للصورة سحرها المهمين في عالمنا اليوم وابرز تجليات الصورة تكمن في عالم السينما الأخاذ ، الذي وصل حدا من الإبهار وكأنه اختزل العالم في صورة أو العالم يشاهد نفسه في هذه الصورة كما يقول الناقد السينمائي العراقي ( احمد ثامر جهاد)، فعالم الصورة يقول المخرج بازوليني ( هو عالم الواقع ، بينما الكلام هو رمز الواقع ). تكشف هذه المقولة عن القدرة التي تتيحها السينما للانشباك بالواقع باعتبار إن الخاصية الجوهرية للسينما تكمن في إطار أهدافها في نقل الواقع أو الإيحاء به وان كان ذلك الواقع افتراضيا كما في أفلام الخيال العلمي ، كما تشير إلى إن الكلام ضمن خاصيته الوصفية هو الشكل المرمز للواقع . تنطبق هذه الخاصية على الأدب الوصفي كما تنطبق على المسرح الذي يندرج ضمن مصفوفة الأدب ، ولذلك فان كثيرا من الأعمال الأدبية والمسرودات منها بشكل اخص تخفق في إطار التعاطي معها سينمائيا مهما بلغت عظمة هذه المسرودات ، وقد برع احمد ثامر جهاد في تعامله مع هذه الإشكالية في مقال له عن فيلم ( فلاش) المقتبس عن واحدة من أهم روايات فرجينيا وولف التي تروى في إطار التداعي الحر أو تيار الوعي الذي تنتمي أليه وولف إلى جانب فوكنر وهنري جيمس وآخرين . قد يبدو أن التعاطي مع مرويات تيار الوعي سينمائيا غاية في الصعوبة باعتبار اعتماد هذه المرويات على الانثيالات التي تسرد بوجهة نظر الأشياء ففي مروية وولف المشار اليها يتم السرد بوجهة نظر الكلب فلاش وفي مروية فوكنر الشهيرة الصخب والعنف فان المروية تسرد بوجهة نظر بنجي المجنون ، لكن مع ذلك فان هنالك اعمالا لفوكنر نجحت سينمائيا بل انها استمدت شهرتها عندما حولت سينمائيا فمروية الحرام لفوكنر بدأت تعرف باسم ( عرنوس الذرة ) بعد تحويلها إلى فيلم بنفس هذا الاسم وكذلك قصته ( ليل طويل ساخن جدا) التي أداها ببراعة عبقري السينما الهوليودية ارسون ويلز ، وهناك اعمال تقليدية فشلت عند تحويلها إلى السينما ويسري القول على معظم اعمال نجيب محفوظ والعكس أيضا صحيح فان هنالك اعمال هابطة نجحت عند تحويلها سينمائيا ، ربما إن الإشكالية تعتمد على العبقرية الإخراجية في إنقاذ النص من خلال تكثيف حواريته صوريا. مسرحيا فان الإشكالية قائمة أيضا باعتبار اعتماد فن المسرح على الخاصية الحوارية في إظهار الأهداف الدلالية للعمل المسرحي ، فالرؤية في المسرح يتم إبرازها عبر الحدث والكورس في المسرح التقليدي لكن في المسرح الحديث فانها تبرز عبر مركب التعاطف الجماهيري الذي يحكم على فشل أو نجاح العمل ، في حين إن الصورة التي تخضع إلى التعديل والتكرار تغدو هي الحكم في تكوين مركب التعاطف. لا يمتلك الفنان المسرحي خيار التكرار لأنه لا يرى ذاته إلا عبر عين الجمهور وليس عبر الصورة التي يرى ذاته فيها ويمتلك الحكم على جودتها أو رداءتها ، ولذلك فان عالم الصورة يمارس سحره في اجتذاب فناني المسرح.
