هناك من يقيم حلقته في ساحة "جامع الفناء" بمراكش على أساس من الوعظ الديني والإرشاد الخلقي، وهناك من يقيمها على المشيخة و"الشيخات"، كما هناك من يقيمها على سب كل الناس وتشنيف أسماعهم بكل أشكال العنف اللفظي، ومع ذلك تجد الناس متحلقين حوله وكأنهم يعشقون جلد الذات، ورابعهم يقيم حلقته على الملاكمة بين روادها ليخرج منها بما لذ وطاب من البقشيش، وآخرون أقاموا حلقتهم على نوع من الدجل والشعوذة لاستغفال المتحلقين حولهم.. فاختلطت الأهازيج بأصوات "الحياحة" في هذه الساحة المغربية بامتياز. في المغرب، الساحة السياسية أشبه ما تكون بهذه الساحة الفريدة من نوعها. فهي مفعمة بالأحزاب وبأشباه الأحزاب، بالنقابات وحوانيتها السياسية، بالجمعيات واستنساخاتها الحزبية. قوامها المشاركة السياسية في سوق كبيرة تتلبس فيها الديمقراطية، تلك الغجرية القادمة من وراء البحار، بكل أشكال الدجل السياسي المغربي. هذه السوق السياسية قد يلجها، إلى جانب مواطنين ومواطنات عزل لا يملكون غير أصواتهم وقلبا كبيرا مفعما بالوطنية، تجار الأصوات والعملات الانتخابية المزورة، وغيرهم من "البرغازة والشناقة"، يحملون في جيوبهم تجاربهم السياسية والإدارية في كل أشكال مصادرة الإرادة العامة، وتأجيل كل إرادة حقيقية لبناء أحزاب سياسية وطنية قادرة على تأطير السوق السياسية المغربية. في المغرب أحزاب ابتدعها المواطنون، احتضنوها وحضنوها ورعوا نموها ضدا على كل أعاصير الرصاص ومدن النحاس، وأحزاب أخرى ابتدعها تجار التجارب الزائفة في مختبرات المخابرات ومكاتب الاستخبارات.. في مغرب العهد الجديد لم تعد هناك الحاجة إلى مختبرات المخابرات والاستخبارات، وإن ظهرت الحاجة إلى مكاتب الدراسات، كما تفعل ذلك اليوم الكثير من الأحزاب التي استنزلت نخبتها وأطرها بصلوات الاستسقاء على أعتاب الصحبة السلطانية.. في المغرب، أحزاب بنت كينونتها على النضال من أجل القيم الجميلة ومن أجل دمقرطة المجتمع ومؤسساته الدستورية والسياسية والمجتمعية والثقافية، تؤطرها في ذلك نخبة من المثقفين الرواد الذين نجحوا في بناء إطار فلسفي إيديولوجي، يؤسس للرؤيا التقدمية ويسهل بناءها كبوصلة في تحليلات ورؤى المناضلين. انطلقت هذه الأحزاب من الأفكار النبيلة عن الوطن والوطنية والحقوق والقانون.. لتخوض حربا ضروسا من أجل بناء صرح الديمقراطية الاجتماعية، معتبرة أن كل مشروع ديمقراطي لا يأتي محمولا على أكتاف وقناعات القوى المجتمعية لن يكون إلا بناء صوريا، لا يختلف كثيرا عن الديمقراطيات التي جاءت العالم العربي مزهوة بالنياشين العسكرية، على صهوة دبابة وجهت فوهة بركانها إلى صدور الوطنيين والوطنيات قبل غيرهم من الرعايا.. مثقفو هذه الأحزاب اليوم، في مغرب العهد الجديد، صاروا من ضمن الشعبويين والغوغاء وحطب التاريخ، حملة سبحة أمجاد سنوات الاحتراق والرصاص، تعلو أعينهم كؤوس الشيخوخة من غير أن يلقحوا أرحام نظرياتهم في الوطنية. يركبهم صدأ الفكر الأدبي، وقصائد مرافاعاتهم في القانون والاجتماع والسياسة.. تجاوزهم الزمن حينما صدئت حناجرهم بالكلام المكرور.. عملتهم في السوق بارت إلا من نوستالجيا عشاق جمع التحف والطوابع والنقود المنقرضة والنادرة.. وأولئك هم سياسيونا.. وعلى الطرف الآخر أشباه الأحزاب تفرش الأرض بكل زيف خطب الاشتراكية والليبرالية معا، بادعاء الأصالة والعودة إلى الإسلام والتراث أحيانا، أو بادعاء المعاصرة والقفز إلى المستقبل أحيانا أخرى، يخرجون الحداثة من جيوبهم كما يخرجون قرارات العدل والداخلية. كل شيء جاهز PRET A EMPORTER.. وجهان لعملة واحدة، مزورة مهما ادعى أصحابها إعلان الحرب على تجار السياسة في أسواق النخاسة الحزبية المغربية، سواء باسم الحداثة والمستقبل أو باسم الأصالة والرجوع إلى الدين والقيم الأصيلة.. وبين المنزلتين مثقفو العولمة، آتون على صهوة الأرقام وأسلاك الطرق السيارة للمعلومة، ولدوا خارج رحم نظريات الوطنية والهوية، احتضنتهم قوارير العولمة ولقحتهم أنحاء (جمع نحو) اللغات الحية بعدما اغتالهم ضاد الأم والمنجل الطبقي.. وجدوا أنفسهم بين الانتصارات الوهمية للصراع الطبقي والانتصارات الحقيقية لأوهام المستقبل الافتراضي المقتنى بالعملة الانتخابية المزيفة.. فاستكانوا للنضال المريح، نضال مكاتب الدراسات... هؤلاء، ويسمونهم التكنوقراط، بدأوا يزحفون على الأحزاب السياسية المغربية، وعلى الساحة السياسية مدججين بخطط مكاتب الدراسات والخبرات الدولية.. غدا، تحدد مكاتب الدراسات مواصفات المواطنة(بفتح الطاء) والوطن المسموح بدخولها إلى السوق السياسية في المغرب الجديد.