ربما كانت عبارة المخرج الراحل "رضوان الكاشف" التي قالها في لحظة من لحظات اليأس و الحسرة على هذا الوطن- مع تحفظي على كلمة وطن- و ما يدور فيه من احلالات و ابدالات و انقلابات معيارية و قيمية تكاد تكون عبثية- منافية للعقل و المنطق- هي الهاجس الرئيس و الشاغل الأساسي الذي ظل يجول مترددا داخل ذهني طوال مدة مشاهدتي لفيلم "قص و لصق" لمخرجته "هالة خليل". هل ثمة من يذكر تلك العبارة القاسية، المؤلمة، الصادقة إلى حد السادية؟ تلك العبارة التي أحفظها عن ظهر قلب منذ قرأتها لأول مرة؛ حتى أنني وجدت نفسي أرددها هامسا أثناء مشاهدتي للفيلم و كأني أقول مع "رضوان الكاشف" (الشعور الجارح المدمي الذي سيطر عليّ و على جيل بالكامل، شعورنا بأن الوطن الذي عرفناه قد أبدل، و بات يعادي ذاكرته و يخوض معركة هائلة و مدمرة معها... شعور بأن الوطن الذي عرفناه ينفلت من نفسه و من منظومة قيمه الاجتماعية و الأخلاقية و الثقافية و الجمالية ليصبح على مقاس حلم شائه وقبيح ووقح وغبي) . هل لم يزل هناك من يذكر هذا القول لهذا المخرج الذي مات حسرة على هذا الوطن؟ أم أن ذاكرتنا- التي تنسى دائما- سرعان ما أسقطت هذه الكلمات لتذهب أدراج الرياح؛ لأننا نحب دوما الحياة بلا ذاكرة وكأنه ليس في الامكان أفضل مما كان؟ علّ هذه الكلمات و ما يغلفها من حالة شجن وحزن ويأس قد امتلكتني حتى سيطرت عليّ طوال مدة مشاهدتي للفيلم الذي كتبته المخرجة "هالة خليل" ببراعة و تركيز شديدين، و من ثم استطاعت من خلال السيناريو الذي قدمته عرض مجموعة من النماذج الحياتية الحية لمجموعة من الشباب الذين يتمسكون بأهداب أحلامهم- محاولين الإيمان بها وبحقهم المشروع في الحلم- على الرغم من تداعي كل أسباب الأمل سواء على المستوى الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي، ولكنهم يحاولون الحياة كل يوم على أمل حدوث معجزة تغير ما يدور حولهم من خراب متفشي؛ فتنقذهم مما هم فيه. ولذلك لم نندهش كثيرا حينما رأينا أن أقصى طموحات أحد الشباب في مقتبل العمر "سامي"(فتحي عبد الوهاب) هو (دش ونسوان وسيجارتين حشيش)، فأن يتحول المستقبل والأحلام والوطن إلى هذه الأمور الثلاثة فقط لهو خير دليل على انهيار هذا الوطن الذي أدى إلى انهيار كل آمال أولاده ووصولها إلى مثل هذا الدرك؛ و لذلك نرى "سامي"(فتحي عبد الوهاب) يستقل المترو مع صديقه "يوسف"(شريف منير) و من ثم يصر على إشعال سيجارة حشيش داخل المترو؛ نظرا لتأخر الوقت ليلا وعدم وجود شخص ثالث معهما داخل العربة، بالإضافة إلى رغبته في نسيان كل ما يدور حوله، كما نراه يقول "ليوسف"(شريف منير) مدللا على أهمية تلك الحياة الممثلة في (الدش والنسوان وسيجارتين الحشيش) (أهو أنا ساعتها أخاف لأموت وأنحرم من النعيم دا كله)، أعتقد أنه بالفعل حينما