من الظواهر المثيرة للإنتباه في عالم السينما بالمغرب هو تراجع عدد قاعات السينما منذ الإستقلال إلى الآن بما يقارب السدس تقريبا إذ كان عدد القاعات يتجاوز 240 قاعة ليصبح اليوم يقارب الأربعين قاعة فقط ، وهو ما يعني إغلاق 200 قاعة . وهو رقم مخيف و ينذر بكارثة مستقبلية في الوقت الذي انتقل فيه الإنتاج الوطني من شريطين أو ثلاثة إلى خمسة عشر شريطا في السنة اليوم.وهي مفارقة غريبة لها مبرراتها التي أسعى هنا لتلمسها في إطار النقد البناء من أجل تدارك الخلل قبل فوات الأوان. لماّذا ارتبط المغاربة قديما بالقاعات السينمائية وبالسينما ؟ بعد الإستقلال كان العالم يعيش اليوبيل الفضي للسينما بعد تجاوزها لنصف قرن من إبداعها من طرف الإخوة لوميير و قد كان سحر الشريط يؤثر على الناس في كل العالم و المغاربة لم يكونوا استثناءا إذ كان إقبالهم على القاعات ملحوظا خصوصا مع شح البث التلفزي الذي لم يكن يتجاوز الساعات الست كل ليلية على قناة واحدة تأخذ النشرات الإخبارية حظ الأسد في برامجها . أما الأفلام فكان موعدها واحد أسبوعيا فقط. فكان لابد من إشباع فضول الفرجة بالذهاب إلى السينما و قد كانت أثمنة التذكرة في المتناول رغم ضيق يد المغاربة آنذاك . كما أن مقص الرقابة على مستوى الدولة أو على مستوى صاحب القاعة كان يتدخل لحذف كل ما من شأنه أن يحرج المتفرج أو يمس معتقداته وعاداته و قيمه لذلك كانت الأسر تذهب مجتمعة إلى السينما خصوصا عند عرض الأفلام ذات بعد ديني أو اجتماعي كما حدث عند عرض الشريطين المصريين ("هكذا الأيام") من بطولة فريد شوقي ونورا الذي عرض 3 أسابيع و (رابعة العدوية) من بطولة نبيلة عبيد الذي عرض أكثرمن ذلك في بعض القاعات مع إعادة برمجته لعدة مرات خلال نفس السنة . وكذلك أشرطة دولية كالشريط الهندي المدبلج ( أمنا الأرض ) أو الفلم الجزائري "الأفيون و العصا" ذي الطابع الجهادي أما الأفلام المغربية فلقد كانت لها نكهة خاصة ومنها حلاق درب الفقراء ورماد الزريبة ووشمة والسراب وليام يا ليام وباديس.......ورغم أن السينما المغربية كانت في بدايتها فقد كانت لها نكهة خاصة ، ذلك أن الأفلام الأجنبية التي اتخذت المغرب فضاءا لتصويرها ، حركت في المشاهد الرغبة في إثباث الذات فكان الجمهور يقبل على الشريط بشكل غريب فقط لأنه صور بالمغرب أو لأن مخرجه استعان بممثل مغربي و أستشهد هنا بالنجاح الباهر الذي حققه شريط (الحصان الأسود) الذي صوره فرنسيس كوبولا بالمغرب و مثل فيه المرحوم المقتدر العربي الدغمي وهو ما جعل مداخيل الشريط تحقق رقما قياسيا في المغرب رغم فشله النسبي في دول أخرى و مرد ذلك أن المغربي كان يعشق رؤيته ذاته في السينما ولو في شريط أجنبي ، و لما كانت بداية الانتاج المغربي تلقفها المغاربة بسعادة عارمة ابتداءا من أعمال المرحومين عصفور و الركاب وأعمال المعنوني و البوعناني والجيلالي فرحاتي ووصولا الى الأعمال المغربية الكبرى كثلاثية سهيل بن بركة العبقري الذي أبدع بامتياز أموك و حرب البترول وعرس الدم.... و غيرهم من رواد السينما و لكن المشكلة آنذاك كانت في التوزيع ووصول هذه الأشرطة لكل القاعات علاوة على ذلك كانت هذه الأفلام – بشهادة النقاد لحد الآن- تشهد إبداعا حقيقيا رسخ شهرتها و صمودها ولازالت تحظى بحظ وافرمستحق من التبجيل و الذكر رغم مر الزمن عليها... وهناك أدوار أخرى كانت تقوم بها القاعات السينمائية زادت من ارتباط المغاربة قديما بها ، فقد كانت تعايشهم وتخدم قضاياهم إذ كانت في كثير من الأحيان مقر اجتماع السكان عند تأسيس ودادية سكنية كما كانت تستغلها الوزارات في الحملات الصحية مثلا كحملة التلقيح ضد الكوليرا أو البلهارسيا وأحيانا كانت تقدم عروض للتوعية والتثقيف في الساحات العمومية أيضا .