سحر الصورة في التجربة المسرحية العربية
اجتذبت السينما مبكرا في العالم العربي الرائد المسرحي الكبير يوسف وهبي ونجيب الريحاني وعادل إمام ونور الشريف وجميل راتب القادم من تقاليد المسرح الفرنسي حيث قدم هناك مجمل اعمال العبث واللا معقول لينتقل ممثلا في أكثر من عمل أجنبي قبل أن يستقر في مصر ناقلا خبرته التي استمدها من المناخ الغربي ليكيفها وفق المناخ العربي ،مشكلا بذلك علامة متفردة في الأداء. إن انتقال هؤلاء الفنانين هو بمثابة تأسيس للقطيعة مع المسرح فالعودات الخجولة لبعضهم لا يعد إضافة نوعية بالقياس إلى الكم والنوع في السينما وان كان هذا لا ينطبق على عادل إمام الذي نقل خبراته المسرحية للسينما كما نقل خبراته السينمائية للمسرح . عراقيا فان القطيعة تختلف تماما عنها في مصر ، فالتجربة العراقية بالأساس تجربة مسرحية، ولذلك فان اجتذاب الصورة للمسرحيين سينمائيا أو في الأعمال الدرامية التلفزيونية التي تنتمي إلى عالم الصورة ، لم يؤد إلى إنتاج إشكالية القطيعة وإقامة حدود فاصلة بين المسرح والسينما ، بل إن ثمة تأكيد على تطوير هذه العلاقة من خلال اغناء السينما والدراما بالخبرة المسرحية كما فعل الرائد يوسف العاني وسامي عبد الحميد وقاسم محمد وعزيز خيون الذين تركوا بصمات مهمة في الدراما العراقية ، ومعظم الخبرات الدرامية كانت قد انتقلت من المسرح العراقي .
غواية الصورة في تجربة محلية
من التجارب المحلية في ميسان التي اجتذبتها سحر الصورة المخرج المسرحي ( خالد علوان العبيدي *) الذي استمد خبرته الفنية ممثلا مع مخرجين كبار كالمخرج خليل الطيار الذي قدمه في مسرحية ( سيزيف ) عام 1979 ، وحيدر الشلال الذي قدمه في مسرحتين هما ( الآمر والمأمور – 1981 و زمن السيف - 1983) وتلتها اعمال أخرى مع حبيب الظاهر ، وكاظم الحجاج ، وطارق العذاري ومهدي حمدان وقاسم مشكل . ومنذ أول عمل إخراجي لخالد علوان كان سحر الصورة مهيمنا عليه ففي عمله الإخراجي الأول في مسرحية ( الجمجمة ) المقتبسة عن عمل للشاعر ناظم حكمت ، نقل المخرج سحر الصورة من خلال الاقتصاد بلغة الحوار وفي مسرحيته ( ترنيمة عراقية - 1992) التي اقتربت من عالم الصورة باستخدامها لمؤثرات بصرية مكثفة تغيب عنها لغة الحوار وكانت مسرحية ( إدانة) التي حصلت على جائزة أفضل تقنيات مسرحية في العام 1994 ، وبقية أعماله المسرحية كانت تتساير في إطار ذات التقانات التي تقترب من عالم الصورة من خلال استحداثها للبصري وتكثيف الدلالي والجمالي ضمن اقتصادية حوارية نقلت روح العمل الذي اقتبست منه هذه المسرحيات بفهم إخراجي خاص في سياق رؤية تنتمي للمخرج بوصفها تنويعا على العمل الأصل. إن الاقتراب من عالم الصورة في عمل الفنان خالد علوان مهد له النجاح في فيلمه السينمائي الأول ( لا )الذي كتب السيناريو له أيضا وقد نال هذا الفلم جائزة مهرجان السينما والتلفزيون الخامس في البصرة عام 2008 ، ليقبل بعد ذلك على إخراج فلم ( أحلام أحلام ) وهو أول إنتاج سينمائي لجماعة الق للإنتاج السينمائي في ميسان . إن اختبار الفنان خالد علوان للأساليب المتنوعة كالمسرح الطليعي والملحمي والواقعي والتجريبي شكلت هويته الخاصة ووثوقيته في صلاحية الأساليب الفنية في التوائم مع الواقع العراقي فالأساليب هي نتاج خبرات إنسانية وبالتالي فإنها ذات جوهر كوني ، لكن الإخفاق في التعامل مع هذه الخبرات وعدم القدرة على تبيئتها فإنها تتعلق بالمخرج ذاته ، فالمخرج الذي لا يستطيع مغادرة منطقة النقل الحرفي للخبرة والأسلوب ، لا يمكن أن ينتج هوية خاصة تستفيد من الخبرات الإنسانية بوصفها مرجعياته التي تغذيه معرفيا وفنيا وتشكل رؤيته للعالم. حسن الكعبي _ العراق
( *) مخرج وممثل مسرحي قدم العديد من الأعمال إخراجا وتمثيلا أثناء دراسته في المعهد الفني في البصرة.