تتحول الأحلام إلى هذه الأمور الثلاثة فقط ستكون أفضل من النعيم ذاته بالنسبة لصاحبها. ولذلك أيضا انتبهت بكامل حواسي حينما صدمت أذني عبارة "يوسف"(شريف منير) حينما قال "لسامي"(فتحي عبد الوهاب) متسائلا (تفتكر البلد دي معندهاش حاجة تديها لنا، ولا إحنا اللي مش عارفين ناخد منها حاجة؟) تلك العبارة القاسية في صدقها التي جعلتني أهمس لنفسي (وهي دي بلد؟) إلا أن العبارة التالية كانت أكثر كارثية حينما قال (لو العيب فينا يبقى البلد مالهاش ذنب، إنما لو العيب في البلد دي يبقى من حقنا نشوف لنا بلد تانية)، فلقد كانت العبارة بقدر ما هي شديدة القسوة و اللانتماء إلا أنها بالفعل موغلة في الصدق والواقعية نظرا لأنها باتت تشغل تفكير قطاع كبير وضخم من أبناء هذا الجيل سواء كانوا مثقفين أو غير ذلك. وهنا لا بد من طرح تساؤل هام وجوهري نراه يفرض نفسه علينا فرضا وهو، ما هو الوطن؟ هل هو مجموعة الهضاب والمرتفعات والشوارع والأزقة التي ولدت وعشت فيها؟ أم هو المكان الذي يحفظ لي إنسانيتي ولا تهان فيه كرامتي؟ أعتقد أن تعريف الوطن الحقيقي هو المعنى الثاني؛ و من ثم إذا لم يكن هذا المعنى الثاني متوفرا لي حيث أمكث فهذا المكان ليس بوطن حقيقي، وبالتالي سأفقد تجاهه أي قدر من الانتماء، وفي هذه الحالة لن يكون أمامي سوى أمر واحد فقط يشغل حيز تفكيري حتى يسيطر عليّ تماما، و من ثم يحركني وكأنني مجرد آلة لا تعمل إلا لتحقيق هذا الهدف الجوهري، ألا وهو هدف الهجرة من هذا الشئ المهان المسمى وطنا إلى جغرافية أخرى أستطيع الحياة فيها بكرامة، محققا أقل ما يمكن تحقيقه من آمال بعد أن انتفت إمكانية تحقيق أي شئ ولو بنسبة واحد في المائة داخل أوطاننا التي تصرّ على قتل كل ما يمكن التفكير فيه داخلنا، حتى ولو كان مجرد الحياة. و من هذا المنطق- غير الشاذ- لم يكن غريبا علينا رؤية "جميلة"(حنان ترك) تلك الفتاة التي هي في مقتبل العمر و بالرغم من ذلك لا يشغل حيز تفكيرها سوى هاجس الهجرة إلى نيوزيلندا؛ و بالتالي فكل فعل تأتي به لا يصب سوى في هذا الاتجاه- وكأن هاجس الهجرة هو المحرك الأساس الذي يجعلها باقية على قيد الحياة-، و لذلك نراها تحاول البقاء حية من خلال عمل غريب شيئا ما حيث تبيع كل شئ وتشتري كل شئ من خلال الإعلانات التي تراها هنا و هناك؛ فتذهب إلى من يرغب في البيع وتتفق معه على السعر ثم تذهب إلى شخص آخر لتبيعه ما سبق أن اتفقت عليه مع الآخر من أجل شرائه و من ثم تستفيد هي بالفارق في النهاية، أي أنها مجرد وسيط، كما نعرف أنها ضيعت ثلاث سنوات من عمرها لاهثة خلف حلم الهجرة حيث ملأت استمارات التقدم لذلك و التي تعتمد على نظام النقاط لكل بند من بنودها، إلا أنها بمضي الوقت تتعدى الثلاثين من عمرها و بالتالي تخسر ثلاث نقاط؛ فيشير عليها المحامي الذي يتولى