طاقةٌ ناريةٌ, وينبوعٌ من الحنان خلال انعقاد الدورة الأخيرة لأيام قرطاج السينمائية/2006, تعرفتُ على السيدة (سهام بلخوجة) في لقاءاتٍ سريعةً, وعابرة, ولكنها لفتت انتباهي عندما دعت بعض الضيوف إلى مأدبة غداءٍ في مقرّ المدرسة الخاصة التي تُديرها(L'Ecole Des Arts et du Cinéma), كانت المُناسبة تعاطفاً مع المخرج التونسي (الطيب الوحيشي) في محنته, حيث تعرض بداية ذلك العام في (الإمارات العربية المتحدة) لحادثةٍ مُؤلمة كادت تُودي بحياته, وأتذكر بأنها استخدمت هاتفها الجوّال للاتصال به حيث يُتابع علاجه في باريس, واقترحت على الحاضرين الحديث معه لدعمه, ورفع معنوياته, كانت حقاً مبادرة إنسانية, صادقة, ومؤثرة, ومنذ ذلك اليوم, بدأتُ أنبش في نشاط هذه السيدة أكثر من معرفتي عنها بإدارتها لمدرستيّن, واحدةٌ للرقص, وثانيةٌ لتعليم الاختصاصات السينمائية المُختلفة, ومؤخراً, حكى لي أحد المُقربين منها بأنها درَسّت السينما أيضاً كي تدعم عشقها للرقص. عملي (السابق) في الدورات المُتعاقبة ل(مسابقة أفلام من الإمارات) التي كانت تنعقد في شهر مارس من كلّ عامٍ في (أبو ظبي) حال دون متابعتي للدورة الأولى, والثانية ل(اللقاءات الدولية للفيلم الوثائقي) في تونس, والتي تديرها (سهام بلخوجة) مع فريقها (حورية عبد الكافي, هشام بن عمار, وكوثر بن هنية), ومع استلامي مهمة برمجة الأفلام الأجنبية القصيرة ل(مهرجان الخليج السينمائي) والذي انعقدت دورته الأولى في دبيّ خلال الفترة من 13 وحتى 18 أفريل 2008, توقعتُ أيضاً بأنني لن أتمكن من حضور الدورة الثالثة ل(اللقاءات) التي انعقدت بدورها خلال الفترة من 2 وحتى6 أفريل2008, ومع ذلك, اتصلتُ بالسيدة (سهام بلخوجة), وأذهلني موافقتها السريعة جداً, وكأنها تعرفني منذ قرون,.. بعد أسابيع, اتصلتُ بها مرةً أخرى, وأكدت لي الدعوة, وكنتُ أخشى بأن لا تنتهي مسؤولياتي في (مهرجان الخليج السينمائي) وتمنعني من السفر, ولكن, بالاتفاق مع (مسعود أمر الله) مدير المهرجان المُتفهم, قررتُ السفر إلى تونس. قبل أسبوعٍ من تاريخ انعقاد (اللقاءات), اتصلتُ بصحفيةٍ تونسية صديقة, وقلتُ لها بأنني (رُبما) أحضر, ولكن, لم تصلني بطاقة السفر بعد, ولا أيّ خبرٍ من إدارة المهرجان على الرغم من اقتراب موعد انعقاده. أتذكر جيداً قولها : طالما وعدتكَ (سهام بلخوجة), فلا تقلق, إنها تنفذ وعودها دائماً. بالصدفة, وحالما انتهيتُ من مكالمتي, وصلتني رسالة إلكترونية من إدارة (اللقاءات) تؤكد دعوتي. في اليوم السابق للسفر, اتصلتُ بالسيدة (سهام بلخوجة) لتصحيح خطأ روتينيّ في كتابة اسمي ترتكبه معظم المهرجانات العربية, وعرفتُ بأنها في ليبيا, ولم أفهم أسباب تواجدها هناك, ومهرجانها سوف يبدأ في اليوم التالي ؟ ما هذا المهرجان الذي تتغيّب مديرته عنه في الأيام السابقة لانعقاده ؟ وبوصولي إلى تونس, ومتابعتي للدورة الثالثة, فهمتُ تدريجياً كلّ شئ. (سهام بلخوجة), تخطت الأربعين, واثقةٌ من شبابها, وجاذبيتها, ولا تخشى التصريح علناً عن عمرها, وقد سبقت الرجال نجاحاً في المجالات التي تخيرتها : الرقص, السينما. فريق عملها المُكوّن في معظمه من طالباتها القدامى, وراقصات فرقتها, تفضل مناداتهنّ (بناتي) بدلاً من (أخواتي). طاقةٌ ناريةٌ, حادة المزاج, انفعالية الطباع, سليطة اللسان, سلطويةٌ, ثائرةٌ, ومتمردة,... ولكنها أيضاً, وعلى النقيض تماماً, مرحةٌ, منطلقةٌ, كريمةٌ, تلقائيةٌ, وينبوعٌ من الحنان,... مهتمةٌ بالجمهور أكثر من كتابة الصحافة العربية, أو الأجنبية عنها, أو عن (اللقاءات), ولهذا فهمتُ لماذا كنتُ الضيف/الناقد السينمائي الوحيد في المهرجان . في زحمة مشاغلها, دعتني للركوب معها في سيارتها لنُكمل حديثاُ بدأناه في بهوّ(فندق أفريقيا), كانت ترغب بأن أشاركها في لقاءٍ لإحدى الإذاعات الحرة (تونس بلادي), وعندما وصلنا إلى مقرّ الإذاعة, انتقدت بحدةٍ بعض الإهمال, وبعد تنفيذ مهمّتها, ودعت المُنشطات اللطيفات بمرحٍ بالغ, البعض منهن درسن السينما, أو الرقص في مدرستيّها. مهمومةٌ إلى حدّ الهوس بحضور الجمهور إلى قاعات السينما, توزع دعوات فيلم الختام(محامي الرعب) يميناً, وشمالاً, حتى أنها نسيت بأنني ضيفها, وقدمت لي دعوتيّن لا أحتاجهما . في سيارتها, ونحن في طريق العودة إلى قاعة (ابن رشيق), اتصلت بها (إذاعة المنستير) ترغب منها حواراً عاجلاً عن (اللقاءات), ولكنها اقترحت بأن يتحدث بدلاً عنها ناقدٌ سينمائيّ سوريّ مُنبهرٌ مما يحدث حوله (والحقيقة كنت خائفاً من حادثة مُحتملة). وبعدها طلبت من المُنشطين المجيء إلى تونس لحضور فعاليات (اللقاءات), وعنفتهم بشدة, ودعتهم للإقامة في بيتها الواسع, هي صادقةُ فيما تقول, لأنها في نفس الليلة رتبت لضيوف المهرجان/وضيوفهم سهرةً شرقية, وأعتقد بأنها دفعت الفاتورة من جيبها. لا أعرف كيف كانت تقود سيارتها في وسط العاصمة تونس, وتردّ بالآن ذاته على مكالماتها الهاتفية المُتلاحقة, وأنا أقبع مذعوراً بجانبها, وعندما لاحظت قلقي, واصفرار وجهي, طلبت مني ربط حزام الأمان, لم تكن فقط مستعجلةً لتقديم الأفلام, والمخرجين, ولكنها, كما حكت لي, اشتركت يوماً في خمس سباقات سيارات, ... يا إلهي..., ربنا يستر, لن أركب معها في سيارتها مرةً أخرى, .. إنها تعيش حالة طوارئ متواصلة, في ذلك السباق المُرتجل, كانت تطلب من شرطي المرور بأن يفتح لها الطريق, ولم أفهم كيف استجاب لها, وانصاع لأوامرها, وكأنه يحسبها واحدةً من المسؤولين الكبار في الدولة, ويخشى عصيانها. ولكنني فهمت أسباب الإقبال الغريب على العروض, فقبل أن تكمل انطلاقتها, منحته دعوتين لحضور فيلم الختام, وهنا لا أعرف كيف ستتسع القاعة لكلّ هؤلاء الذين حصلوا على بطاقات الدعوة, كان عليها عرض فيلم (محامي الرعب) في شارع (الحبيب بورقيبة) فوق شاشة عملاقة كي يشاهده الذين سوف يحتشدون أمام (المسرح البلدي). أعتقد بأنها قادرة على قيادة مظاهرة كبيرة للمُطالبة بإعادة حقوق الرجال, لأنها ليست بحاجة للدفاع عن حقوقها, فقد حصلت عليها, وزيادة. لقد تخيّرت (سهام بلخوجة) بأن تكون عروض (اللقاءات) في أربع قاعاتٍ, وبمعدل ثلاثة عروض يومية, وأعتقد بأنّ مهرجانها الذي سوف يكبر حتماً يحتاج إلى كلّ القاعات التونسية, بلا استثناء, كي يستطيع ضيفٌ مثلي لا يحب الانتظار ساعة قبل بداية عرض الفيلم, بأن يجد لنفسه مكاناً في الصفوف الخلفية, وهي على أيّ حال تفضل عدداً قليلاً من الضيوف (في الوقت الحالي على الأقلّ), ولكن, لحسن لحظ, بأنها لم تدعو لدورتها الثالثة أكثر من دزينة, لأنه إذا وصل العدد يوماً إلى