في ظل الأفق الذي يفسحه المجال الرقمي كثورة مهيمنة على تعدد وسائل ووسائط الاتصال والتواصل الحديثة ،من موقع القوة الاقتراحية وتوظيف العلم والتقنية والتكنولوجية الحديثة والمستحدثة والإمكانيات الضخمة لبناء صرح الإمبراطورية القصوى المنسجمة مع روح المنظومة "المعولمة" ليصبح معها العالم كما هو الشأن الآن"قرية صغيرة" في حجم شاشة.يجد الكتاب في علاقته بالمتلقي شكلا ومحتوى نفسه-باعتبار الكتاب نفسا وروحا ومادة ومنتوجا ثقافيا وحضاريا وإنسانيا- في و ضع جديد ومختلف ومخترق وغريب ،يحتاج لإعادة النظر في مجمل القضايا المرتبطة به،أساسها "التربية على الكتاب" وتدبير شأن التماس به بشكل مباشر ويومي،وفق سياسة جديدة وفعالة تعيد للكتاب مجده المؤسس للمعرفة وقضاياها وبوصلة تقود الإنسان-كما فعلت على مدار العصور والمراحل والتجارب والتراكمات- للإبحار في عوالم التعدد والتنوع والاختلاف في مجالات المعرفة والثقافة والإبداع ذات الإبعاد الإنسانية والحضارية. أن يقرأ الأمريكي ما يزيد على إحدى عشر كتابا في السنة،والبريطاني ما يعادل سبعة ،والالماني والفرنسي أكثرأو أقل أو يزيد من كتب في السنة،فيما يقرأً العربي ومن ضمنهم المغربي والتونسي والجزائري نظيراً لذلك-لتلك القراءات عند الآخر- ربع صفحة في السنة، وستة دقائق على مستوى التدبير الزمني ،معناه أننا في وضع لا نحسد عليه،وأن إمكانياتنا في في المعرفة والعلم والمستقبل ستكون ?لا قدر الله-نتيجة حتمية لفعل ما يحدث عندنا من تدبير لشؤون القراءة وفعل المطالعة،وأساس مناهج التربية والمدرسة،والمحصلة قد تكون كارثة. هذا على مستوى الاستئناس-لا الحصر- والإحصائيات موجودة لدى العديد من المؤسسات التي تعنى بهذه القضية المصيرية،وهذه الإحالة مستمدة من إحصائيات منظمة اليونسكو،ومع ذلك قد لا تبدو دقيقة لأن الإلمام بحدود القراءة ونتائجها وأرقامها يحتاج لراصد و فعال في شكل مؤسسة كبيرة ذات مقرات وطنية و جهوية وإقليمية ترصد كل حالات القراءة والمطالعة وبالدقة العلمية المطلوبة، فمثلا كيف يمكن أن نحصر عدد قراء القرآن في المساجد وهو قد يدوم لساعات،وقراء الأبراج،وقراء الرياضة،وقراء كتب الطبخ،فمجال القراءة لا يخص الأدب والمعرفة والفلسفة والعلم فقط،بل يتجاوزه إلى مجالات لا متناهية. والطفل عندنا في المغرب،في تونس،والجزائر كما في الدول العربية الأخرى مع التفاوت في التجارب المرتبطة جدلا بنسب الأمية وإشكاليات محموها يقرأ بالكاد ستة دقائق في السنة-هذا خارج المناهج المعتمدة في الدراسة-من حسن الحظ،وأي حظ؟ علما أن الطفل حتى حدود بلوغه 16 سنة من العمر يستوعب ما يزيد عن 7 لغات أو أكثر وقد يجيد القراءة والكتابة بهذه اللغات حسب بعض الدراسات العلمية ووفق تقويمها لهذه العملية العلمية،طبعا هذا لا يمكن أن يتم إلا عبر التوجيه المنهجي والعلمي الصرفين. ناهيك عن عدد إصدارات الكتب والمطبوعات والمنشورات والأدبيات وهذه العلاقة الإنتاجية ترتبط جدلا بالقراءة والمقروئية وتنمية الوعي والمعرفة عند المجتمعات البشرية التي تحترم وجودها واختياراتها لأشكال