أوراقها بالزواج كي تكسب ثلاث نقاط أخرى ويصير عدد نقاطها ثلاثة وعشرين نقطة، وهذا هو رقم النقاط المطلوب الذي يؤهلها لقبول طلب الهجرة. كما تحرص المخرجة "هالة خليل" على تقديم العديد من الشخصيات الأخرى من الشباب الذي وصلت به أزمته إلى درجة رؤية أحد هؤلاء الشباب- كي يستطيع التغلب على مصاعب الحياة وعدم وجود أمل في العمل أو فعل أي شئ- إلى شراء إحدى شقق المدن الجديدة التي تم بناؤها خصيصا من أجل الشباب المأزوم و بالرغم من ذلك نراها شاغرة دائما نتيجة لأن قسطها كما قال "سامي"(فتحي عبد الوهاب) لصديقه "يوسف"(شريف منير) (ألف جنيه في الشهر غير المقدم، يعني ممكن يوصل سعرها لميت ألف جنيه... عشان كدا الشقق دي كلها فاضية). نقول أن أحد هؤلاء الشباب كي يتغلب على أزمته يشتري إحدى هذه الشقق كي يجعل منها مكانا لتجمع العديد من الشباب الآخرين- المأزومين كأزمته- والفاقدين الأمل في أي شئ من أجل مشاهدة أفلام البورنو وتدخين الحشيش، وبذلك فهو يتكسب بدلا من جلوسه في بيته، وفي ذات الوقت يحاول حل أزمات ومشاكل غيره من الشباب من وجهة نظره. ومن خلال هذه اللعبة البديعة التي تمارسها "هالة خليل" ببراعة و متعة قصوى- لعبة القص واللصق- نراها تعرض لنا العديد من الحيوات المختلفة و المتشظية- التي نراها في الكثير من المواقف لا علاقة لها ببعضها البعض وكأنها مجموعة من الجزر المنعزلة- ولكنها سرعان ما تقارب بينها بطريقة اللصق لتصير ذات صلة وثيقة كي تعرض لنا في النهاية رؤية كلية وعالما مكتملا لوطن يتشظى وجيل يموت بموت هذا الوطن. وهنا نرى "يوسف"(شريف منير) الحاصل على بكالوريوس وبالرغم من ذلك لا يستطيع إيجاد عمل له يحفظ له كرامته وحقه في الحياة؛ فيضطر إلى العمل في تركيب أطباق الستالايت كحل مؤقت لمحاولة الحياة؛ فهو لا يمتلك سوى السيارة التي ورثها عن والده، كما يشارك أخيه "يحيي"(أشرف سرحان) في سكن الشقة التي تركها لهما الوالد، إلا أن تلك الإقامة والمشاركة في سكنى الشقة تعد حجر عثرة ضخم في وجه الأخ الأكبر "يحيي"(أشرف سرحان) الذي يرفض والد خطيبته إتمام زواجهما فيها مبررا ذلك بقوله (أخوك راجل... مين يرضى بوضع زي دا؟) و بالتالي تتوقف عملية الزواج إلى أجل غير مسمى نتيجة لأن "يحيي"(أشرف سرحان) مجرد موظف بسيط لا يكفيه راتبه، فكيف له الحصول على شقة أخرى؟ وهو في ذات الوقت لا يستطيع التخلي عن شقيقه الأصغر أو طرده من الشقة كي يتزوج هو فيها و من ثم نراه يدخل عزلته فيظهر لنا دائما بائسا ملازما لحجرته، غير قادر على إيجاد حل، بل ويكاد يصرف نظره عن تلك الزيجة، و لعل (أشرف سرحان) قد برع كثيرا في أداء هذه الدور بالرغم من كونه أول أدواره السينمائية، إلا أنه نجح في إيصال مشاعر وصورة الشاب المحطم نفسيا الذي استسلم لإحباطه، و لكنه بالرغم من