كثيرا ما يصرفنا التمعن في الأسئلة الفلسفية الكبرى عن التنبه إلى التفاصيل العميلة الصغرى، وهي التفاصيل التي تُبنى عليها الحضارات وتتميز بها. وكثيرا كذلك ما يفضي التفلسف إلى نتائج عقلية وأفكار مجردة لا تمت إلى سياق التداول المجتمعي بصلة، فينتج عن ذلك عجز الفرد والجماعة عن حمل الفكرة وتمثل سبل نقلها إلى الواقع، ولا شك أن العالم العربي والإسلامي يقدم نموذجا من أكثر النماذج دلالة على اتساع الهوة بين مجال التنظير الفكري ومجال التطبيق العملي. وللتأكد من هذه الدعوى، يكفي إلقاء نظرة ولو وجيزة على مشاريع النهوض العربية الإسلامية ومدى مواءمتها لمقتضيات واقع العالم العربي الإسلامي المتخلف؛ إذ أن من هذه المشاريع ما يعجز عن حمله حتى المجتمعات المستقلة القارئة المتعلمة المنتجة المبدعة، فما بالك بمجتمعات تكابد ويلات التبعية والأمية والتخلف عن ركب الحضارة وروح العصر. ونتخلص من هذه المقدمة إلى طرح السؤال التالي: ما السبيل إلى تجسير الهوة بين التنظير الفكري والتطبيق العملي، أو تقريب المسافة بين الخطاب الأخلاقي المثالي، والسلوك اليومي الواقعي في هذه المجتمعات؟ ونظن أن الأصل في هذه الهوة وتلك المسافة قد يكون خللا في العلاقة بين الحس والتجريد، كما نظن أن الأصل في هذا الخلل هو الأمية المستحكمة. ولا شك أن للأمية كذلك أصلا ترتد إليه، كفشل السياسات التعليمية أو عجز المنظومة التربوية في الوطن العربي الإسلامي؛ غير أننا نفضل في هذا السياق الوقوف عند الأمية بغرض إبراز علاقتها بعجز الأسر في هذا الوطن عن تأهيل الفرد لحمل الأفكار والتصورات ووضعها الموضع الصحيح.
* هل الأمية هي عجز عن القراءة والكتابة فحسب؟
عند التحقيق نجد بأن معنى الأمية ينصرف إلى العجز عن القراءة والكتابة. ويترتب على هذا المعنى أن الأمي لا تربطه بالكتاب أية علاقة تُذكر؛ فهو لا يقتنيه ولا يحمله ولا يفتحه ولا يتخذ مضمونه موضوع حديث بينه وبين غيره. فالأمي لا يتوسل بالكتابة والقراءة لتمرير أو تلقي قيمه ومعتقداته وأحاسيسه. وإذا كانت الأسرة أمية وجدتَها تعتمد وسائل أخرى غير الكتاب لتمرير قيمها إلى أبنائها، حتى إذا بلغ الطفل سنا أبان فيه عن قدرة على الاستيعاب والتعلم، أودعوه كُتّابا أو مدرسة، وأودعوا ثقتهم في فقيه أو معلم كي ينوب عنهم في تلقين طفلهم مبادئ القراءة والكتابة، ووضعوا أملهم في هذا الطفل كي يتعلم ما فاتهم تعلمه. غني عن القول أن هناك قطيعة بين الأسرة الأمية وبين المدرسة، وفرقا بينهما بوصفهما فضاءين مختلفين لتمرير القيم والمعارف. ومن الآثار المترتبة على هذه القطيعة أن الطفل لا يشعر بسلاسة التنقل بين الفضاءين؛ بل يتكرس عنده الإحساس بأنه وهو يدخل المدرسة إنما يلج عالما جديدا يتم فيه فك شفرة المعارف وحل رموز العلوم. كما يشعر وهو ينتقل من الفضاء الأول نحو الفضاء الثاني وكأنه يقفز من عالم الحس إلى عالم التجريد، لافتقار العالمين لجسر عبور يصل بينهما. وكلما اتسعت الهوة بين العالمين، عالم الأسرة الحسي، وعالم المدرسة التجريدي، تضاءلت حظوظ الطفل في أن ينعم بمسار تعليمي ودراسي طبيعي، وكانت علاقته بعالم المعرفة علاقة مرتبكة، علاقة تكلف وتصنع، لا سليقة وطبيعة. حين نقلب الأمر على جوانبه نجد بأن الأمية درجات، أظهرها ما هو متعلق بالعجز عن الوقوف عند مدلولات حروف الهجاء، إما متفرقة أو مجتمعة. فالأمي لا يدرك العلاقة بين الرمز "أ" وما يقابله في عالم الأصوات مثلا، أو العلاقة بين الرمز "كأس" وما يحيل عليه في عالم المتعينات، وإن كان لا يفوته إدراك العلاقة بين المنطوق أو المسموع "كأس" وما يرمز إليه في