تمت اخيرا إعادة الاعتبار لرواية 'الخبز الحافي' لمحمد شكري في موطنها الأصلي بعد أن منعها اتحاد كتاب المغرب من النشر قرابة العشرين عاما، بيد أنها ترجمت إلى تسع وثلاثين لغة، وكان مبرر منعها حينذاك هو خدش الحياء العام . رواية صادمة بعوالمها الإيروتيكية، ولكنها لا تخلو رغم ذلك من بعد انساني وتأريخي، يتمثل الأول في التصوير التوثيقي لمعاناة طفل عاش مشردا بين الشمال المغربي (تطوان وطنجة) والغرب الجزائري (وهران) إبان الاحتلال الإسباني لبعض أجزاء الشمال الإفريقي، في كنف واقع موبوء وأب قاس عنيف، لم يتوان عن قتل أحد أبنائه أمام عيني أخيه: 'أخي يبكي، يتلوى ألما، يبكي الخبز. يصغرني. أبكي معه. أراه يمشي إليه. الوحش يمشي إليه. الجنون في عينيه. يداه أخطبوط. لا أحد يقدر أن يمنعه. أستغيث في خيالي. وحش. مجنون إمنعوه. يلوي عنقه بعنف. أخي يتلوى. الدم يتدفق من فمه. أهرب خارج بيتنا تاركا إياه يسكت أمي باللكم والرفس. اختفيت منتظرا نهاية المعركة. لا أحد يمر. أصوات ذلك الليل بعيدة وقريبة مني. السماء. مصابيح الله شاهدة على جريمة أبي. الناس نائمون'. ص9 تبدأ الرواية بعبارة جامعة ترصف الفضاء العام للمكان بأهم معالم الطريق الذي ستنطلق منه الشخصيات وتنمو موغلة في سرد واقعها الخارجي والجواني الذي يتأرجح بين التيه والقسوة، وبالتالي يؤرخ واقع شريحة عامة تعكس المخلفات المرعبة للاستعمار والحرب: (أبكي موت خالي والأطفال من حولي، يبكي بعضهم معي، لم أعد أبكي فقط عندما يضربني أحد أو حين أفقد شيئا. أرى الناس ايضا يبكون . المجاعة في الريف القحط والحرب) ص1 . تتميز الرواية/ السيرة، بحركيتها وانتقالها السريع المتواتر عبر الفضاء التفصيلي للحياة، وهو الميسم المشوق الذي يدعو القارىء للانهماك في قراءتها حيث لا توجد فواصل بين الذاكرة والحاضر، بين الرغبات والمثل، في فضاء تنغل فيه الحياة بفوضاها ومتاهاتها مشحونة بقسوة وضغط معيشي، ليس على الطفل وحده الذي يشكل في مسار الرواية ضحية واضحة المعالم، وانما على الأب كذلك، ضحية خفية من قبل ضغوط لا تظهرها الرواية بقدر ما تحاول اخفاءها عبر سيطرة الشخصية الأساس ولصالحها حيث أن الرواية صيغت بضمير المتكلم وما يعكسه هذا الضمير من قدرة استحواذية شبه مطلقة على أجواء النص خاصة وأن العمل يسود فيه مناخ السيرة الأنوية أو الذاتية ومن طبيعة هذا الأسلوب أنه بالكاد يترك هامشا لظهور غير الشخصية الرئيس، وإن ظهرت فإنها لا تني أن تكون خادمة أو مساعدة للشخصية المهيمنة على فضاء النص. ولكن رغم تلك الهيمنة البنائية، يمكن استنطاق محنة الأب من خلال التشنجات اللامعقولة، وسعار الغضب حين يجعل من ابنه وفلذة كبده هدفا للانتقام، انتقام الضحية المحصورة نهائيا في ورطة الواقع والمصير والقدر: (كثيرا ماكان ابي يباغتني في الشارع من الخلف ويقبض علي من ياقة قميصي أو يلوي ذراعي إلى ظهري بيد وباليد الأخرى ينهال علي ضربا حتى يسيل دمي. عندئذ أعرف أن حزامه العسكري السميك ينتظرني في المنزل. حتى تتعب يداه وقدماه من الضرب. يعضني في كتفي أو في ذراعي قارصا أذني، صافعا وجهي . اذا ضربني في الشارع غالبا ما يتدخل الناس ويخلصونني منه، لكنه لم يعد يفعل. هكذا فحين يقبضني اسقط على الأرض وأصرخ بجنون. يشطب بي الأرض لحظة رافسا إياي حتى أفلت منه ثم أجدني بعيدا لاعنا إياه، كارها كل الناس، باصقا على السماء والأرض) ص 75 . هروب الطفل الضحية من براثن الأب يقابله انعتاق في احضان لا تقل قسوة، فالشارع المنهك والذي يجعل من الضحية / الصبي، محاصرا بين أكثر من محنة، فهو لايخرج من براثن والده إلا ويتلقاه الشارع بكل عنفه وفوضاه: (شتموني، بصقوا علي ودفعوني. شاب أقوى مني ركلني وضربني على قفاي، لكني بقيت هناك عنيدا. مرة واحدة فقط استطعت أن أقنع مسافرا أجنبيا بحمل حقيبته الثقيلة. بينما كنت أحاول حملها هجم علي حمال قوي، شاتما ودافعا إياي. حمل الحقيبة وبقيت هناك. اللعنة على الخبز. القط الذي رأيته في مرفأ مستودع الاسماك ربما هو أسعد مني. إنه يستطيع أن يأكل السمك النتن دون أن يتقيأ. سأسرق ولن أتسول. أنا في السادسة عشرة. السبتاوي كان على حق حين قال لي: 'التسول مهنة الأطفال والشيوخ والعجزة. عيب أن يتسول شاب قادر على السرقة إذا لم يجد عملا'. حينها يجاهد هذا الطفل الهروب من قبضة الشارع وبشره القساة، ليلتجىء ناحية ظلال ومكامن حيوانات ضالة تهرب بدورها من قسوة الشتاء، كدلالة رمزية على الهروب المتوالي للشخصية من قبضة إلى أخرى لاتقل قسوة ولكنها مدعاة للحلم الضائع الذي يشكل نافذة ضرورية للصمود والاستمرار في الحياة بأي طريقة كانت: 'في فصل الشتاء تعودت أن أنام في ركن مخبزة. أكور نفسي كالقنفد. ألصق ظهري الى جدار الفرن الساخن . حين أفيق في الليل لأغير وضعي، أجد فوقي قططا تنام. أحيانا استعذب شخيرها الخفيف الذي يشبه هدير معمل بعيد' كما يكمن البعد التأريخي للرواية في أن عوالمها تدور زمنيا إبان الاستعمار الإسباني لجوانب من الجزء الشمالي للقارة السمراء، وما خلفته هذه الحقبة من إكراهات وتشوهات اجتماعية وندوب ظلت آثارها حاضرة إلى ما بعد تلك الحقبة بزمن. تبقى رواية 'الخبز الحافي' من أكثر الروايات العربية إثارة للجدل، خطها شكري- كبوابة لسلسلته السيرية- بعد أن تمكن من تعلم الكتابة في سن متأخرة، كدلالة إضافية على تمكن البوح الجواني النافر الذي وجد في الكتابة الساحة الممكنة والمتاحة للروح لتنفض عبرها بواعث احتجاجاتها وصراعاتها.