ذلك نراه صابرا على ما يدور حوله ممارسا حياته بسأم و كأنها لا تخصه؛ لأنه ليس بامكانه فعل شئء إزاء ما يدور حوله من خراب على كافة المستويات. هذا الخراب الذي يجعل جارهم "سامي"(فتحي عبد الوهاب)- الحاصل على شهادة عليا كذلك- يتقدم كل يوم لوظيفة جديدة و بالرغم من ذلك لا يتلقى سوى الرد المعهود( سيب اسمك وعنوانك) و سنعاود الاتصال بك؛ مما حدا به إلى محاولة التغيب الدائم إما من خلال تدخين الحشيش لنسيان كل شئ، أو بمشاهدة أفلام البورنو التي تعوضه عدم قدرته على ممارسة حاجاته الجنسية- فمن أين له الزواج أو حتى مرافقة فتاة؟-. كما نرى "زينب"(مروة مهران) صديقة "جميلة"(حنان ترك) تلك الفتاة التي تركت حياتها في الريف من أجل التعليم ثم قررت الاستقرار في المدينة، فنراها تعمل في إحدى عربات "التيك أواي" المتحركة، كما نعرف أن هاجسها الوحيد هو الزواج قبل الوصول إلى سن العنوسة، و من ثم الاستقرار والأمان في كنف رفيق يشاركها حياتها؛ ولذا نراها دائما حائرة ضائعة بسبب تلاعب أحد الشباب بها الذي يفارقها إلى غير رجعة حينما تصارحه برغبتها في الزواج منه، ولعل السبب في ذلك راجع إلى أسلوب التربية الخاطئ الذي نشأت عليه و الذي جعل قول أمها( إحنا ماعندناش حب... الحب دا عند بنات مصر.. إنما إحنا بتوع جواز وبس) يرسخ داخل ذهنها و بالتالي تتحول لديها أية علاقة بالرجل إلى مجرد مشروع زواج، أما ما يخص المشاعر الجميلة فهو منتفي تماما، في حين أنها لو ارتبطت ارتباطا عاطفيا بأحد الشباب سيكون ذلك سبيلا قويا فيما بعد للارتباط بالزواج. وإمعانا في تقديم الصورة القاسية للواقع الذي نحياه نرى "ثريا"(حنان مطاوع) جارة "جميلة"(حنان ترك) فتاة في مقتبل العمر أيضا تتعامل مع صغيريها بعنف شديد و قسوة غير مألوفة فتضربهما ضربا مبرحا، وحينما تحاول "جميلة"(حنان ترك) تهدئتها نراها تصاب بحالة هستيرية من البكاء، وهنا نعرف أن زوجها قد سافر منذ ثماني سنوات إلى إحدى الدول للعمل هناك و من ثم توفير/اكتناز المال كحل لما يحدث داخل الوطن- البخيل في عطائه على جميع الشرفاء- إلا أن هذا الحل أدى بالزوجة/ثريا إلى عدم رؤية زوجها طوال هذه السنوات الثمانية سوى عشر مرات فقط نتيجة لأنه (بيوفر تذاكر الطيارة... الله يلعن أبو الفلوس لأبو اللي طبعها) كما تقول هي، مما أشعرها بالوحدة الشديدة، بالإضافة- وهذا هو الأهم- إلى حاجتها الجنسية القصوى له والتي أدت بها إلى مثل هذه العصبية في التعامل مع أولادها؛ فنراها تصرخ في وجه "جميلة"(حنان ترك) (لازم يبقى فيه راجل في البيت) كما تقول أنها في حاجة ماسة إليه لتسألها –أي جميلة-( هو جوزي برضه ومافيهاش حاجة لما أقوله...