خاطبني صديقي بهؤلاء الكلمات الخفيفات..قبل أن يختفي وسط الحشود المهرولة بشوارع مركز مدينة الدار البييضاء..جوابا على سؤالي عن حاله. كلمات كانت أسرع من قطارات نادرا ما تحترم مواعيد وصولها..لتحط بي أمام قبة البرلمان..والمطالبون بحقهم في الشغل يهتفون "الحكومات مشات وجات..والحالة هي هي..عيتونا بالشعارات وحنا هم الضحية"..قبل أن تنهال على أجسادهم عصي رجال الأمن. اعتدت هذا المشهد الذي لن أتوقف عن استنكاره كلما صادفته في عهد وزراء داخلية تعاقبوا على كرسي بناية ليوطي ..وفي كل مرة يراودني الحلم أن يطلب الوزير الجديد من مصالحه التقيد بمقتضيات القانون قبل أن يشرعوا في استخدام القوة لتفريق المتظاهرين..لكن الرياح تجري دائما بما لا تشتهيه سفن أحلامنا على ما يبدو. هذه الأيام لم يكن المطالبون بتوظيفهم من حملة الشهادات العليا لوحدهم من ذاق طبخات الهراوات التي تنفلت من خارج مطبخ دولة الحق والقانون..بل ذاقها كذالك المحتجون على جرائم الصهاينة في حق مقدساتنا بفلسطين الجريحة..وخلف أصحاب البذل الزرقاء والخضراء كان رجال الاستعلامات العامة لا يتوقفون عن الحديث إلى مسؤوليهم عبر هواتفهم النقالة. فما دور هؤلاء؟ تعتبر المهمة الرئيسية لمديرية الاستعلامات العامة، هي تمكين مسؤولي الدولة من صورة لحظية تحاكي نظيرتها الفوتوغرافية عن المشهد السياسي والجمعوي، وضبط أنفاس وحركات وسكنات النشطاء والقياديين، وتتبع خيوط المشاريع السياسية للهيئات والتنظيمات بغض النظر عن موقفها وموقعها لدى السلطات الرسمية، وعدم السماح بمفاجأة غير محسوبة أو غير مرغوبة؛ مع تأمين سير «عادي» وآمن للمحطات السياسية والانتخابية الكبرى، وضبط تفاصيلها وتعقب تطوراتها بدقة وفورية... هذه بعض من المهام المعلنة والمضمرة ل»البوليس السياسي» أو ما يسمى رسميا بالاستعلامات العامة. ما يجعل هذا الجهاز في احتكاك يومي ومباشر، بل في انخراط ومشاركة في الفعل الحزبي والمدني؛ فيمنح للدولة حضورها الدائم في قلب الحياة السياسية، ومقياسا دقيقا لحرارة وضغط هذا الجسم المتحرك وإيقاع تنفسه هواء الحريات والحقوق أو اختناقه من ندرتها. ليست «الشرطة السياسية» كما تلقب الأجهزة المماثلة لما يعرف في المغرب بالاستعلامات العامة، شرا في حد ذاتها؛ ولا هي اختراع تم استحداثه لمحاصرة الفعل السياسي والنقابي والجمعوي؛ لكن عمل هذا الجهاز، يظل جزءا من طريقة دوران آلة الدولة ومؤشرا لتوجهاتها واختياراتها السياسية والحقوقية، باعتبارها أحد خطوط التماس المباشرة الأولى للدولة بمجالها الداخلي..لكن ما هي حقيقة ارتباطها بالذين يصدرون أوامر التدخل العنيف واستخدام القوة خارج الشروط التي يرسمها القانون؟ وما هو الخطر الذي يمثله احتجاج على عمل الحكومة التي تمنح مناصب شغل لمن لا يستحقونها؟ وما الذي يضر الأمن العام إذا عبر مواطنون عن استنكارهم للجرائم الصهيونية؟ لا أجد جوابا غير هؤلاء الكلمات "الحكومات مشات وجات..والحالة هي هي..عيتونا بالشعارات وحنا هم الضحية". ونحن هنا تعود بطبيعة الحال على جميع المواطنين المغاربة الذين يتقاسمون الحلم بدولة الحق والقانون..ودولة العزة والكرامة. *رئيس تحرير صحيفة المصباح