تطرح مسألة الثقافة والإبداع اليوم وجوب إعادة نظر جديدة في عدة مفاهيم بعد أن عصف تيار الثورة التونسية على هيكل المنظومة السياسية الساسوية التي كانت تبني سياسة التجهيل الثقافي بالثقافة أو التجاهل التثاقفي بإبداع متسيس متسلط يأخذ الأفكار وفق منظور أحادي "متطرف"، إذ إستقطب هذا النظام سياسياً نوعاً آخر من أنواع الأنظمة المستبدة فكرياً ، فحول المنظور السارتري من الإزعاج إلى الإنزعاج بدحض القول القائل بوجوب أن يكون المفكر كائناً مزعجاً للسلطة. ففي النظام النوفمبري ذو العقدين من المغازلة أصبحت فئة كبيرة ممن يحتسبون على الثقافة والصورة بمثابة كائنات مرشدة للسلطة تحول بمقتضاها الإبداع على وتيرة إسلم تسلم بإتجاهها اليساري الذي تريده السلطة فنشأ بذلك نوع جديد من الابتداعات والتثاقفات بإسم صنم الفكر الأعظم المغتال. لقد أنتجت سلطة السياسة على الثقافة في الساحة التونسية طيلة 23 سنة نوعان جديدان من "الإبداع" والإبداع. الأول ناكر لجميل السلطة مشهدياً لكن ولغريزة حب البقاء المفروضة فطرياً فهو لا يتردد في ترويض هذا المعبود شعبياً (بالقوة السياسية الفاشلة). أما الثاني فهو بمثابة الخادم الأبي مدفوع الأجر على وتيرة نظام لغوي يكسر فيه الجار مجروره بالمنظور النحوي المستبد سياسياً ، في هذا النوع الثاني تكون الثقافة بالأغلبية في التسلط فينتج حتماً نوعاً جديداً من "الإبداع" المبتدع ليسقط بعد 23 سنة من المماطلة على يد سلطة اسمها "الشعب يريد" ، لكن هذا النوع من التدرب على الإبداع الفاشل حاول بالمنظور اللنيني (بعد الثورة)، ببناء الجديد بحجارة قديمة ، فكان أن رفض مهندسوو الثورة إرتمتيقياً وبجبر المنطق ، هذا السيناريو الساسوي فكشفوا عن أديولجيا هذا الخبيث المتخفي وراء الصورة السينمائية التي ارادت نادية الفاني تصديرها بالتوريد نحو حيز جغرافي دنست فيه كل المفاهيم طيلة أكثر من عقدين فأصبح على السينمائي آنذاك ضرورة إنتاج أفلام حول الإرهاب الديني (بالمفهوم النوفمبري) وإلا فهو ملعون. اصبح الفنان مقيماً جبرياً في "الفلاش باك" بما أن سلطة النظام النوفمبري فرضت عليه ذلك . هذا إذاً سبب فشل نادية الفاني في ترويج فيلمها السياسي الأخير في تونس الحديثة. إن عصر الإستبداد بالصورة الموهومة فلمياً قد تحول اليوم إلى سؤال يطرح على أكثر من صعيد على الساحة التونسية. فبعد 10 أشهر من الثورة لم يلد إلى حد الأن فيلماً تونسياً واحداً يعبر عن مشاغل ذالك الشعب الذي أراد ومازال يريد ، سوى ذالك الإنفلات في التوثيق. بعد 10 أشهر من الثورة مازال الإحتراز على أشده خاصةً بعد ذلك البث المتسيس لفيلم "بيرسيبوليس" الإيراني الذي كشف عن سذاجة في لغة الخطاب والتخاطب بين الفن والسياسة إلى حد يصبح فيه لا وعي المتفننين في الفتن بإسم الفن عاملاً أساسياً في تزايد منطق الإستنفار الأقصى بين السينمائي والجماهير، فتحول المشهد إذاً إلى ضرب من ضروب المطاردة بين من يريد ومن يريد. بين إرادة فن الدين وإرادة دين الفن ، بين إرادة سلطة العقل وإرادة عقل السلطة. والسؤال في ذلك من المسؤول حقاً عن هذه المؤامرة بإسم استيطيقا الجمال والدين معاً ؟ من المسؤول حقاً عن هذا التحالف في النزاع ؟ من هو المهندس الأول لسيناريو التوريث الاديولوجي المستبد الذي عصف بإرادة الشعب طيلة عقود ومازال يحاول العصف عليها إلى اليوم بإسم الفن ؟ هل هي الحداثة أم اديولوجيا الحداثة الموغلة في التهميش و الغربنة ؟ لا بد أن نقول وبصراحة أن تسييس السلطة للشأن اليومي التونسي منذ عقدين كان سبباً في عزوف وقتي أو كلي للعديد من جهابذة السينما التونسية اليوم عن التصوير مثل الناصر خمير ورضا الباهي ونوري بوزيد ومفيدة تلاتلي ،،، والقائمة تطول في هذا الإتجاة كما في نقيضه والسؤال مطروح مجدداً : من صنع هذا التنافر بين شعب يريد سينما جديدة دون أن يرى فيها نفسه وبين سينمائي يريد إقناع شعب يجب أن يرى نفسه ؟ من ورط طرفي النزاع في هذه اللعبة القذرة التي تسمى اليوم :"التطرف بالإبداع" في شكليه اليساري واليميني ؟ طبعاً وبدون أي شك لا بد أن تكون الإجابة اركيولوجية الثوب يصفها ميشال فوكو على أنها "القوة الموجودة في كل مناحي الحياة الإجتماعية ،،، والتي تمارس فعلها بأشكال متعددة" وهي التي يسميها ماكس فيبر بأنها "السعي بالقوة إلى النفوذ " ونسميها نحن بأنها أفيون الشعوب بالمنظور الماركسي للسياسة. إن من واجب السلطة السياسية التي ستحكم البلاد اليوم أن تسعى جاهدة إلى إيجاد حل مرضي بين السينما والجمهور بل وأن تسعى إلى الكف عن التفنن في تسييس الفن كما فعل سلفها منذ عقود ، وأن ترفع ملف الدعم السينمائي إلى أطراف وشركات ذات رأس مال خاص خارجاً عن ميزانية وسلطة الدولة كي لا يكون الإنفلات المشهدي مستقبلاً ، وفي اتجاهيه اليساري واليمني ، سبباً في النزول إلى الشارع من جديد. اننا ندعو إلى ولادة عصر سينمائي جديد تكون فيه الغلبة للحقيقة بالمعنى الجمالي للواجب ثم ائتلافاً سوسيولوجياً بين الفنان وجمهوره بالمعنى الحقيقي للجمال. ندعو إلى إقامة دستور سينمائي جديد يقوم فيه بناء السيناريو والشخوص والأمكنة ،،، على سلطة الحقيقة لا على سلطة الدينار الذي لم يدم لصناع القرار سابقاً. ندعو إلى ولادة سينما تونسية مؤمنة بالمعنى الحقيقي لإرادة الشعوب تمجدها لا تهمشها وهي التي ستبقى دوماً تريد وتريد ،،، لا بد أن تنزل الصورة السينمائية إلى الأرض مشياً على الأقدام لا افتراضية موغلة في مسائل طفولية يكون فيها المتفرج ناقلاً لعدوى السذاجة المعاصرة. إن "انفلونزا الصورة" وفيروس الغربنة وحمى المطاردة بين السينما والجمهور إن لم تؤدي إلى إعادة النظر في جغرافية حدود الإبداع والحرية فإنها ستجرنا حتماً إلى نشأة نوع جديد من الثورات ربما قد نسميها "بالسينمافوبيا الثائرة" بإتجاهيها اليمني أو اليساري. إن المعنى الحقيقي للديمقراطية في الفن السينمائي لهو الإيمان الحقيقي بمرارة نفس الديمقراطية التي قد تقصيه. وإلا فوجب علينا الإنتظار ،،، بقلم الدكتور أنور المبروكي جامعة ستراسبورغ فرنسا خاص ب: ''الفوانيس السينمائية'' نرجو التفضل بذكر المصدر والكاتب عند الاستفادة