يعد المخرج الإيراني (عباس كياروستامي) احد أهم الأسماء الممثلة للسينما الإيرانية على المستوى العالمي، والذي توج بحصوله وفيلمه( طعم الكرز)على جائزة السعفة الذهبية لمهرجان كان/ 1997.. بالإضافة الى عدد من الأفلام منها (وجع الأسنان/80،الرفيق المواطن/ 82، وتنقضي الحياة/92)..لعل ما يميز السينما الإيرانية بالعموم هو الاسلوب الواقعي مع اختلاف المعالجات والرؤى.. وعلى الرغم من إن المخرج (كياروستامي) يدرج ضمن ذات العنوان( السينما الواقعية)، ومع تمسكه بالأطر العامة فانه يقف في زاوية الانزياح عن العديد من تقاليد هذه السينما عبر اختيار [ الموضوعة المطروحة، الحل الحركي (كاميرا، مونتاج، شخوص)،الحل المونتاجي، الحلول السردية، الحل الحجمي( تراتب حجوم اللقطات)، الحل الزمكاني] ..انه يدفعنا الى إطلاق مسمى ( السينما بدرجة الصفر) إن جاز لنا استعارة مصطلح ( رولان بارت) (الكتابة بدرجة الصفر).. ستحملنا الريح..ثيمة الفيلم إن إعادة سرد ثيمة فيلم( ستحملنا الريح) لا تقودنا إلى ذروة الإدراك لطاقة الإدهاش التي يبثها المخرج في ثنايا حواسنا الإدراكية على المستوى السمعي البصري..فهي تدور حول مجموعة من الأشخاص يذهبون الى القرية السوداء (هذا هو اسمها على الرغم من اللون الأبيض الذي يصبغها وهي القرية الجبلية)..لعله إشارة رمزية إلى سواد الصمت وحلكة الرتابة الحياتية التي تمكث في أرواح الساكنين.. يذهب( بهزاد الشخصية الرئيسية) مع كاميرته الفوتوغرافية ومجموعته الى هذه القرية ، ويبلغ الصبي الذي كان بانتظارهم بأنهم قدموا من اجل إيجاد كنز (وهذا هو جزء من التهكم الذي يبثه عادة المخرج في أفلامه )..لكننا نتوصل إلى إن المجموعة قد قدمت من اجل التقاط صور للعجوز بعد وفاتها ..من هي العجوز.. وما هو تأثيرها وأهميتها؟..( لم يقدم لنا الفيلم وجهها..كي يخلق التشويق الذي يعترينا لفك الإسرار والطلاسم السردية) ..كل ما نعرفه من الصبي بان أهل القرية يغدقون عليها الأكل كي تدعي لهم..أنها رحلة اكتشاف في الفيزيقي والميتافيزيقي للحياة ..رحلة غوص في أعماق الروح، العلاقات، إيقاع الحياة المسكونة بالغموض وبالمجهول..لحظات من غواية التلصص المتسائل..وعلى الرغم من ان ( بهزاد ) قد رافقه مجموعة من الأشخاص في رحلته الاستكشافية ومع الملل من الانتظار يغادرون القرية.. من هم ، وكم عددهم، وما هو دورهم؟؟ لم يقدم الفيلم إي توضيح سوى إننا نسمع حواراتهم مع( بهزاد ) دون إن نشاهدهم..حتى رب العائلة( عم الصبي) الذي ضيفهم في بيته لم نره.. ولا نعرف إلا من زوجته انه غادر تاركا زوجته والعديد من الأطفال ، الذين لم نشاهد منهم سوى صبي في المهد يبكي ..إما المحور الدرامي فهو حدث الاتصالات عبر الهاتف النقال التي تستدعي انتقال ( بهزاد ) إلى المناطق العالية من الجبال لضمان اتصال واضح ..وفي كل مرة من الذهاب يحدث الحوار مع حفار قبور.. هو الآخر لا نراه، بل نسمع صوته فقط.. إن هذا التكرار من الصعود والنزول وبالحركة البندولية يحقق توصيل شعور الرتابة والانتظار ويزيد من إيقاع التوتر لدى المتلقي ..لكنه في الجانب الآخر هو أداة ووسيلة الكشف ضمن بندولية المسار السردي .. حيث تقدم لنا اكتشافات( بهزاد) لعالم القرية، ومنها حوارات صاحبة المقهى وضجرها مما تبذله من جهد مقابل تهكم زوجها الجالس.المدرس المعوق لدى صعوده بالسيارة مع ( بهزاد ).. حفار القبور وحواراته.. البحث عن الحليب الذي يقوده إلى احد البيوت وحواره مع صبية تعيش في ظلمة الداخل ويحفزها على الوثوب للحياة من خلال قراءة للقصائد لها.. العديد من الثيم الفرعية غير المترابطة، كما هي الحياة ..انه الترصيع الثيموي وبؤره ومساراته المتنوعة..ويختتم الفيلم بمعرفتنا بموت العجوز غير المرئية وظهور موكب تشييع من نسوة القرية..