تعيش مدينة جرادة هذه الأيام على صفيح ساخن يغلبه من جهة نضالات وانتفاضات وعصيان عمال بقايا الفحم ضد الجوع، ومن جهة أخرى هستيريا القمع الذي قام بإنزال مكثف وبكل التلاوين والعتاد، والتجول ليل نهار في أزقة الأحياء الشعبية لاعتقال العمال وترهيب عائلاتهم وحماية مصالح الإقطاع وكبار الملاكين.فكيف اندلعت هذه الأحداث؟ ما هي الأطراف التي أدت إلى اندلاعها؟ وما هي مواقف بقية الأطراف التي أدت إلى اندلاعها؟ وما هي مواقف بقية الأطراف المرتبطة بشكل أو بآخر بقضية هؤلاء العمال؟ في هذا المقال سنحاول مطارحة هذه الأسئلة بالجرأة والموضوعية التي تقتضيها مع التأكيد على أن المجال لا يسمح بالإحاطة بكل جوانب الموضوع خصوصا فيما يتعلق بهم هؤلاء العمال؟ كيف ظهروا؟ موقعهم الطبقي وعلاقة هذا الموقع ببقية المواقع الأخرى في التشكيلة الطبقية للمجتمع على المستوى المحلي. ونحيل القراء في هذا الصدد إلى مقال مفصل للرفيقة لينة حمدان " جرادة المنجمية : بقايا الإقطاع ينهب، يشرد ويقتل" بينما نلتزم في هذه الورقة بالإطار الذي حددناه سلفا فيما يتعلق بالمستجدات التي تعرفها هذه القضية وأبعاد شظايا انفجارها الاجتماعي. بدأت الأحداث بإضراب عن العمل مع المرابطة في مواقع استخراج الفحم من قبل عمال بقايا الفحم أوأبار الساندريات، مطالب هؤلاء كانت الرفع من قيمة بيع كميات الفحم المستخرج للأباطرة - للتذكير لا يصل سعر بيع الفحم المستخرج حتى إلى عشر القيمة التي يبيعها الإقطاعي الذي يشتريه منهم - وهو مطلب لا يعني سوى الرفع من قيمة الأجر الذي يتقاضاه العمال مقابل قوة عملهم في استخراج كميات الفحم وإن كانت علاقة الإنتاج المميزة لهذا النمط في الإنتاج اقرب إلى النظام العبودي منه إلى نظام الأجر/الرأسمالي وأمام تعنت الأباطرة وملاكي رخص الاستغلال وتسويق الفحم في الاستجابة لمطلبهم بحكم امتياز موقعهم الطبقي وإصرارهم على رفض شراء الفحم حتى تخفيض سعره أي حصة العمال من قيمة قوة عملهم وبحكم تردي الواقع الاجتماعي لهؤلاء العمال - الفقر، الجوع، غلاء المعيشة،غياب فرص بديلة للعيش..- تطورت معركتهم لتأخذ أبعادا أخرى وقفات، احتجاجات أمام العمالة، مسيرات شعبية...لهذا الوضع وبالنظر لتزامن هذه الحركة مع زيارة الملك إلى المنطقة الشرقية ستتفنن عبقرية سلطات الدولة محليا وعلى رأسهم عامل الإقليم على نسج سيناريوهين منسجمين في وقاحتهم وهمجيتهم مع وقاحة وهمجية القائمين عليها. السيناريو الأول وراءه عامل الإقليم ،حزب الاستقلال، منسق ما سمي المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، رئيس جمعية إسعاف، راهنوا به على محاولة إظهار أمن واستقرار الوضع الاجتماعي المحلي خلال هذه الفترة“ زيارة الملك للجهة مهما كانت النتائج وطبعا كانت هذه الأخيرة كارثية: أشعلت الحرب الطبقية بالمدينة زجت بالعشرات من الأطفال والشباب والشيوخ في السجون وتعذيبهم بشكل همجي, ترهيب وترغيب العائلات .فكيف تم ذلك؟؟ بعد تطور معركة العمال وإصرار أباطرة الفحم على عدم شراء منتوج العمال سيعقد لقاء ممثلين السلطة المحلية والمنتخبة و“المجتمع المدني“ مع ممثلي العمال يتم بموجبه الالتزام باستقدام شاري جديد لفحم العمال وبالثمن الذي يريده العمال 100 درهم للكيس وهو دور أعطي لعناصر منتمية لحزب الاستقلال، وطبعا سيصدق العمال هذه الكذبة لأن الجوع واليأس سيعيق حركة الفكر والعقل والمنطق لديهم من تحليل سياق هذا العرض وخلفياته وإنتاج الموقف السليم منه, وسيشرع العمال في نقل فحمهم إلى هؤلاء التجار الجدد على أمل أن تبقى مستحقاتهم المالية فور إنهاء عملية نقل الفحم، لكن الوقت الذي كان العمال ينتظرون تسوية حقوقهم المالية - كانت الزيارة قد انتهت- سيفاجئون بان تلك العملية كانت تمثيلية لتضليل العمال والنصب والاحتيال عليهم أيضا ولأن الضغط يولد الانفجار وكما أبدع الشاعر محمود درويش : حذاري من جوعي ومن غضبي # فان جعت آكل لحم مغتصبي . كان رد فعل هؤلاء الكادحين أقوى وأشرس وأعنف، بدأ باعتصام أمام العمالة وفي وسط الطريق الرئيسية بمدخل المدينة، انتظروا من خلاله جوابا على حقوقهم .فكان كالعادة خطاب الكذب والتضليل من جهة السلطة المحلية وكانت النتيجة الانتفاضة الجماهيرية والغضب العارم الآلاف من الجماهير الشعبية تجوب شوارع المدينة صارخة ضد الجوع والفقر وضد التضليل، ليبدأ السيناريو الثاني من سيناريوهات تعاطي سلطات الدولة مع قضية العمال في هذه الأحداث لقد حضرت كل تلاوين القمع وبشكل كثيف .لكن عملية التدخل القمعي لم تتم إلا بعد اقتحام المنتفضين للمحلات التجارية لأحد الإقطاعيين مالكي رخص استغلال الفحم ممن يمتصون دمائهم ليتضح في آخر المطاف أن أجهزة القمع كانت موجهة مسبقا لجعل انتفاضة الجياع تبدو أمام ساكنة جرادة مجرد فوضى وشغب يقوده منحرفون ضد الجميع لإخفاء حقيقة ومضمون هذه الانتفاضة الموجه أصلا ضد الجوع والنصب والتضليل وإظهاره بطابع الفوضى التي لا تميز بين الحليف والعدو، كل ذلك لعزل احتجاجات العمال عن وسطهم الشعبي و منع تجدرها وسط الجماهير بخلق انطباع الرفض لدى الساكنة بان الأمر يتعلق بقضية عادلة تستحق التضامن بقدر ما يتعلق بفوضى .لكن اتضح أيضا من نفس السيناريو الوقح والهمجي والبليد ذلك التحالف المتين بين أجهزة الدولة وإقطاعيي المدينة حيث عبرت آلة القمع في همجية تدخلها ودمويته على ولائها المطلق وخدمتها الجليلة لمصاصي دماء أبناء المدينة .وسيتواصل هذا الأسلوب الهمجي إلى حدود الساعة بحملات اعتقال واسعة وتعذيب المعتقلين وترهيب العائلات ومحاصرة الأحياء الشعبية ومطاردة أبناء الشعب في الغابات المجاورة، أما القوى السياسية القيادات النقابية بالمدينة فقد ابتلعت الطعم كاملا ,مرددة في نقاشات المقاهي ودردشات الهوامش وبشكل ببغائي تصور أجهزة القمع بان هذه الأحدات سوى فوضى وشغب يجب أن يدان ويرفض منها الأحزاب المسماة (القوى الوطنية) سخرت منابرها الإعلامية لعرض الأحداث من هذه الزاوية، وبشكل يطمس الحقائق. أما بقية تشكيلة ما يسمى ب(القطب اليساري) فقد اجتمعت بعد تردد كبير لكن ليس لصياغة برنامج نضالي تدعيمي لحركة العمال ومعتقليهم، بل انحسرت مواقفها في حدود المطالبة بالتحقيق فيما جرى وهو موقف اعتدنا عليه منها في كل المجازر التي ترتكبها أجهزة القمع في حق الكادحين محليا ووطنيا وموقعه طبعا ليس سوى التواطؤ والمباركة.