وكانت تفتح أبوابها بامتياز في الملاحم الوطنية الكبرى كما كان زمن المسيرة الخضراء المضفرة . وكانت تستغلها بعض الأحزاب في حملاتها الإنتخابية ، كما كانت تفتح أحضانها في الآحاد لاستقبال الأطفال في صبيحات خاصة للتسلية والترفيه بالتنسيق مع جمعيات خاصة وكانت تتعامل مع الشباب أيضا من خلال استقطاب عروض أندية السينما الفرنسية بالمغرب والعروض الخاصة السينمائية المخفظة الثمن للطلبة . كما كانت مقرا للسهرات الفنية الغنائية والمسرحية بامتياز، وقد اتخذ المسرحيون آنذاك سنة رائعة وهي تخصيص عروض بأثمنة رمزية للطلبة ، كما كان الكثير منهم يتبرعون بجزء من المداخيل لعمل خيري بالمدينة ، وأرباب القاعات كانوا يتفقون مع العارضين على نسب مئوية معقولة لصالحهم وقد لا يأخذونها إذا قلت المداخيل تفهما وتقديرا للفنانين.... وبعد كل هذا ما الذي حصل ؟؟ لقد أصبحت القاعات السينيمائية تعرض أفلاما رخيسة و رديئة تخاطب الغريزة الحيوانية بكل أنواعها ، و تدعو للعنف و تبرره ، و تسخر من قيمنا و ثقافتنا بشكل واضح من خلال مئات الأفلام التي تحتقر العرب أو التي تهين المغاربة بشكل غير مباشر-أخص بالذكر تلك التي صورت في المغرب - ،كما انها لا تراعي المرتكزات الأخلاقية و الأجتماعية لدينا كأمة إسلامية وهو و هو ما جعل الأسر المغربية تحس بالضيق فتعزف عن مشاهدة السينما جملة أو بشكل أسري .كما أن السلوكات داخل القاعات أصبحت غير مقبولة ولا أخلاقية إذ أن هاجس الربح المادي دفع بأصحاب القاعات إلى عدم مراقبة القاعات أثناء العرض مع السماح لكل الناس الدخول الى القاعة حتى السكارى والمنحرفين ، فأصبحت القاعات السينمائية مقرا للقاءات الغرامية بين الشبان و الشابات بشكل واضح للعيان.كما أصبحت مكانا لأختباء السكارى و المنحرفين وممارسة شذوذهم بكل أمان بعيدا عن المراقبة ، وهو ما يعني أن كل هؤلاء لا يهمهم الشريط المعروض و لكن تهمهم القاعة التي تسمح لهم بممارسات ممنوعة في الخارج متغافل عنها ومسموح بها بالقاعة .و هذا الشيء جعل الناس المحترمين يخجلون من دخول القاعات حتى يحرجون أنفسهم أولا وحتى لا يسيء الناس الظن بهم ثانيا فيصنفونهم ضمن المنحرفين .فعوضوا ذلك بالأشرطة المقرصنة التي ملأت الأسواق و التي تقدم أحيانا أشرطة جديدة لا زالت لم تصل القاعات المهمة بالبلد . كما أن ضعف الخدمات داخل القاعة زاد الطين بلة ذلك أن الجمهور لايحترم رقم مقعده بل يجلس حيثما شاء مما يخلق خلافات حول المقاعد.كما أن المراحض في غالب الأحيان تكون غير متوفرة أو غير نظيفة و كثيرا ما يستقر بها بعض المتعاطين للمخدرات لتجنب المراقبة ... وعند مشاهدة أي شريط تنطلق تعاليق المنحرفين من هنا و هناك خادشة الحياء و مسببة الحرج للناس المحترمين الذين يضطرون و الحال هذه إلى الإنسحاب و ربما عدم العودة للقاعات مطلقا علاوة على ضعف الأمن داخل القاعة بل انعدامه في عدد كبير من القاعات . لما تقلص عدد القاعات السينمائية أصبحنا نجد في المدينة قاعة واحدة وربما اثنتان في مقابل امتداد المدينة وهو الشيء الذي يجعل الغيور المهتم الراغب في مشاهدة شريط سينمائي يقطع مسافة أو مسافات طويلة جدا إما بسيارته ، فيكون هاجس الخوف عليها - مع ازدياد ظاهرة سرقة السيارات - مانعا لمتعة الفرجة . و إما بسيارة أجرة أو حافلة وهذا يجعله يتخوف من عدم تواجدهما عند خروجه من القاعة ليلا وهو ما يؤدي به في النهاية إلى الإمتناع عن دخول السينما مكرها.