ترددت في الآونة الأخيرة إلى حد لم يعد من الممكن التغاضي عنه الاتهامات الأخلاقية الخطيرة، المبطنة حينا والمعلن عنها حينا آخر، للفتيات وللنساء المغربيات خارج وداخل بلادهن. فما حقيقة هذه الاتهامات للمرأة المغربية؟ وما حقيقة الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي تعيشها النساء المغربيات التي أدت إلى تفشي هذا الوباء؟ وهل هذه حال تخص المرأة المغربية من دون سائر نساء المنطقة العربية؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا ظهرت هذه القضية على الساحة الإعلامية بمثل هذه الكثافة، بينما لا يتجرأ أحد على فتح هذا الملف المخزي في بقية الدول العربية؟ إنه لمن المؤسف أن يتركز الكلام عن بلد واحد فيم يخص هذا البلاء، بينما -على أرض الواقع- تشترك كل دول المنطقة بالآفات نفسها والأمراض عينها. فظاهرة البغاء عمّت المنطقة العربية كغيرها من مناطق العالم في زمن الانهيار الإنساني الذي نعيشه، لأسباب على رأسها الحروب والغزوات والاستعمار بكل أشكاله، وسقوط أنظمة فكرية وسياسية وعسكرية "عظمى" لتصبح دولها تابعة للغالب، وشعوبها متسولة على أبواب جحيم عالم لا يرحم. أما في المنطقة العربية على وجه الخصوص وإضافة إلى هذا السبب الأساس فهناك أسباب خاصة، منها: - الفقر المدقع بشعبه الثلاث المادي والفكري والأخلاقي، وهو من أهم الأسباب السياسية الإدارية التربوية التي تدمر البلاد. " من ضمن أسباب هذه الظاهرة التفسخ الاجتماعي الحاصل بسبب جملة العلاقات غير السوية التي تحكم السلوك العام في مجتمعاتنا وفي منطقتنا التي تنخرها أوبئة الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي " - التفسخ الاجتماعي الحاصل بسبب جملة العلاقات غير السوية التي تحكم السلوك العام في مجتمعاتنا في هذه المرحلة بالغة الحرج من تاريخ منطقة تنخرها أوبئة الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي. - ارتكاس الحس الأخلاقي لدى الناس إلى الحضيض بسبب تمسكهم بالعادات والتقاليد وظاهر أوامر الدين بعيدا عن روحه وفلسفته التربوية وما يترتب عنها من رادع أخلاقي شخصي لدى الأفراد - عدم احترام الإنسان لنفسه، وهو الذي لم يعتد أن يحترمه أحد، فالإنسان في منطقتنا هو مجرد "شيء" على آخر لائحة اهتمام الجميع في الأسرة والمجتمع والمدرسة والمؤسسة الدينية والدولة، وهذا يسهل عليه السقوط في مهاوي الرذيلة والجريمة، إذا لم يجد من يعزز لديه الشعور باحترام الذات وتقديرها - اختلال دور الأسرة في المجتمع، واضطراب دور كل من الأم والأب في الأسرة، خاصة دور الأب الذي أصبح في أيامنا هذه دورا بعيدا عن التأثير رغم السيطرة الذكورية العارية عن الفعل الحقيقي في حياة الأسرة، إذ يبدو وكأن معظم الرجال قد استقالوا من مهمة القوامة في بيوتهم، القوامة بما تعنيه من "قيام مادي ومعنوي وتربوي بحق أسرة، من واجب ربها وراعيها القيام بشؤونها وحمايتها، وإكرام أفرادها والقيام على خدمتهم وتلبية احتياجاتهم". - إنه خلل خطير جدا في دور الزوج والأب ودور الأسرة في المجتمع أدى إلى انفلات الأمور وضياع الأبناء والبنات، في ظل أوضاع سياسية خانقة وظروف اقتصادية مدمرة ومشهد اجتماعي مؤسف، ولا يمكن لعاقل أن يقول إن هذا وضع تختص به المملكة المغربية من دون سائر بلاد المنطقة العربية! إن أمراضنا من المحيط إلى الخليج واحدة، وإن معاناة الإنسان في المنطقة العربية واحدة، وإن الثقافة السائدة في المنطقة ثقافة واحدة مريضة مهترئة، قد آن الأوان لتجديدها وتشذيبها وتحديثها بإعادتها إلى أصول الحضارة العظيمة التي تنتمي إليها هذه المنطقة، خاصة فلسفتها الأخلاقية في تعاملها مع الإنسان رجلا كان أم امرأة، لنستطيع إعادة الأمور إلى نصابها في تحرير إنساننا من الذل والهوان والضياع. إن