أخيرا وبعد إن يأخذ ( بهزاد ) عدة لقطات لوجوه النسوة المشيعات ليغادر القرية.. إن منهج الحجب والكشف ضمن ثنائية الإخفاء والإظهار هي جزء من اغواءات لعبة الهدم والبناء السردية للواقع، والتي تضعنا في لعبة التساؤلات والرغبة في كشف الأحجبة عما وراء السرد وما وراء المشاهد البصرية.. يدفعنا المخرج إلى خضم الأسئلة وتراكماتها ..خضم إعادة ثنائية الهدم والبناء..التي مارسها المخرج بكرنفالية من الاغواءات، تلك التي ينصب لنا المخرج شباكها .. الانزياح بين الهدم والبناء سنتناول أهم خصائص هذا الفيلم والتي تكشف أسلوبية المخرج ( كياروستامي ) في غالبية أفلامه كإطار عام لكنها في هذا الفيلم يذهب بها إلى مغامرة الإغواء وإغواء المغامرة بالانزياح المستند إلى ثنائية الهدم والبناء : 1 منذ المشهد الأول وهو متابعة السيارة في حركتها للوصول إلى قرية نسمع حوارات القادمين دون إن نراهم وعلى الرغم من الخاصية الواقعية للقطة الدورة الطويلة ، تلك التي شكلت سمة أسلوبية للواقعية الايطالية ،لكن المخرج يؤسس أولى الميكانزمات التي تشكل كسر عنصر الاندماج وتؤسس لمفهوم التبعيد ، وهو مفهوم من مفاهيم بنيه التغريب البريشتي نسبه إلى المسرحي (بريشت).. وهذه المسافة التبعيدية هي أولى المداخل التي اعتمدها المخرج ، المتمثلة بهدم عنصر الاندماج وتأسيس عنصر الترقب من خلال الحجب والإخفاء للشخصيات القادمة .. وحتى حين يلتقي القادمون مع الصبي الذي ينتظرهم ويصعد معهم يدخل في الحجب والإخفاء إلى إن تصل السيارة قريبا في القرية ويحصل العطل حيث تتحول اللقطة من الأعلى وتتابع نزول ( بهزاد) والصبي وصعودهما في طرق متعرجة إلى بيت مضيفهم عم الصبي ، وهو الأخر لا نراه مطلقا .ومثلما حجب المضيف فقد حجب الشخوص القادمين ماعدا (بهزاد). 2 يقوم المخرج بخلخلة وعينا السينمائي إزاء مجموعة الحلول( الحجمية،الحركية، السردية، المونتاجية ، التكوين..الخ).. تهشيم مستمر لكل التوقعات والذهاب بنا إلى فضاء اغواءاته تحت سلطة الترقب والانتظار على مسافة تبعيدية مقابل التنقيب والنبش والتلصص على الواقع وعلى الكائنات..ولكن وفق فرض سلطة الحجب والإظهار.. انه يمسك بلعبة الإغواء ويديرها بين المركز والهامش.. بين التبعيد والجذب.. إنها لعبة التغريب السمعي البصري..وواحدة من هذه الحلول الحجمية هو توظيفه المفرط للقطات العامة والعامة القريبة والمتوسطة بالإضافة إلى توظيف مونتاج (دورة اللقطة الطويلة) دون قطع،الى جانب المحافظة على عمق المجال.. ..لعل هذه من مزايا أسلوب الواقعية الايطالية.. وبذلك فان بنية أسلوبه هو الاعتماد على البنية المشهدية.. وهو جزء من اغواءات كسر عنصر الاندماج ولعبة الإخفاء وتأسيس التبعيد .. لكنه يبتعد بهذا الى حد بعيد مع مفهوم الأسلوب الواقعي المسمى( الميكرودراماتيك) إلا في مشهد الحوار بين ( بهزاد) وزوجة الرجل الذي ضيفهما في بيته حيث وجه( بهزاد) وهو يحلق ذقنه ..هذه التقنية التي تعتمد على لقطات (الكلوز) وتؤسس الواقعية السايلكوجية ( تلك التي دعى لها المنظر السينمائي جان ميتري).. اما على المستوى الآخر فالمخرج يقيم سلطة المكان من خلال وظائفية اللقطات العامة ودورة اللقطة الطويلة وعمق المجال.. يكشف عن إيقاع الحياة ..إيقاع المكان عبر هذه الحلول الحجمية للقطات.. الابتعاد عن الإضاءة الصناعية والاعتماد على إضاءة الأمكنة والإضاءة الطبيعية، وهذا ما دعا المخرج لان يصور المشاهد نهارا بالأجمال.. وحتى المشهد المظلم بين ( بهزاد) والصبية التي تحلب البقرة قد استعمل الفانوس الغازي، وتخبره الفتاة بأنهم يستخدمون هذا الفانوس في عملهم.. 