مش كدا؟) و لعل هذا الحرمان الطويل والجوع الشديد لزوجها- الذي كان سببه محاولة التغلب على الظروف الاقتصادية السيئة- هو ما أدى بها في نهاية الأمر إلى السقوط بالبحث عن رفيق يحاول تعويضها ومن ثم إشباعها من الناحية العاطفية والجنسية كبديل للزوج المفتقد. كل هذه الشخصيات المهزومة على المستوى النفسي والاجتماعي بل والاقتصادي تقدمها لنا المخرجة "هالة خليل" بشكل فيه الكثير من الانسيابية و القسوة الواقعية، ساعدها في ذلك السيناريو المحكم الذي كتبته ببراعة و المونتاج المتسق الذي كان عاملا مهما من عوامل نجاح الفيلم والذي قام به المونتير "خالد مرعي"، إلا أن السؤال الذي لابد أن تطرحه على نفسك حين مشاهدتك لهذا الفيلم هو، ما هي العلاقة بين جميع هذه الشخصيات المنفرطة و التي تشعرك بأن كل منها مجرد عالم متكامل وخاص ولا علاقة له بالآخر؟ لعل الإجابة على هذا التساؤل الهام تكمن في العنوان الذي صدرت به "هالة خليل" فيلمها "قص ولصق"، و تلك اللعبة اللذيذة المولعة بلعبها كما سبق أن قلنا منذ قليل؛ فلقد استطاعت "هالة" ممارسة لعبتها المفضلة ببراعة تحسد عليها، ففي حين رأينا كل شخصية من هذه الشخصيات منفردة، رأينا كذلك محاولات التقارب و من ثم التضفير والارتباط بينها حتى صارت عوالمهم المنفصلة عالما واحدا تقريبا يرتبط ببعضه البعض. ولذلك نرى "يوسف"(شريف منير) الذي يعمل في تركيب أطباق الستالايت يتقابل مع "جميلة"(حنان ترك) بالمصادفة في شقة السيدة التي تمتلك آلة الهارب الموسيقية والراغبة في بيعها، ففي حين ذهب "يوسف" هناك لتركيب طبق الستالايت لهذه السيدة، نرى "جميلة" قد ذهبت أيضا لتشتري تلك الآلة- الهارب- من السيدة بعد قراءتها للإعلان في الجريدة، ولأنه –يوسف- يوصلها بسيارته حيث تشاء، تطلب منه فيما بعد الذهاب معها إلى أحد العملاء الذين تعرفهم لأنه في حاجة إلى إصلاح الستالايت الخاص به، و من ثم لا تجد "جميلة"(حنان ترك) من حل للخروج من مشكلة ضياع الهجرة سوى عرض الزواج على "يوسف"(شريف منير) بشرط أن يكون مجرد زواجا صوريا- على الورق فقط- كي تكسب النقاط الثلاث التي ستؤهلها لقبول طلب الهجرة، و بالتالي نجده يوافق على الأمر نظرا لحاجته هو الآخر إلى الهجرة معها وإيجاد سبيل لحياة أكثر كرامة بالإضافة إلى رغبته في ترك الشقة لأخيه "يحيي"(أشرف سرحان) الذي ضاع الأمل في زواجه نتيجة مكوثه معه في الشقة. بمثل هذا التضفير بين الشخصيات ينتابنا الأمل باقتراب حل مشاكل هؤلاء الأشخاص، إلا أن والدة "جميلة"- سوسن بدر- ترفض كتب الكتاب إلا بعد تقديم شبكة وإيجاد شقة للزواج مما يضطر "جميلة"(حنان ترك) إلى سحب مدخراتها وتقديمها "ليوسف"(شريف منير) كي يشتري بها الشبكة التي تطالبه بها والدتها، ومحاولة إقناعها بأنهما سيبحثان عن الشقة فيما بعد كتب الكتاب، إلا أن الأم تصر كذلك على عدم إتمام كتب الكتاب إلا بعد إقامة عرس في أحد الفنادق الكبرى كي تفرح بابنتها؛ و