هذا العالم. فإذا كان الإنسان القارئ يدرك العلاقة الثلاثية بين "الصوت" و"الحروف" و"الشيء"، فإن الأمي يكتفي بالعلاقة الثنائية بين "الصوت" و"الشيء". وهكذا، نجده في محاولته تبيين الأشياء ومعانيها لا يتوسل بوسيلة أخرى غير ما يتلفظ به من ألفاظ وكلمات. وهذا ما يدخل في عداد التواصل الطبيعي الذي لا ترميز فيه ولا قراءة، بل السماع والترديد. فربما لهذا الاعتبار يقول ابن خلدون، متحدثا عن التلقين والتلقن، بأن "السمع أبو الملكات اللسانية". ليس يخفى بأن السمع يوسع آفاق إدراك العقل الإنساني، بأن يحرره من سلطة الأشياء المنظورة ليحيله على عوالم مجردة لا تنتهي، عوالم المعاني والأفكار والتخيلات، عوالم الجنة والنار والغول والعفريت والأساطير والخوارق. غير أن النظر، من حيث كونه يضيق آفاق الإدراك، يورث العقل قدرا أكبر من الحس واليقين، إذ ليس من رأى كمن سمع، كما يقال. وعند التأمل نجد بأن الفرق بين السمع والنظر يكمن في أن السمع، من حيث كونه آداة لاستدعاء المطلق والمجهول واللامرئي، فهو لا يتقيد بصورة ولا يستلزمها، بل قد يكون السمع وسيلة للتخلص من سطوة الصورة المرئية. هذا على خلاف مع النظر الذي لا ينفك عن الأشياء الماثلة أمام العين. نخلص من هذه المقارنة إلى ما مفاده أن الأمية ألصق بالسمع منها بالنظر، ذلك أننا قلنا بأن الأمي يكتفي بالعلاقة الثنائية بين الصوت المنطوق والمسموع من جهة، وبين الشيء المشار إليه؛ هذا على خلاف مع القارئ الذي يتوسل في فعل القراءة أو تلقين القراءة، بالرمز المنظور، حرفا كان أو صورة. فالتوسل بالرمز المنظور يعتبر المخرج من عالم الأمية الطبيعي والمدخل إلى عالم القراءة الثقافي والحضاري، حيث إن هذا الرمز يساعد في تثبيت المعارف وترسيخها في العقول، لكونه ينبسط في الفضاء أمام العين، وكل ما انبسط في الفضاء يكون موضوع تقليب نظر، على خلاف الأصوات التي تنبسط في الزمن، وبالتالي تكون مؤقتة، مرتبطة بوقت السماع. ألا ترى أننا لا نقول: "قلب السمع"، مثلما نقول "قلب النظر"؛ بينما نقول: "أحسن الإصغاء"، أي ركز حتى لا يفوته مضمون الرسالة المسموعة، فيعسر عليه الظفر بها مرة أخرى. إذا كان الشيء المنظور قارا ثابتا، فإن الصوت المسموع مار عارض. وإذا كانت الأمية مرتبطة بحاسة السمع أكثر من ارتباطها بعالم النظر، من حيث القدرة على تمرير المعارف والمعلومات، فإن الأمي لا يستفيد مما يتيحه عالم الكتابة والترميز من إمكانات لا تنضب، لا لتمرير المعارف والمعلومات فحسب، ولكن لتثبيت منظومة علمية وفكرية تؤهل العقل للإستقرار الثقافي والبناء الحضاري؛ إذ يصعب، بل يستحيل تخيل تطور بعض العلوم كعلم الرياضيات مثلا، في معزل عن الرموز المرئية؛ وهذا يصدق على مجموعة المعارف والعلوم التي يتم التوسل بها للخروج من طور الطبيعة إلى الحالة الحضارية. إذا ثبت عندنا أن مجال الأمية يخلو من الرموز الدالة سواء على الأشياء الطبيعية أو المفاهيم العقلية المجردة، فيثبت معه أن الأمية عائق أساس في عملية البناء الحضاري. وعليه، فكلما اتسعت رقعة الأمية وكثر عدد الأميين، ضعفت جاهزية المجتمع الثقافية والحضارية والعلمية والمعرفية. ولعل خير دليل على علاقة التلازم بين الأمرين، أي بين اتساع رقعة الأمية وضعف الجاهزية الحضارية، نجده في واقع العالم العربي والإسلامي. صحيح أن المدارس والجامعات في هذا العالم تلقن الكتابة والقراءة، غير أن القراءة والكتابة لم تتحولا إلى ثقافة يتشربها المجتمع، فتشمل الفضاء الأسري، مثلا، بل تظل وسيلتين من وسائل التحصيل الضروري للإرتقاء في السلم المجتمعي، أو الظفر بوظيفة، لا غير.
