منذ سنوات بعيدة وأنا أتابع الأنشطة السينمائية للمخرج جمال أمين الذي بدأ حياته الفنية ممثلا شارك في عدة أفلام من بينها "بيوت في ذلك الزقاق" ومسلسلات تلفزيونية أبرزها"الذئب وعيون المدينة" وأخرج برامج تلفزيونية ,وعندما كان مقيما في الكويت خلال الثمانينيات أتيحت لي فرصة المشاركة معه في عملين مسرحيين موجهين للأطفال كتبت لهما كلمات الأغاني , ومنذ ذلك الحين وأنا أعرف دقته في العمل وحرصه عليه وجديته , وحين وصل الدنمارك في منتصف التسعينيات وضع نصب عينيه هدف إكمال مشروعه السينمائي بل صناعة سينما عراقية في الخارج على حسابه الخاص كما يفعل المخرج هادي ماهود وآخرون .
في فيلمه الجديد التسجيلي-الروائي القصير "فايروس" يلامس الواقع العراقي من خلال حكاية خمسة أصدقاء عراقيين يقيمون في الدنمارك : فرقد،محمد , مصطفى، وجليل، وجيّا الكردي إجتمعوا في مدينة أودنسة ليذهبوا في رحلة بالميكروباص متوجهين الى مدينة أورهوس وكعادة العراقيين حين يجتمعون فإن أحاديثم تدور حول أوضاع العراق حيث تبدأ بطرفة وتنتهي بخصومة , الطرفة يرويها (فرقد ) أكثر الشخصيات حيوية وطلاقة ولهذه الطرفة دلالة في سياق الأحداث فالحمار الذي التقى القرد المتذمر يسر للقرد خشيته من أن يمسخهما الله. فيرد عليه القرد " ماذا يمكن أن يمسخنا الله وأنا قرد وأنت حمار! " ؟ هذا السؤال ينطوي على أبعاد فهو يعبر عن حالة من القنوط واليأس التي تسيطر على شخصيات الفيلم الهاربين من أزماتهم الشخصية ليقضوا وقتا ممتعا لكن ازمات البلد تبقى تلاحقهم في سياحتهم الصغيرة داخل المكان الجديد و في نقاشاتهم يتطرقون الى أمور صغيرة لكنها تبين إختلاف الأمزجة والولاءات فجيا الكردي يدخن سجائر المارلبورو الأمريكية ومصطفى يدخن سجائر سومر العراقية وتتصاعد نبرة النقاش حين يؤكد " جيا " بأن لغته ليست عربية وإن الأكراد أمة متكاملة لها علم مرفوع الى جانب العلم العراقي غير أن العلم الكردي أعلى من العلم العراقي بقليل! وهذا ما يزعج البقية لكن إصرار مصطفى على تشغيل الشريط الحسيني من جديد بعد أن أصغى في بداية الرحلة لنداءاتهم بتبديله كان القشة التي قصمت ظهر الرحلة ليصل الجميع الى القطيعة ويظهر, على نحو رمزي , "الفايروس " الذي أحدث كل هذه الفوضى وذاك الشتات وجعل العراقيين يهيمون على وجوههم في المعمورة !! فيترك ثلاثة أشخاص منهم الميكروباص،يتقدمهم (فرقد ) (الشيعي) من أم (سنية) ورغم أن أمثالنا تؤكد أن "الإختلاف في الرأي لا يفسد في الود قضية " لكن حبال الود تتقطع فجأة فيفسد الإختلاف أمزجتهم ويقطعون الرحلة –يبتاع أحدهم الآيس كريم من (سوبرماركت ) في الطريق دلالة على السعي لكسر سخونة الأجواء المتوترة التي سادت - ثم يستقلون سيارة " سادات " اللا جئ الأوغندي للوصول الى أقرب محطة قطار ليعودوا الى أودنسة متخلين عن حلم السفر الى أورهوس وفي الطريق يشاهدون سيارة أصدقائهم عاطلة على قارعة الطريق وتبلغ الاحداث ذروتها حين ينزلون من سيارة "سادات" ليشاركوا أصدقاءهم دفع سيارتهم العاطلة فيتهادى صوت المطرب فؤاد سالم وهو يغني قصيدة الشاعر بدر شاكر السياب: " صوتٌ تفجّر في قرارة نفسي الثكلى: عراق كالمد يصعدُ كالسحابة كالدموع الى العيون الموج يصرخ بي عراق والريحُ تعْوِل بي عراق عراق ليس سوى عراق" في إشارة رمزية الى توحيد الهدف وتجاوز الخلافات خصوصا إن الخمسة يمثلون شرائح مختلفة من المجتمع العراقي لتتلخص أطروحة الفيلم في أختلف معك لكن لا الغيك والكل يجب أن يقبل الاخر ويقوم بدفع عجلة العراق الى الامام كما يؤكد المخرج جمال أمين الذي جمع شبابا لم يسبق لهم التمثيل وناقش معهم في بيته أمورا شتى حتى تبلورت فكرة الفيلم. لقد عمد المخرج الى ترتيب جلوس الشخوص في المايكروباص بشكل دلالي وإشاري فجيا الكردي وضعه في المقدمة وفي الوسط فرقد ومحمد (السني) وفي الأخير يجلس جليل (الشيعي) في إشارة ذكية للتوزيع الجغرافي للسكان في العراق ويحمل الترتيب دلالة سياسية أيضا فقد جعل الذي يقود الميكروباص مصطفى (الشيعي) وخلفه مباشرة يجلس جيا (الكردي) - لإعطاء الفيلم شحنة رمزية لكنه إفتقر الى وجود العنصر النسوي الذي لايمكن إغفاله في فيلم يتحدث عن شرائح من المجتمع العراقي ووجود هذا العنصر له مساحة جمالية ودلالية وكان سيضفي له الكثير وكذلك لم يكن في الباص مسيحيا ليمثل هذه الشريحة الواسعة والواضح إن إنتاجية الفيلم المحدودة , وهو إنتاج شخصي , أملت على المخرج هذا الإغفال . والملاحظ إن معظم المشاهد صورت داخل الميكروباص وهذا يعني للمشتغلين في الحقل السينمائي صعوبة حركة الكاميرا لضيق المساحة ومحدودية المكان لكن الإنتقالات السريعة ووضع فواصل سمعية من خلال تبديل شريط جهاز التسجيل وبصرية من خلال أخذ لقطات للشارع وللاشجار التي تحف به ساهمت في طرد الرتابة والملل حيث يبرز هنا عامل الخبرة والحرفية للمخرج الذي أضاف لسجله السينمائي فيلما جميلا . عبدالرزاق الربيعي- مسقط