وأساليب تعميرها للأرض واليابسة، وأيضا لحسن اختياراتها لإدراك سبل الحياة المدنية والحضارية والديمقراطية الحقة إحدى تجاليات هذه التمظهرات. عند المقارنة بما يحدث عند الآخر، وعلى سبيل المثال -والحصر وارد - فالعالم الأنكلوساكسوني يصدر مايزيد عن مائتي الف عنوان في كل مجالات الفكر والابداع والمعرفة في السنة طبعا،ولك ان تقدر أو تخال ? لا يهم-عدد إصدارات العالمين الفرانكوفوني والإسبانوفوني إذ تشكل أمريكا اللاتينية قارته الآثيرة ،على الأقل علينا نسأل ونبحث ونعرف،أما المؤكد فإننا في الوطن العربي برمته ?الوطن العربي المترامي الأطراف والجغرافيات-لا نصل وبالكاد إلى ربع ما يصدر في بريطانيا لوحدها. تبقى الأسئلة وحدها مفتاحاٌ وجوهراٌ لمعرفة ما الذي يحدث على مستوى الدقة والتحديد وعلى الأرض والميدان،انطلاقا دائما من المقارابات السوسيو-ثقافية، والسوسيو-اقتصادية لفهم الظاهرة،وعلى أمل ان تكون ظاهرة لأن هذه الأخيرة تظهر وتختفي،على أمل دائم أن تختفي عندها الأمية الممنهجة والمخطط لها سلفا استنادا غالى السياسات التفقيرية والتبعية التي تنهجها أنظمة الاستبداد عندنا، وهذا هو الجوهر الحي فيها ،وفي حالة ظلت دار لقمان على حالها،فليس تمة من إمكانيات سوى التوغل في الأمية المستدامة،والأمية الآن لم تعد دلالتها تقليدية كما كانت مرتبطة بفعل القراءة والكتابة ،الأمية استنادا الى روح العصر تعني كل مواطن لا يتقن وبشكل جيد ثلاث لغات حية أو أربعة بالإضافة إلى لغته الأصلية والمعرفة الجيدة بتقنيات الثورة الرقمية. لا سبيل للخروج من عنق الزجاجة وشركها عدا إعداد فلذات الكبد و زهرات المستقبل وتربيتهم على شأن الكتاب وأهمية معارفه ومداركه. من موقع أن يتحمل المجتمع ومكوناته المدنية الفاعلة والدولة ودواليبها من مؤسسات على حد سواء مسؤولياتهما استناد إلى تناقضات الواقع وتدبير شؤون المرحلة،واستشراف المستقبل. فالخلل في المناهج التربوية والمدرسة هوة سحيقة لا تُعبر، لا اثر لها في التربية على الكتاب وشؤونه،والتماس الحي مع ما يضمنه الكتاب من توسيع للرؤيا والأفاق والتسلح بالمعرفة واستشراف آفاق الإبداع والابتكار والخلق. وطبيعة النصوص المدرجة في المقررات التربوية بطبيعتها الميكانيكية النفعية الموغلة في الخلفيات الايديولوجية لا تستند إلى روح العصر والحداثة،فهي غارقة في النقل والماضوية،نصوص تنويمية ، نصوص اتكالية لا تفسح المجال إلى في الحدود الدنيا والضيقة لروح فعل المبادرة الخلاقة،حتى ولو تفاوتت هذه المقرارات من بلد إلى آخر وهي تفاوتات بسيطة في مجمل مبناها ومعناها. مجتمع المعرفة والعلم لا يستقيم حاله ولا يكون له أي وجود إلا بالقراءة المستدامة التي تنمي العقل على الاستيعاب النقدي،والتقاطع مع هذه النصوص ليس من موقع المستهلك الاعتيادي لها، لكن المنشغل بتشريحها وتفكيكها العلمي،وفسح المجال لإبداء الرأي النقدي المختلف. يعيش العالم الآن،ودائما استنادا لما تحقق كمعطيات موضوعية في التعاطي الكبير والواسع واللامتناهي مع مستلزمات الثورة الرقمية وإمكانياتها الهائلة في الاستقطاب والإغراء والتجديد والفعل،على وقع التبشير ب"موت الكتاب"،وقد أتسأل هل أعد هذا العالم-عالم الثورة الرقمية- فضاءات المقبرة وشروط جنائزية الدفن وإسناد الكتاب للمحو والتلاشي..؟ في البداية كان الترويج أن نصف قرن من الزمن كاف لإنهاء وصلة الكتاب وإحالته على أرشيف التاريخ والذاكرة.الآن تقلصت المدة إلى النصف، وهناك من يجازف إلى درجة أنه يعتبر أن عقارب العد العكسي اشتغلت ولن تتوقف. صحيح أن الثورة الرقمية رافد كبير وإمكانية هائلة لتوفير المعرفة وسرعة التقاطع معها،وأنها لم تنس أن تبادر بخلق البديل وهو "الكتاب الاليكتروني" تقنية جيدة وإبداعية تضاف لمسار الإنسانية وصيرورة العلم والمعرفة. أكيد-ومن باب تحصيل الحاصل- لا يمكن لعاقل أن ينكر المزايا الاستثنائية لم توفره هذه الثورة الرقمية في تخصيب هذا المجال وتفعيله وتطويره، مجال القراءة والمعرفة والكتاب،لكن لا يمكن أن يبارك هذا العاقل من موقع تفعيله للعقل وبوصلته، إستراتيجية هذه الأخيرة في إلغاء الكتاب ?الورقي-من الوجود،ومن حياة الناس.خصوصا عندما يتعلق الأمر بنا وبوجودنا الإنساني وباعتبارنا أحد المكونات الأساسية ل"أهل الكتاب"،وأمة ارتبطت بفعل "اقرأ"، وأهم مراحل وجودنا التاريخي والحضاري كان أساسها العلاقة المثابرة مع الكتاب وتحديدا في العصر العباسي وهو ارقي العصور التي أثبتنا فيها وبفعل السلوك والإشارات الدالة الحضارية والعلمية والمعرفية حدود إسهامنا في تطوير الحضارة الإنسانية والدفع بها نحو الأرقى،والذي ارتبط بصناعة الكتاب،والتدوين والترجمة والإبداع في هذه المجالات المتعددة والمتنوعة والمختلفة وهو ما مكننا أن نكون ذات تاريخ في الصدارة من موقع الفاعل والمنتج والمبدع لا كما هو الشأن الآن. قد يكون الحل في الاستمرارية الموازية في الخلق والابتكار في المجالين،مجال الكتاب الورقي والرقمي مع احتفاظ كل واحد منهما باستقلاليته في الدفع بتطوير الإنتاج والصناعة وروح المبادرات الخلاقة،وبهذا قد نكون بصدد التنافس الشريف لخدمة الإنسان والوجود معا. من هنا تقع مسؤوليتنا في علاقتنا بالمستقبل وآفاقه تربية الأجيال على الكتاب والتماس اليومي والفعال معه.قد لا تكون هناك وصفة جاهزة ،لكن هناك أكثر من إمكانية لنكون بالفعل أمام مسؤولياتنا اتجاه الكتاب واستمراره وامتداده ،بدءا من تربية الأجيال على اعتبار الكتاب شأنا يوميا حضورا ونفسا.الكتاب قوته في الحضور في مرافق الحياة العامة والخاصة أيضا في البيت أولا،في المدرسة،في الشارع في المقهى والقطار والحافلة والحدائق والطبيعة والبحر،بمعنى أن نكون نحن القدوة أقصد المثقفين والمبدعين والمدرسيين والجامعين والصحفيين وفعاليات المجتمع المدني وكل فئات ومكونات المجتمع، القدوة على استحضار الكتاب في مرافقنا العامة وفي حياتنا اليومية العادية والاعتيادية،كيف يمكن أن نربي أجيالا على صون حضارة الكتاب ووجوده وتراثه،وإلا سنفاجأ ذات يوم ونجد أنفسنا في ظل كائنات تنقر على أجهزة لا تعرف ما الخيال،وفي غياب الخيال والمخيل والمتخيلة لا أحد فينا يضمن أي منقلب يمكن سيركن له مجتمعنا.