وهناك عائق آخر له علاقة بزمن العرض ذلك أن كل القاعات تقدم عرضا مسائيا قي توقيت غير مناسب . أو ليلا ، وفيه إشكاليات الأمن حاضرة . وعلى مستوى تعامل أرباب القاعات مع العارضين ، فقد أصبح أغلبهم يتفقون مع الفرقة العارضة على كراء القاعة لا على نسبة المداخيل على أن يتم تسليم المبلغ قبليا ضمانا له . وفي حالة عدم إقبال الجماهير على العرض يضطر العارضون إلى الدفع من أموالهم الخاصة ويتحملون لوحدهم الخسارة كما يحملونهم مسؤولية الخسارة المادية في حال حدوثها بالقاعة وهذا يدفع بالفنانين إلى البحث عن قاعات بديلة بدور الثقافة أو دور الشباب أوالنوادي والجمعيات أو االساحات العمومية مع وضع نقطة سوداء على القاعات السينمائية. هل تستحق السينما المغربية كل هذا العناء ؟ و نطرح سؤالا منطقيا:هل تستحق السينما المغربية كل هذا العناء.فمن جانب الوطنية أقول نعم.و لكن من وجهة نظر واقعية و فنية أقول لا.ذلك ان الشريط المغربي في الغالب ردئ أو بمعنى ألطف أقل جودة من الأفلام الغربية بل و حتى العربية كالأفلام المصرية و السورية و اللبنانية و الفلسطينية و أفلام إيران و تركيا و الهند و غيرها دون أن أقارن مع أفلام الغرب..إذ غالبا ما يكابد الغيورون الأمرين لمشاهدة شريط مغربي يخرجون منه وهم يجرون ذيول الخيبة فالسيناريو تافه أو سطحي بسيط و التمثيل بارد.(خصوصا مع اعتماد جل المخرجين على وجوه جديدة اقتصادا للمال ، ولا تكون لديهم خبرة ولا إلتقان حتى أصبحنا نرى بعض الممثلين في شريط واحد ثم يختفون نهائيا ) والحوار إما ضعيف او غير مفهوم أو تغطيه الموسيقى التصويرية أو فارغ مقحم ، عبارة عن حشو زائد في الغالب.. و القصة قد تكون غاية في البساطة و مبتذلة تركز على أحداث تافهة في البادية غالبا وفي أحيان كثيرة لا تكون هناك قصة أصلا .أما صناعة الشريط فتكاد تكون منعدمة لبساطة الديكورات وانعدام الحركة ورتابة الفضاء و هي إكراهاتيبررها المخرجون بالنقص المادي.و المتفرج الغيور المسكين يبحث عن مبررات لهذه الردائة و هذا الضعف فيقبل على المنتوج بدافع إثبات الذات و إلا فإن باب المقارنة مع السينما الراقية يستوجب مقاطعة هذه المنتجات التي هي أقرب إلى الرواية الإذاعية التافهة منه إلى العمل السينمائي الصناعي الراقي ..ولكن هذا لا يعني أن كل الأعمال المغربية سيئة بل هناك عدد من الأفلام المتميزة والتي حظيت باهتمام النقاد لجودتها ولكن ضعف الإمكانيات لم يواكب جودة مضمونها مما أثر عليها سلبا. وهناك نقطة أخرى تفسر برودة العلاقة بين الجمهور و السينما هي الممثل نفسه إذ في الوقت الذي نجد ممثلين عالميين يخالطون الشعوب و يتواضعون و يقومون بأعمال خيرية ويشاركون في قضايا العالم ككل ،يختلطون بضحايا القرن في جبال آسيا وأدغال إفريقيا وصحاري العرب وكهوف التبت ومستنقعات الأمزون يساعدونهم ويشاركونهم همومهم ويتسابقون لسفارة النوايا الحسنة ...في هذا الوقت نجد أن عددا من الممثلين المغاربة يتعالون عن الناس ويعاملونهم بتعال واضح مثير للإشمئزاز وينظرون إليهم من برجهم العالي وكأنهم فعلا عباقرة ، و يضعون أنفسهم في مراتب فوق النجوم فتبعد المسافة بين الممثل والجمهور بعد السماء بالأرض . و قد عاينت في أحد المهرجان سلوك ممثل مغربي دفع طفلا بعنف لأنه ألح على التقاط صورة معه بينما قبل دعوة فتاة جميلة للصورة وهو يعانقها بدون خجل . كما عاينت لحظة تكسير أحد منظمي المهرجان لآلة تصوير شاب ألح على التقاط تذكرة لممثلة مغربية فانزوى يبكي لأن الكاميرا ليست ملكه بل استلفها لهذه المناسبة فقط .