* النموذج الألماني في تجسير الهوة بين الحس والتجريد
حتى لا نسقط في آفة التجريد، ونبتعد عن مقصودنا من وراء الحديث عن الأمية والفضاء الأسري، ارتأينا الإحالة على نموذج عملي، قد يسعفنا تأمل مواطن قوته، في الوقوف عند مواطن الضعف والفقر في نماذجنا العربية والإسلامية. وقد اخترنا النموذج الألماني، وهو نموذج، وإن كان يشترك مع غيره من النماذج الأوروبية والأمريكية في خصائص كثيرة، يظل متفردا في القوة وإنتاج النخب المتعلمة المثقفة غير المفصولة عن روح العصر، القادرة على تجسير الهوة بين عالم الأفكار المجردة والواقع المجتمعي. حين نستجلي المحددات وراء تفوق النموذج المجتمعي الألماني، نجدها ترتد إلى محدد مركزي، ألا وهو المنظومة التربوية المتكاملة، ولا شيء يبرز وجه التكامل هذا أكثر من العناية التي تليها هذه المنظومة لتنشئة الطفل منذ مراحل خروجه إلى الوجود الأولى، بل ثمة عناية بالطفل حتى قبل خروجه من بطن أمه، حيث تستحث بعض المدارس المرأة الحامل على التزامات الهدوء والتنزه في المتنزهات الطبيعية، أو الإستمتاع بأنواع من الموسيقى دون غيرها، وذلك وعيا من الساهرين على شؤون الطفولة بأن الطفل في بطن أمه يتأثر لتأثر أمه في محيطها، فإن هي استنشقت الهواء النقي استنشقه الجنين معها، وإن هي أدخلت الطعام الطيب في جوفها نال الجنين من هذا الطعام حظه. لندع هذا الضرب من الإهتمام المبكر، الذي قد يبدو مبالغا فيه بمقاييس واقعنا العربي والإسلامي، ونقف عند ما نعتبره عماد كل شيء في المنظومة التربوية الألمانية، ألا وهو "كتاب الطفل". ليس من المبالغة القول بأن عدد كتب الأطفال الصادرة كل سنة تعد بمآت الآلاف، منها ما هو موجه للطفل في السنة الأولى من عمره، ومنها ما يناسب مراحل عمرية متقدمة، وكلها تنم عن أهداف تربوية واضحة المعالم. فمن الكتب ما هو مصنوع من مادة بلاستيكية، خشبية، أو أي مادة أخرى، وهو عبارة عن ورقتين أو أربع وريقات، لا أكثر، تتضمن صورا وألوانا تكون أقرب إلى عالم الطفل الحسي. وليس المقصود بهذه الكتب في المراحل المتقدمة جدا هو الكتابة أو القراءة، ولكن المقصود بها هو فسح المجال أمام الطفل كي يلمس الكتاب ويمتلكه كما يملك غيره من اللعب والأشياء. وحَسْبُ الأبوين أو الكبار المحيطين بالطفل أن يتلفظوا بلفظ "الكتاب" قصد التمييز بينه وبين الأشياء الأخرى التي تؤثت عالم هذا الطفل، فتجدهم في تواصلهم معه يرددون عبارات من قبيل: "أين الكتاب؟"، و"خذ الكتاب"، و"افتح الكتاب"، و"اهديني الكتاب"، و"أين اختفى الكتاب؟"، وما إلى ذلك من العبارات التي تهدف إلى ترسيخ مكانة الكتاب في نفسية الطفل وذهنيته وحياته. وما يفتأ الطفل يتلمس الكتاب ويتحسس وجوده في عالمه إلى أن يُستَدرج للوعي بوظيفته. مع أول عيد ميلاده يتلقى الطفل الكتب هدية من بين الهدايا الأخرى، وهي كتب مناسبة للمرحلة العمرية، لا تخرج عن أن تكون عبارة عن صور وأشكال وألوان. ويكون الكتاب في هذه المرحلة قد أصبح مدخلا مهما من مداخل التواصل مع الطفل، بحيث يُتَّخذ من طرف الكبار وسيلة لنسج الكلام حول مضمونه. فتجلس الأم أو الأب، أو الجد أو الجدة، أو الأخ الأكبر أو الأخت الكبرى، يقلبون