مائة, أو مائتين (كما الحال في أيام قرطاج السينمائية), فإنهم لن يجدوا لهم مكاناً في أيّ واحدةٍ من القاعات الأربعة المُخصصة للعروض . وأنا أكتب هذه (الترهات) في (مقهى باريس) المُجاور ل(المسرح البلدي), فكرتُ بأنّ اندفاع (سهام بلخوجة), وحماسها, سوف يشجعانها يوماً بأن تضع شاشة عرض في هذا المقهى, أو غيره, لتعرض بعض أفلام (اللقاءات), وربما واحدةٌ أخرى في الساحة المُواجهة لسوق المدينة, وأما كن مختلفة من العاصمة, وربما ترسل قافلةً لعرض الأفلام في القرى, والمدن التونسية, فإذا لم يرغب البعض بالحضور إلى صالات السينما, أو تكاسلوا, فإنّ السينما سوف تذهب إليهم. الحقيقة, وبعد دردشاتٍ متفرقة مع أصدقاء, وزملاء, عرفت بأن (سهام بلخوجة) قد حاولت في الدورة الثانية للمهرجان تنفيذ فكرة مشابهة لاقتراحاتي الحالية, حيث فكرت باستئجار (مقهى الكوليزيه) المُواجه للقاعة بنفس الاسم, وذلك لتُخصصها للمهرجان, وتُحولها إلى ورشة عمل يتواصل فيها الجمهور مع السينمائيين, والضيوف, ولكن, نسيتُ لماذا لم تتحقق فكرتها تلك, هل كانت الأسباب الحالة المُذرية لأجهزة الصوت في القاعة؟ لا أذكر, اعذريني يا سهام . يمكن أن نتوقع من (سهام بلخوجة) كلّ شئ, فهي التي تخيرت بأن لا يكون هناك مظاهر احتفالية في افتتاح (اللقاءات), وختامها, وكانت قادرة على فعل ذلك, فلديها ما يلزم لعرضٍ مشهديّ, ولكنها ليست سادية, أو مازوخية إلى هذا الحدّ, فقد أمتعت الجمهور بمشاهدة أفلام حركت فيهم حسّهم النقدي, وبالمقابل, لم تحرم ضيوفها من سهرةٍ شرقية استمتعوا فيها بمهارة الراقصة (أدريانا), وكان ذلك بالضبط بعد فيلم (أولاد لينين) لمخرجته التونسية (ناديا الفاني), والذي أثار ردود أفعال الجمهور إلى درجة غنى البعض منهم النشيد الأممي, وهتف آخرون بحياة الشيوعية. وإذا كان (مهرجان دمشق السينمائي الدوليّ) واحداً من المهرجانات العربية الكريمة(هناك فارقٌ كبيرٌ بين الكرم, والبذخ), فإنّ (اللقاءات الدولية للفيلم الوثائقي) في تونس هو المهرجان الثاني الذي تتجسّد فيه هذه الفضيلة. في اليوم التالي لختام فعاليات (اللقاءات), سوف يتذكر الضيوف المُغادرين ظهراً من تونس إلى باريس ذلك المشهد الذي حدث في بهوّ (فندق أفريقيا), و(سهام بلخوجة) في قمة غضبها حنقاً على موظف الخزينة الذي أجبر بعض الضيوف الذين سافروا صباحا على دفع المصاريف الزائدة (هي عادةً على حساب الضيف), كانت (سهام) تعنّف ذلك الموظف بشدة, وتُذكره بأنها تركت تأميناً إضافياً لمثل هذه الحالات يمكن أن يغطي أيّ زياداتٍ مُحتملة يستهلكها الضيوف. لم يتوقف الأمر عند هذا الأمر, وصلنا إلى مطار قرطاج الدولي, وبدأنا بتسجيل حقائبنا, ولكن مفاجآت (سهام بلخوجة) لم تنتهِ, فقد وصل مُرافقنا يحمل أكياساً, وبدأ يُوزع علينا صناديق مملوءة بحلوياتٍ تونسية. في اليوم التالي من وصولي إلى باريس, كتبتُ رسالة عاجلة أشكر فيها (سهام بلخوجة), وفريق العمل, وفي اليوم التالي وصلتني منها رسالةً جماعيةً تشكر بدورها كلّ السينمائيين, والضيوف الذين ساهموا بأفلامهم, وحضورهم بنجاح الدورة الثالثة. برافو سهام بلخوجة, حورية عبد الكافي, هشام بن عمار, كوثر بن هنية,....والآخرين. أتمنى بأن تحجزوا لي مكاناً بينكم في الدورة الرابعة. صلاح سرميني تونس