3 اعتماده على التكرار وعلى المسار البندولي في حركة الكاميرا وخاصة في ثيمة الاتصال التلفوني.. حيث تشكل المحور الأكثر مساحة وعبر دورة اللقطة الطويلة.. ففي كل مرة يرن الهاتف النقال يذهب مسرعا الى المناطق المرتفعة لتحقيق اتصال واضح لكنه ينحرف بعدها إلى مشاهد الحوار مع حفار القبور الذي لا نراه بل نسمع صوته.. ثم يعود الى القرية.. تخلق هذه المشاهد عناصر الترقب والدمج لكنه يعود ليهشمها بالثيم الثانوية التي تحرف حواسنا وتبطئ من إيقاع الترقب.. ثم تعيد التشويق المنحرف باتجاه معرفة ورؤية حفار القبر دون جدوى.. أنها جزء من اغواءاته وجزء من إيقاع التكرار ..جزء من الهدم البناء، والاندماج كسر عناصر الاندماج. 4 يضخ المخرج( كياروستامي) كم من الثيم والأفكار الفلسفية بطرق متعددة.. فلسفة التهكم عبر الحوار..فلسفة التأمل إزاء مكونات المكان وسلطته ، التأمل في الطبيعة ( مشاهد من كائنات الطبيعة في حركتها مثل الخنفساء ،السلحفاة، قطيع الماشية )، تأمل العلاقات الإنسانية وحوارات سكان القرية وعلاقاتهم وتقاليدهم..فلسفة الميثيلوجيا ودورها في العلاقات وسلطتها الحياتية، كما هو الحال مع عجوز القرية .. فلسفة الموت والحياة وخاصة في الحوارات مع حفار القبر ورمي العظم الذي حمله من المقبرة في النهر ومراقبته..الحوارات التي تضمنت قراءة القصائد مع الصبية أثناء حلب البقرة.. الحوارات مع الصبي وخاصة تلك التي تدور حول أسئلة الامتحانات والتي تشمل الجانب الديني.. ولعل أهم الثيم الفلسفية تلك التي تمتلك مرجعيتها من الفلسفة (المانوية) التي تعيد تشكيل الكون والحياة من خلال الثنائيات وتضاداتها، وهكذا نرى كمية الثنائيات التي يطلقها المخرج في أفلامه ومنها ثنائية الهدم والبناء .. ولعل أساسيات توليف ثنائية الهدم والبناء تتجسد في تهديم(كياروستامي) للقيم الجمالية الفيلمية السائدة وخاصة في جماليات السرد،جماليات التكوين،حركة الكاميرا، حركة الموضوع، المونتاج، الإيقاع، سلطة المكان..انه يعيد افلمة قيمه الجمالية بمنطق الانزياح.. 5- يترك المخرج مساحة للارتجال والصدفة..فالحوارات تبنى في الغالب انياً ويترك للحوارات المرتجلة مساحة..يحدث هذا الارتجال أيضا من خلال ترك مساحة للمكان وحركته الحياتية.. وهذا ما نراه في حركة المواشي والتركيز عليها للقطع عن حركة السيارة.. كذلك مشاهد السلحفاة والخنفساء ومطاردة الكلاب للسيارة ومعارك الكلاب فيما بينها..وقد استخدم المخرج العديد من اهالي القرية كشخوص فيلمية .. هذه مقتربات من أساليب السينما الوثائقية والمباشرة والواقعية الفرنسية الجديدة والواقعية الايطالية.. إن ما يقدمه المخرج من مزج اسلوبي متنوع هو جزء من رغبة الإغواء بالهدم والبناء.. مضافا الى المرتكزات الأخرى من ميكانزمات الهدم والبناء وأنماطها في بنية الفيلم هذا أو كبنية أسلوبية عامة وسمت المخرج وأفلامه.. ..مثلما يخلق ويؤسس (كياروستامي ) اللامعيارية عبر التهديم لكل السياقات في الاخراج والتصوير والمونتاج والتكوين..الخ، فانه يخلق اللامعيارية الفكرية.. اللامعيارية ازاء السائد والتقليدي الحياتي والقيمي الأخلاقي والقيمي الفكري..اللامعيارية الجمالية، اللامعيارية الأسلوبية، حيث إن المخرج يؤسس لواقعيته هو، ولجمالياتها وشعريتها ،على الرغم من توظيفه لبعض تقنيات وأساليب سبقته مثل دورة اللقطة الطويلة والمونتاج داخل اللقطة واللقطة المشهد.. وتأتي آلية الحجب والإظهار كثنائية لامعيارية ،خاصة في مشاهد الحوار حيث يظهر طرف واحد على الشاشة ،أما الطرف الآخر فهو مسموع لكنه محجوب عن الشاشة..إنها اغواءات هذا المخرج وصدماته التي تزجنا في أتون رؤية مغايرة للحياة ومتشكلاتها ..تزجنا كممارسة إدراكية مغايرة على المستوى الثيموي والجمالي.. كرنفال من الهدم والبناء وممارسة ما أطلقنا عليه ( السينما بدرجة الصفر).. أوروك علي ''الفوانيس السينمائية'' نرجو التفضل بذكر المصدر عند الاستفادة