صفحاته وهم يذكرون أسماء الأشياء المصورة في الكتاب والطفل يرددها. وقد يتوسعون في الحديث عن أشكالها ووظائفها وألوانها كلما شعروا من الطفل استئناسا بحديثهم. فيُقال له مثلا "الكرة حمراء" أو "نلقي الكرة" أو "نلعب بالكرة" وغيرها من الكلام البسيط الذي يُهيِّئه لفهم العلاقة بين صور الكتاب ومفردات الأشياء التي تقابلها في الواقع. يُتَعهَّد الطفل بالعناية والرعاية حتى يثبت أنه قد أصبح قادرا على إدراك أن "صورة الكرة" في الكتاب تحيل على "الكرة" في الواقع، وأن "صورة الكرسي" في الكتاب تحيل على "الكرسي" في الواقع؛ عندها يكون الطفل قد تعلم أول مبادئ القراءة. بعد أن أصبح الطفل قارئا، يعي العلاقة بين الصورة في الكتاب والشيء المتعين في واقعه، يخوض مغامرة جديدة تؤهله للإرتقاء في سلم القراءة. في هذه المرحلة يجد الطفل نفسه محاطا بكتب هي عبارة عن صور للأشياء التي تؤثت عالمه مرفوقة بكلمات تدل عليها. فتجد من صفحات الكتاب صورة لتفاحة، كتب تحتها "تفاحة". ويستمر الساهرون على تربية الطفل في تحديثه عن الصور مع الإحالة، بالإصبع مثلا، على الحروف المكتوبة، وهكذا يستأنس الطفل تدريجيا بالكلمات، حتى يبلغ أن يعي أنها تدل على الصور، تماما كما أن الصور تدل على الأشياء الماثلة أمام عينيه في عالمه الحسي. حينها يكون الطفل قد ارتقى في الوعي بوظيفة الكتاب والقراءة، بحيث أصبح الآن يعي العلاقة الثلاثية بين "الرموز المكتوبة" و"الصور" و"الأشياء"، وهو لم يبلغ بعد الثانية من عمره. وليس يفترض في الطفل في هذا السن المبكر أن يحسن القراءة، بقدر ما يدفع باتجاه استشعار أن الرمز المكتوب دال على المدلولات المصورة في الكتاب، المتعينة في الواقع. كلما أتيحت فرصة الجلوس إلى الطفل، خصوصا في لحظات استرخائه وهجوعه إلى حضن الكبار، يُستَدرج إلى فعل القراءة، حتى يقترن هذا الفعل عنده بالأفعال التي يأتيها الإنسان في حياته اليومية بشكل طبيعي. وكلما تقدم في السن، زاد ارتقاء في سلم القراءة، وزادت حاجته إلى كتب من نوع جديد. فتجد الأسرة تمده بكتب هي عبارة عن صور مرفوقة بجمل بسيطة، من قبيل "يركد الطفل"، أو "ينام الطفل"، أو "يسبح الطفل"، أو "يأكل الطفل" أو "ولد صغير"، أو "بنت قوية". يفترض في الطفل أن ينتقل في هذه المرحلة المتقدمة إلى الوعي بالجملة البسيطة ومدلولاتها. فتجده يعي بالتدريج معنى القراءة، وعلاقة الرموز المكتوبة بالأفعال والصفات. وتستمر مرافقة الطفل بتوفير الكتب المناسبة لكل مرحلة من مراحله العمرية. فبعد الإنتهاء من الجملة البسيطة، يمر إلى الجمل المركبة. تجده يتأمل صور الكتب وهو يتطلع إلى من يفك له الرموز كي يدرك مدلولاتها. ومع الجمل المركبة يُشرَع في تحسيس الطفل بلذة القصص، فتجده يتطلع إلى فهم مجريات الأمور ومساقات الأشياء، وهو يستحث محدثيه على المزيد من الحكي والكلام. ففي هذه المرحلة يكون الطفل قد قطع شوطا مهما في ثقافة القراءة، فبقدر إقدامه على فعل القراءة يُهدى إليه الكتب، حتى إذا بلغ الثالثة من عمره وجدته يتوفر على مكتبة خاصة به، فتجد الكبار يخيرونه أي كتاب يريد أن يُقرأ عليه، هل "كاميليا الشجاعة"، أو "جاك الوسخ" أو "الكلب الحزين" أو "القط الكسلان"، وهكذا، كما تجده يُستشار بخصوص أي الكتب يريد أن يقتني من المكتبة، بحسب ما يوافق هواه وميولاته الطفولية. في هذه المرحلة يتم استعمال القصص المتضمن في الكتب وسيلة لاستدراج الطفل إلى النوم، حيث يجد في ما يُقرَأ له من قصص عزاءه عن ترك اللعب ومتعة البقاء صاحيا في وقت متأخر من الليل. وتجد الأسرةَ تحرص أشد ما يكون الحرص على التواصل مع الطفل خلال هذه اللحظة التي يخلد فيها الطفل إلى سرير النوم؛ تقرأ له قصصا تخاطب خياله ومستواه الطفولي، فترسخ ملكته اللسنية، كما تمرر له قيمها عبر أحداث وشخوص يكون قد استأنس بها وبمواقفها البطولية أو الهزلية. ولعل أهم ما في الأمر هو أن لا ينفر الطفل من الكتاب. وقد ينفر منه في حال أسيء فهم ميولاته وقدرته على استيعاب التجريد، كأن يُشرَع في تحديثه عن الأخلاق مجردة عن عالمه الحسي المفهوم، أو في حال إصرار الكبار على تلقينه مبادئ علمية وشحنه بمعارف يستعصي تأسيسها على ما راكمه من مخزون لغوي. كل الجهود المبذولة من طرف الأسرة تصب في إدماج الطفل في ثقافة القراءة، وتهييئه لتلقي المعارف والعلوم وتمكينه من أدوات التخاطب مع محيطه ومده بالقيم التي تراها هذه الأسرة قيما صالحة للحفاظ على تماسك المجتمع. وتتحرى في اختيار الكتاب كامل الدقة، فتستشير الكتبي العارف بعلاقة الكتب بالمراحل العمرية، مثلا، حتى تقف عند الفرق بين هذا الكتاب أو ذاك. فليست كل الكتب المصورة سواء. هناك من الصور ما يصلح لينبه الطفل إلى جنس الأشياء في مراحل متقدمة، قبل تنبيهه إلى النوع في المراحل اللاحقة. فمن الطبيعي أن يستأنس بصور تجسد له "الطائر" أولا، حتى إذا تفتق عقله وصار أكثر قدرة على التمييز، قدمت له كتب تحتوي صورا للأنواع، صورة "السونونو" و"الحسون" و"الببغاء" و"اليمامة" و"الهدهد" وغيرها.
* الأمية سبب الخلل في العلاقة بين الحس والتجريد في العالم العربي
هذا الحديث العارض عن النموذج الألماني هو غيض من فيض، من الأحاديث التي يمكن أن يُستَرسل فيها للإشارة إلى تفوق هذا النموذج وارتفاع الجاهزية البيداغوجية للأسر والساهرين على تربية الأطفال ومرافقتهم من أجل تهييئهم لا لمغامرة التمدرس فحسب، ولكن لمغامرة الحياة. ويحق لنا في سياقنا العربي والإسلامي أن نرثي أنفسنا، وكيف لا نرثيها ونحن نكاد لا نعبأ بوجود الطفل من حولنا، ونعتبر تربيته من أبسط الأمور، وحتى وإن كان لدينا حرص شديد على تنشئة الأطفال وجدتنا نعدم الوسائل لبلوغ هذه الغاية. من المؤسف أن نجد أجيالا من الجامعيين لا يميزون بين نوع من الطيور ونوع آخر، ولا يستطيعون تسمية نوع واحد من الشجر، أو نوع واحد من الزهور، بل عندهم كل الأنواع ترتد إلى "طائر"، أو "شجرة"، أو "زهرة". ومن المؤسف أن ترى شعراءنا يتغنون بصور بالية لا تربطهم بها روابط حسية، فلا يخرج المادح منهم عن ترديد عبارات جوفاء من قبيل "أنت كالبدر"، أو "عيناك كعيني غزالة". وهذا لعمري فقر مدقع، وخلل كبير مرده إلى مراحل تكوين الإنسان الأولى. ليس الهدف من الإحالة على نموذج تربوي آخر هو الدعوة إلى استنباته في الوطن العربي والإسلامي، بل الهدف من وراء ذلك هو الإحالة على أوجه التقصير عندنا، وأوجه