و في حفل تكريم لأحد الممثلين – الكبار - أعترض طريقه عدد من التلاميذ حبا فيه ، وإعجابا به و اهتماما به ، لكنه سبهم وعيرهم و نعتهم بالهمج فرد عليه تلميذ بالمثل .. و في مهرجان فني اختلى أحد الممثلين بمعجبة و حاول تقبيلها بعنف لولا تمنعها و تدخل صديقاتها .وفي مهرجان آخر انتظر الجمهور بعض الممثلين لساعات ولما حضروا رفضوا الإختلاط بجماهيرهم فمروا بسرعة وهرولة والمنظمون يدفعون الجمهور بوحشية غريبة مستعملين العصي. هذا في الوقت الذي يتواضع عظماء السينما العالمية فيختلطون بالجمهور ويقدرونه أيما تقدير..فكيف سيحب المغربي السينما و عمدتها الممثل لا يقدره – في الغالب - ولا يعطيه من وقته ولا يحترمه.( طبعا مع بعض الإستثناءات القليلة )و هي صور تلامس بمرارة سلوكات بعض الفنانين الذين يعاملون المحبين لهم بفظاظة وهو ما يضع الحواجز بين الجمهور و السينما خصوصا و أن مثل هذه الاخبار أصبحت تنتشر في الجرائد و الصحف. كيف نعيد المغاربة للقاعات وللسينما المغربية ؟ وحتى لا اكون ناقدا سلبيا أقدم هنا تصورا لما يجب ان يكون لإعادة الروح إلى القاعات و اول هذه الإشياء هو اعتماد القاعات السينمائية المتوسطة و الصغيرة المجهزة و المتطورة و تقريبها من المواطنين في الأحياء و القرى.عرض هذه القاعات للشريط أربع مرات في اليوم صباحا و مساءا و ليلا حتى يتسنى لكل مهتم بالدخول للقاعة بحسب ما يسمح به زمنه مع تكثيف الحماية و الأمن داخل و خارج القاعات و منع دخول المنحرفين و السكارى و العشاق والسحاقيين من دخول القاعة .كما اقترح أن تقوم الجهة المسؤولة بطرح نسختين لكل شريط إحداهما أصلية لم يمسها مقص الرقابة و الثانية معدلة تسحب منها اللقطات و المشاهد الحميمية أو الدموية أو مشاهد العري...فيختار المهتم ما يشاء لأننا بذلك نحترم حرية التعبير و الفن و في الوقت ذاته نحترم قيم الأسر المحافظة و في الوقت ذاته نحتزم حرية التعبير والابداع وعلى المواطن أن يختار ما يناسبه إما الشريط الأصلي أو الشريط المعدل. . و في موضوع جودة الشريط المغربي أقترح أن يتم دعم شريط واحد يستحق الدعم لجودته بشروط دقيقة مقنعة وعلمية و تسخر له آليات الإبداع الفني والصناعي السينمائي و تجند له الطاقات البشرية المبدعة تتم فيه الإستفادة من الصناعة السينمائية العالمية ، إذ خير لنا أن ننتج شريطا أو شريطين في معايير دولية متميزة من أن ننتج عشرة أفلام كالفقاعات سرعان ما تموت بعد ما تولد ولا تصل لمستوى التتويج العالمي ، ذلك أن الأفلام المغربية تتوج في المهرجانات الصغيرة أحيانا ولاكنها تقصى في المهرجانات الكبرى بمبررات ومعايير منطقية.و حتى إن شاهدها المغربي فيكون ذلك من قبيل الشفقة و المجاملة فقط لأنه بدون أن يشعر يستحضر روائع الإبداع العالمي فيقوم بمقارنة لاشعورية تجعله يحس بالخيبة .ثم لا ننسى أن منافسة التلفزة و الفيديو و الإنترنت و غيرها للسينما أصبحت واقعا لابد من مجابهته بما يلزم من جودة في السينما المغربية لتفرض نفسها . وأخيرا أوجه النداء الى أرباب القاعات وأطلب منهم أن يتحلوا بالحكمة والذكاء واللين مع الفنانين وأن لايكون همهم ماديا لأن دورهم الثقافي ومسؤوليتهم الإجتماعية مهم ومهم جدا إذا ما وعوه وخدموه .وإذا فهموا ذلك وانفتحوا وخدموا سيعيدون البريق للقاعات وسيشملهم بالتأكيد الفضل والخير . الطيب بنعبيد خاص ب: ''الفوانيس السينمائية'' نرجو التفضل بذكر المصدر والكاتب عند الاستفادة