لأن "يوسف" يعمل لمدة عدة أيام فقط- عمل مؤقت ومحدد المدة- في أحد الفنادق التي تقيم حفل زفاف جماعي فانه يخبر رئيسه في العمل الذي يقيم له حفل الزفاف مجانيا كهدية من الفندق، و لكن الأم- سوسن بدر- حينما تفاجأ وقت العرس بحقيقة الأمر تغضب غضبا شديدا وتترك العرس ومن ثم تسرع إلى المنزل غاضبة كي تجمع أشياء ابنتها فتفاجأ بأن ابنتها قد فعلت كل ذلك من أجل الهجرة حينما تعثر على أوراق طلب الهجرة، وبالتالي نراها تطردها من الشقة طالبة منها الذهاب مع زوجها، وهنا تتعقد الأمور أكثر مما كانت عليه؛ فبدلا من ترك "يوسف" الشقة لأخيه "يحيي" يضطر للإقامة فيها مع زوجته، كما أن المحامي الذي يتولى أوراق هجرتها يخبرها بأن الأمر في حاجة إلى المزيد من الوقت، كما أن "يوسف" لا يمتلك وظيفة للإنفاق عليهما. كما نرى "سامي"(فتحي عبد الوهاب) صديق "يوسف" يتعرف أثناء زفاف صديقه على "زينب"(مروة مهران) ومن ثم يربط بينهما الحب إلا أن كل منهما لا يمتلك شيئا ولا أملا في أي شئ؛ "فزينب" يتم طردها من عملها لكثرة تغيبها، و "سامي" لا يمتلك مصروف يومه كي ينفقه على نفسه. وبالتالي ينتهي الفيلم على مشهد "يوسف"(شريف منير) الذي يمارس الحب لأول مرة مع زوجته "جميلة"(حنان ترك) ومن ثم يتحول زواجهما الصوري إلى زواج حقيقي بينما نرى من خلال القطع المونتاجي/المتوازي cross cutting "سامي"(فتحي عبد الوهاب) يمارس عشقه في ذات الوقت مع "زينب"(مروة مهران) داخل عربة التيك أواي المتحركة في الشارع و التي كانت قد دخلتها لجمع متعلقاتها بعد طردها من العمل. ولعل مشهد النهاية البديع الذي قدمته المخرجة "هالة خليل" يجعلنا نتساءل كثيرا، ما هذا الذي حدث؟ وما هذه النهاية المفاجئة التي جاءت كقطع cut فجائي لأحداث الفيلم دون أن نرى أي تطور أو تقدم أو بادرة أمل لأي من هؤلاء الشباب؟ بالفعل، ربما تشعر أن النهاية جاءت مفاجئة و سريعة، بل وغير منتظرة، و بالتالي ينتابنا شعور ما بأن "هالة خليل" قد ظلت تستدرجنا طوال الفيلم وتخدعنا حتى وقعنا في شركها ثم لم تلبث أن تركتنا تائهين وسط خضم هذا الظلام اللانهائي المحيط بهؤلاء الشباب، و لكن السؤال الذي لابد من طرحه هنا هو، هل الفن ملزم بتقديم الحلول؟ وهل كان مطلوبا من "هالة خليل" كمخرجة و سيناريست أن تقدم حلولا لهؤلاء الشباب؟ وإذا ما قامت بذلك وتم تقديم تلك الحلول، هل كنا سنصدقها كمشاهدين؟ أعتقد أن الإجابة الواقعية على مثل هذا السؤال هي النفي؛ فالفن ليس له وظيفة أخلاقية أو اجتماعية أو ما إلى ذلك، كما أنه ليس مطالبا بتقديم الحلول، ويكفي "هالة خليل" أنها قامت بعرض مجموعة من النماذج للعديد من الشباب المأزوم كي نتأملها كمشاهدين، كما أنها لو كانت قد قدمت أي حل لهذه الأزمات لكانت قد وقعت في عدم المصداقية لما يدور في الواقع البائس و بالتالي ينتفي تواصل المشاهد مع فيلمها؛ لأن تقديم أي حل في مثل هذه الحالة، و مع تلك الظروف القاسية المظلمة التي تم عرضها داخل السياق الفيلمي سيكون غير منطقي ومتناقضا مع الواقع الذي نعيشه و نعرفه جيدا، و بالتالي سيؤدي إلى إسقاط الفيلم في إطار المباشرة والعمدية و السنتمنتالية. كما أن انتهاء الفيلم بهذا الشكل دليل قاس ورغبة عارمة من المخرجة "هالة خليل" في توجيه رسالة هامة وإدانة تقول فيها (أن الواقع شديد البؤس والقسوة تجاه هذا الجيل و بالرغم من المحاولات المستميتة التي يحاولونها من أجل تغييره إلا أن الأمور ستظل على ما هي عليه إن لم تتجه أكثر نحو التعقيد). فلا "جميلة" ، و"يوسف" نجحا في الهجرة أو البحث عن عمل، ولا "يحيي" استطاع الزواج من خطيبته، ولا "سامي" وجد عملا أو تزوج من "زينب" ، ولا هي وجدت الزواج والاستقرار المأمول، حتى "ثريا" لم يعد لها زوجها وسقطت بالبحث عن صدر رجل آخر يحتويها- ربما حتى يعود زوجها-. ولكن ربما كانت الملاحظة الوحيدة على فيلم "قص ولصق" لمخرجته "هالة خليل" هي أن حكاية "ثريا"(حنان مطاوع)- بالرغم من نجاح حنان مطاوع تقديم دورها ببراعة وصدق أدى إلى تعاطفنا كثيرا معها- نقول أن هذه الحكاية قد ظهرت كنتوء داخل السيناريو و من ثم لم يكن لها من مبرر أو داع؛ فهي لم تضف الكثير إلى أحداث الفيلم؛ نظرا لأن الحكايات الأخرى قد نجحت المخرجة في تضفيرها وربطها ببعضها البعض، بينما ظلت هذه الحكاية وكأنها فيلما مستقلا- داخل الفيلم الأصلي- لا علاقة لها بالفيلم، وبالتالي أدت إلى إثقال السيناريو ببعض المشاهد التي كانت من قبيل الثرثرة، على الرغم من علمنا التام أن "هالة خليل" كانت تقصد من هذه الحكاية تقديم نموذج آخر له علاقة، بل وثيق الصلة بالموضوع الرئيس، إلا أنها للأسف لم تنجح في ربط هذه الحكاية بالفيلم وبالتالي كانت زائدة عن الحاجة ولا داع لها داخل السياق الفيلمي لأن صناعة فن السينما لا يكون بالنوايا الحسنة. ولكن لا يسعنا في نهاية الأمر سوى تحية مخرجة جيدة قدمت لنا من قبل فيلما جميلا- أحلى الأوقات2005 – تريد أن تثبت لنا اليوم أنها ليست مخرجة من قبيل الصدفة، كما نتوجه بتحية أخرى لجميع الممثلين داخل هذا العمل البديع خاصة الفنان (أشرف سرحان) في أول أدوراه السينمائية، و (مروة مهران) اللذين أديا دوريهما ببراعة غير منتظرة حتى أنهما لفتا أنظارنا اليهما كثيرا مع الفنان الصادق الموهوب موهبة حقيقية- الذي يشعرك دائما بأنه لا يمثل بل يحيا حياة طبيعية- (فتحي عبد الوهاب)، و القدير (شريف منير). ولكننا بالتأكيد لابد سنشعر بالكثير من الحزن العميق حينما نرى الأداء البارع والحيوي للفنانة (حنان ترك) التي فقدتها السينما المصرية كثيرا بقرار اعتزالها الفجائي. محمود الغيطاني الفوانيس السينمائية