الخلل في تمثلنا للفعل التربوي ولدور الأسرة فيه. إن المقارنة تجلي لنا بوضوح ضعف جاهزيتنا البيداغوجية وعجزنا عن تأهيل الإنسان للإبداع. ولعل مما يزيد الطين بلة، هو اعتقادنا في سلامة نماذجنا التربوية التراثية من العيب أو النقص. نحن نعلم أننا لن نعدم من سيحاجنا بنماذج من الأطفال ممن يحفظون النصوص عن ظهر قلب، وممن يرددون على أسماعنا ما نشاء من المؤثورات. غير أننا لسنا واثقين من أن هذه النماذج قادرة على بلوغ نفس مراتب الإبداع التي يبلغها غيرنا. يخيل إلينا ونحن نصغي إلى الخطابات السياسية والدينية في عالمنا العربي والإسلامي أننا مفصولون عن الواقع، أو أن ما نبشر به من قيم ومثل ومبادئ هي مجرد أحلام يقظة لا تنبني على أساس، أو مجرد شرود بالخيال لإشباع رغبات غير قابلة للتحقق على أرض الواقع. والراجح أن الأصل في هذا الداء هو الخلل في العلاقة بين الحس والتجريد، هذا الخلل الذي مرده إلى فساد أنظمة التعليم والتلقين وتمرير القيم. لم تكترث مشاريع النهوض عندنا بسؤال التربية والأطفال، بل ظلت على امتداد عقود تخاطب شعوبا عاجزة عن حمل الأفكار الكبرى بخطابات إيديولوجية شمولية لا تقدم ولا تؤخر، منها ما ينشد "العودة إلى الإسلام الصحيح"، ومنها ما يبشر ب"نموذج حداثي مثالي". والحقيقة المرة أن المجتمع لا يكترث بصقل مواهب الإنسان، منذ مراحله العمرية الأولى، كي يصبح قادرا على استيعاب الأفكار وتنزيلها إلى الواقع. نظن أن في حسن استظهار أطفالنا لما نلقنه إياهم من معارف مجردة ومبادئ لا يفهمونها، دليل على حسن تربيتنا لهم. والواقع أننا نفوت عليهم فرصة فهم العالم المحيط بهم فهما حسيا، حتى إذا تقدموا في السن وجدوا أنفسهم عاجزين عن تدارك ما فاتهم إدراكه من ثقافة القراءة وبناء المعرفة. صحيح أن للمؤسسات السياسية والتعليمية والتربوية دورا كبيرا في محاربة الأمية والإرتقاء بجاهزية الأمة الثقافية، لكنه لا يقل صحة أن التعويل على المؤسسات الرسمية للقيام بهذا الدور لا يكفي. فما أحوجنا إلى وعي جديد بمركزية الطفل في عملية التغيير والإصلاح، وبدور الأسر والمجتمع في العناية بالطفولة. قد يكون الفقر حائلا دون بلوغ هذا الوعي، وقد تكون هناك عوامل أخرى كثيرة. لكن بالإمكان الإتكاء على فئات عريضة من المجتمع التي لا تعوزها المادة، فئات تعرف القراءة والكتابة، فئات متعلمة، لا يعوزها سوى الوعي بعدم مناسبة مناهجها في تربية الأطفال لمقتضيات العصر الحديث. قد يأتي الفرج من وسائل التواصل الجديدة، في حال استعملت الإستعمال الصحيح كرافعة لبث الوعي بمركزية الطفل في كل عمليات استشراف المستقبل. غير أن التعويل على هذه الوسائل محفوف بالمخاطر، إذ يخشى أن نسقط في أسر ثقافتها، فتصرفنا عن وجهتنا، أو تعيد إنتاج ما نحن فيه من تخلف وقلة وعي. لذلك، فليس من مخرج سوى أن تعي الفئات الساهرة على التربية والتعليم ذاتها بوصفها جسما واحدا، وجِهة مسؤولة عن نشر الوعي بمركزية الطفل، المادة الخام التي يصنع منها مجتمع الغد. وقد يكون هذا الإهتمام مدخلا إلى تضييق ساحة الجدل الإيديولوجي الذي رافق مشاريع النهوض، وتوسيع ساحة الفعل الحضاري البناء. *كاتب وباحث مغربي مقيم في بروكسيل