التسامي، لا اختراق للعبة التوافق الديمقراطي. المتتبع إذن، لصيرورة المشهد المغربي، سيلاحظ هذه النقلة الكمية، التي مست طيلة العقد الأخير النسيج الإعلامي، بمختلف تجلياته وأشكاله، خاصة ما تعلق منه بجسم الصحافة المكتوبة : طفرة على مستوى العناوين وأدوات التواصل، ثم زخم الحضور الذي أضحى للإعلام عند المواطن، بعد أن تميزت هاته العلاقة بنوع من الجفاء والارتياب وكذا الاحتراس، لحظة كان جزءا من طابوهات الدولة. كيف يمكننا الحكم على هذا المسار الإعلامي الجديد ؟ وسياقاته الإيجابية والسلبية أيضا، حتى يلهم المكونات المجتمعية ؟ وأي تمايز معرفي بين الإعلام السائد حاليا بكل تعدديته مقابل الإعلام الحزبي "العقائدي"، الذي أطر وأثرى الحقل السياسي المغربي طيلة أربعة عقود وما يزيد. قد تختزل مولدات الإعلام في مصدرين أساسيين : 1 هناك من جهة، قنوات الفعل السياسي على اختلاف الصيغة التي يأخذها (يساري، يميني، وسط، ليبرالي، اشتراكي، شيوعي، تقنوقراطي، إيكولوجي...)، والتي تحتم واجهة إعلامية، لتفعيل الخطاب وتحويله إلى قوة مادية داخل البنية المجتمعية. (2) ومن ناحية ثانية، شبكات المال والأعمال، ارتباطا برؤية أضحت مع مسارات المجتمع المعاصر وأنظمته التواصلية، قاعدة مقدسة وتصورا جاهزا، أقصد بذلك العلائق الجدلية، الاستنباطية، بين السياسة، المال والقوة مع اضمحلال الحوافز المعنوية والرمزية التي ألهمت الإنسان المعاصر لحظة هيمنة الإيديولوجيات التحررية الكبرى. مع انهيارها، استسلمت الإنسانية إلى رغبات وطموحات أساطين الجشع، الذين استوعبوا جيدا الوشائج البراغماتية بين المال والسلطة، وكذا العكس. فكلنا،يعلم جيدا مثلا وعلى سبيل المقاربة لا التقرير، الدور الذي قامت به وكالة الاستخبارات الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، داخل إيطاليا من أجل تقوية وتمتين أذرع المافيا للقضاء على المد الشيوعي. نتذكر أيضا، المصير الذي آل إليه الاتحاد السوفياتي، سنوات التسعينات، حينما انهارت الدولة المركزية "الشيوعية"، فانتهت الأمور إلى أيادي المافيات واللوبيات الاقتصادية، كي تسيطر على دواليب السياسة هناك، وأصبح وازع المال القيمة الوحيدة المحددة للاختيارات المجتمعية، بالتالي تتموقع قنوات الإعلام باعتبارها أهم الأوجه الفاعلية لبلورة مكونات السلطة. ليست الحالة، هي ذاتها في المغرب. لقد اختلف الوضع، لكن أهم عناصر اللعبة، والتي تخول لنا إمكانية مقاربة سوية ومتكاملة لموضوع التطور الإعلامي، يتمثل فيما يلي : * رحيل الحسن الثاني، وفترة "الراحة البيولوجية" التي عرفها التحاقن السياسي بين المخزن والقوى السياسية الحية، بغية إعطاء مزيد من "السلاسة"، بخصوص انتقال الحكم. حيث، أظهر النظام الرسمي "مرونة" محسوبة اتجاه الإعلام، مما أضفى حيوية على المنابر كميا ونوعيا، نظرا لاتساع رقعة الهامش.