الإحصائيات الموجودة على الشبكة لكل من يريد مراجعتها، التي تنشرها دوريا الهيئات الاجتماعية والمنظمات الدولية عن أوضاع البغاء في مجمل دول المنطقة العربية لهي إحصائيات مفزعة، ولا تختص بالمغرب ولا بنساء المغرب، وإن العفة والستر على عباد الله يمنعاننا من إيراد أسماء دول أو شعوب المنطقة التي ينتشر فيها البغاء انتشار النار في الهشيم ولنفس الأسباب المذكورة أعلاه. ولن نقع في نفس المطب الذي وقع فيه من شهر بالمغرب ونساء المغرب، وكأن كل نساء المغرب ينتمين إلى هذه الفئة المسحوقة المظلومة من شعوبنا المغلوبة على أمرها، مرة بسطوة الاستعباد الذي ضيع البلاد، وأخرى بسلطة مجتمعات ظلمت العباد، وثالثة بحمق هيئات تربوية دمرت شعور الإنسان بالكرامة، ورابعة هي مؤسسات إعلامية لا تمتلك رؤى حضارية لتوجيه الشعوب نحو النهضة والخروج من النفق، ولا تكف عن التحريش بين أبناء المنطقة الواحدة، الإخوة في العقيدة واللغة والتاريخ والهم والألم والأمل والحلم بالمستقبل. إن المراقب والمتابع لهذه النشرات الدورية يعلم حجم المصيبة الحقيقية التي لحقت بأعراضنا المستباحة في المغرب والمشرق على السواء، ولم تنج من هذه المعضلة واحدة من بلاد المنطقة. وقد نسينا أمرين على غاية من الأهمية: أولهما: اعتبار البغاء مرضا اجتماعيا ينبغي على الدول والأفراد والمجتمعات والمؤسسات الدينية والاجتماعية العمل الحثيث لاستنقاذ بناتنا منه، وأقول "بناتنا" لأن هؤلاء النسوة هن بناتنا وأعراضنا، وقد دفعت بهن الظروف المؤلمة في بلادنا إلى سوق الاتجار بالإنسان، سوق الرقيق الحديث، في زمن لم يعد فيه للإنسان أي احترام ولا للمرأة أية قيمة، ليس في الغرب فحسب -كما يعجبنا أن ندندن- ولكن في الشرق والغرب والشمال والجنوب. " في المنطقة العربية والثقافة العربية المعاصرة يقع التجريم على المرأة فقط، وقد ثبت تاريخيا أن الغالبية العظمى من هؤلاء النساء هن فتيات مغرر بهن " وثانيهما: المسؤولية الواقعة على عاتق الرجال وفي عدة اتجاهات في هذه المجزرة، مجزرة الشرف والأعراض -التي لم تعد مقتصرة على الإناث بل شملت الذكور كذلك-، أولئك الرجال الذين ضيعوا أسرهم، بالمبالغة في سوء المعاملة حينا، مما دفع الفتيات والفتيان إلى مغادرة البيوت والهرب، أو بالاستهانة بالمسؤولية التي كلفوا بها دينيا واجتماعيا وأخلاقيا وإنسانيا وقانونيا، فضربوا بها عرض الحائط وانصرفوا عنها بعيدا عن البيت الذي دُكّت حصونه وقد بقي مشرع الأبواب دون حارس حريص ولا راع أمين. - لا يقتصر دور الرجل -المقصود فئة من الرجال وليس كلهم بالطبع- في هذه القضية على التخلي عن مسؤولياته والإسهام بصورة غير مباشرة في دفع أهل بيته إلى البغاء. فهناك فئة من الرجال يعدون مسؤولين مشاركين في هذه الجريمة، وتقوم بعض الدول المتقدمة بتجريم الرجال الذين يطلبون هذه "الخدمات الجنسية" -كما تسمى في الغرب- فهم الذين يدفعون المال للحصول على ما يبتغون! أما في المنطقة العربية والثقافة العربية المعاصرة فإن التجريم واقع على المرأة فحسب، وقد ثبت تاريخيا أن الغالبية العظمى من هؤلاء النساء هن فتيات مُغرر بهن، أو قد اختطفن وأرغمن على ممارسة الدعارة تحت التهديد الذي قد يصل إلى القتل، فكيف نجرم الضحية ونترك الجلاد؟ ولماذا لا تقوم الدول العربية التي تريد منع الفتيات المسلمات من هذه الجنسية أو تلك بدخول أراضيها، بملاحقة ومعاقبة رجالها ممن يفتقرون إلى الضمائر والأخلاق والدين والشرف؟ ولماذا تعد هذه الفتيات محرضات على الرذيلة بينما يسكت المجتمع والإعلام والدول عن دور هؤلاء الرجال من زبائن الشيطان ممن لا يتورعون عن هتك أعراض المسلمات وغير المسلمات، ممن يعرفون يقينا أن الغالبية العظمى منهن يمارسن هذه الرذيلة مرغمات مقهورات؟ وفي الحالة الثالثة يصبح الرجل مسؤولا رئيسيا مباشرا، حيث يلجأ بعض "الرجال" إلى دفع نسائهم إلى ممارسة البغاء طلبا للمال، وهذه حقيقة لا يمكن الإغضاء ولا السكوت عنها، لأنها معروفة لدى كل مُطلع، وليس إلا مراجعة ملفات الشرطة الاجتماعية وهيئات المساعدة الاجتماعية في الغرب والشرق على السواء لنتأكد من حجم الفاجعة! وكثيرا ما عرضت الأفلام والمسلسلات والروايات العربية هذه الحقيقة الاجتماعية المرعبة، في محاولة منها لكشف المستور الجارح المؤلم، وليس في هذه الفنون ولا الآداب ما يختص بأهل المغرب ونسائهم، بل إنها صادرة متحدثة عن دول أخرى وشعوب أخرى في المنطقة العربية لا يجرؤ كثيرون على ذكرها في هذا الباب الذي لا مرحبا بداخليه. - لقد عشت في إسبانيا ثلاثين عاما، تعرفت خلالها على أبناء الشعب المغربي بكل طبقاته وفئاته الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، ولا أستطيع أن أشهد بما تتناقله وسائل الإعلام وبعض الجهات الحكومية اليوم من اتهام فتيات المغرب بنواياهن المشبوهة المبطنة ومن التشهير بهن وبشرفهن. " شرف الأمم لا يقاس بسقوط فئة من أبنائها بين براثن الذئاب البشرية، ولكن شرف الأمم يعرف بقدرتها على حماية أبنائها من السقوط، والوقوف إلى جانبهم إذا سقطوا وانتشالهم من الهاوية " لقد عرفت ورأيت وعاينت حياة المئات من الفتيات المغاربة ممن يلتزمن الدين أو لا يلتزمنه، ومن طالبات الدراسات العليا الاختصاصية أو الأميات الجاهلات، من بنات الأسر الغنية غنى فاحشا، ومن بنات الفقر والحرمان، فلم أر خلال ثلاثين عاما ما يؤشر إلى أن الشعب المغربي شعب يسمح بالدعارة، ولا أن نساءه وفتياته ممن يتساهلن في مسألة الشرف والعرض، ولكنه شعب منفتح مثقف حر. وفي المغرب لا قيود على الحريات الشخصية للأفراد والمجتمع، مما يعطي انطباعا بأنه شعب متفلت، وهذه حقيقة منقوصة، فليست الحرية رديفا للفساد، ولكنها تعبر عن فلسفة دولة تفهم أن فرض القيود على الناس لا يعني أنهم لا يمارسون "حرياتهم" في الخفاء. وإن انتشار البرقع وفرض الحجاب بالقوة ومنع الاختلاط في العلن وتشجيع جرائم العار التي يسميها المجتمع جرائم الشرف في بعض المجتمعات العربية و"الإسلامية" لا يمنع من انتشار الفاحشة حتى في بعض الأماكن المقدسة، حتى صارت الرذيلة خبرا متواترا يسير به الركبان في عصر الصاروخ والإنترنت وفيسبوك. ليس من الحصافة والحكمة اتهام شعب كامل بمثل هذه التهمة بسبب حفنة من أبنائه سقطوا في مهاوي البغاء لأسباب سياسية واقتصادية وتربوية أخلاقية عمّت المنطقة العربية كلها، تتعلق أولا بفشل دولنا في تأمين فرص العمل للملايين من شبابها، مع اختفاء الخطط التنموية التي تستطيع استيعاب ما تدفع به الأرحام من عشرات الأبناء لكل أسرة تفتقر إلى الحد الأدنى من أسباب العيش الشريف. وليس من الإنصاف أن توجه كل السهام إلى الشعب المغربي وحده من بين شعوب المنطقة المتلبس معظمها بنفس الأعراض والأمراض، لا لشيء إلا لأن لشعوب أخرى حصانة دبلوماسية وإعلامية لا يتمكن معها أحد من الإشارة إليها إلا بكل جميل. دفاعا عن الشعب المغربي، وعن شرف غالبية نسائه وفتياته المؤمنات ينبغي أن نترك شهادتنا للتاريخ ولهذه الأمة، هؤلاء الفتيات اللاتي يزلزلن ساحات مدريد وباريس وروما وبروكسل بحناجرهن الندية تهتف لفلسطين والعراق، تهتف بحب الرسول (صلى الله عليه وسلم) ودفاعا عنه في كل ملمة وحدث جلل، تهتف دفاعا عن الحجاب ونصرة للإسلام، تهتف لأمة لم تتردد في اتهامهن، وبأي شيء؟ بأغلى ما تملكه أمة، شرفها. فإن شرف الأمم لا يقاس بسقوط فئة من أبنائها بين براثن الذئاب البشرية، ولكن شرف الأمم يعرف بقدرتها على حماية أبنائها من السقوط، والوقوف إلى جانبهم إذا سقطوا وانتشالهم من الهاوية وردهم إلى الحياة. الجزيرة نت