عشرون عاما من حكم الملك محمد السادس انصرمت متأرجحة بين الجرأة والتردد، بين التقدم والتراجع، بين النجاعة والبطء. في هذه الحقبة الزمنية الطويلة فتح الملك الشاب الذي جلس على العرش وهو ابن 36 سنة آمالا وانتظارات واسعة في مغرب الألفية الثالثة. لقد ورث محمد السادس تركة مثقلة بجراح الماضي وإخفاقاته، فكانت التحديات أمام العهد الجديد أكبر من مجرد انتقال سياسي للحكم من مرحلة إلى أخرى، بل كان الأمر ينطوي على رهان بناء أمة متصالحة مع ماضيها منغمسة في حاضرها ومنفتحة على مستقبلها. وبدأت حكاية الملك الشاب مع إطلاق أول إصلاح يتعلق ببناء علاقة جديدة بين الدولة ومواطنيها عندما أسس في خطاب أكتوبر 1999 لما أطلق عليه المفهوم الجديد للسلطة. كان هذا الخطاب تأسيسا للإطار الفلسفي والسياسي للعهد الجديد الذي بدا واضحا أنه يريد أن يحدث القطيعة مع سلوكات وتوجهات الماضي. ومواكبة لهذه القطيعة كان لزاما على العهد الجديد أن يجري التصفية النهائية لملف حقوق الإنسان وتركة سنوات الرصاص، فشكلت هيئة الإنصاف والمصالحة واحدا من أكبر الإنجازات الحقوقية جرأة وتقدمية في القارة الإفريقية وفي المنطقة العربية. وإذا كان هناك إنجاز ينبغي التوقف عنده بفخر في العشرين عاما الماضية فهو إرساء حقوق الإنسان والقضاء على سلوكات الدولة القمعية من تعذيب واختطاف واعتقال تعسفي وغيرها. لقد أصبحت سنوات الرصاص جزء من التاريخ وتكرست الممارسات القانونية في تدبير الاحتجاجات واحتواء الخلافات والجماعات المعارضة رغم القوس الاستثنائي الذي مثلته مقاربة الظاهرة الإرهابية في بداياتها عقب تفجيرات 2003 بالدار البيضاء. هذا المنجز الحقوقي الواضح كان مفتاحا لأحد أكثر المنجزات رسوخا في مرحلة الملك محمد السادس وهي تكريس الاستقرار. لقد استحق هذا الملك عن جدارة واستحقاق لقب "ملك الاستقرار" الذي جنب البلاد طوال عقدين من الزمان مطبات وتحديات أمنية وإقليمية مزلزلة منها ما عصف بأنظمة كثيرة في الجوار عندما اندلعت ثورات الربيع العربي في 2011. وإذا كان الاستقرار السياسي والأمني تحصيل حاصل في الحقبة المنصرمة فإن الاستقرار الاجتماعي كان أيضا من بين أهم رهانات الملك محمد السادس الذي حمل منذ بدايات ولايته لقب "ملك الفقراء"، فجاءت مبادرة التنمية البشرية كمحاولة لردم الفوارق الاجتماعية والطبقية وتمكين فئات واسعة من المواطنين من سبل العيش الكريم والدخل القار. لكن هذه المبادرة ظلت عموما محدودة من حيث الجدوى فلم تسعف في تجاوز حقيقي ومنتج لمعضلة الفقر والتهميش التي تعاني منها شرائح واسعة من المغاربة. لكن في السنوات الأخيرة توجه المغرب وجهة مختلفة عندما أدرك أن المستقبل الاجتماعي والاقتصادي مترابطان فأخذت البلاد سكتها في مجال تطوير القطاع الصناعي. فشكل برنامج "انبثاق" ثم برنامج "التسريع الصناعي" قيمة مضافة هامة تحسب للعشرينية المنصرمة. فقد وضع المغرب على سكة بناء اقتصاد متنوع ذو قيمة مضافة عالية يمكنه أن يخرج الاقتصاد الوطني من الارتهان الدائم لبعض الموارد الطبيعية كالفوسفاط والفلاحة. ورغم كل هذا المجهود الذي بذل على مستوى تأهيل الاقتصاد الوطني ودفعه نحو القطاعات العالية المردودية إلا أن التوزيع العادل لمنتجات وثمار هذا النمو لا تزال رهانا كبيرا ينتظر المغرب في العقد المقبل. فقد كشفت جل التقارير الاقتصادية الوطنية والدولية أن ثمار هذا النمو المسجل لا تصل بالضرورة إلى كل الطبقات الاجتماعية. وموازاة مع الانفتاح الذي يعرفه الاقتصاد الوطني على الرأسمال الأجنبي، هناك انفتاح آخر يحسب للعشرينية المنصرمة. إنه ذلك الانفتاح الثقافي الذي وضع الملك محمد السادس حجره الأساس عندما دعا وأشرف على إصدار أول مدونة للأسرة توازن بين الهوية الإسلامية ومقتضيات الحداثة. صحيح أن هذه المدونة لم تثبت بعد أكثر من سبعة عشر عاما من إقرارها نجاعتها في حل كل معضلات حقوق المرأة إلا أنها شكلت اختراقا ثقافيا مبشرا تأسست عليه فيما بعد كثير من الإصلاحات التشريعية الأخرى فتم إقرار اتفاقية الحد من كل أشكال التميير ضد المرأة، وتمكين المرأة المغربية من حق منح الجنسية إلخ. وتنتظر المجتمع المغربي فيما يتعلق بالتغييرات الثقافية الهادئة مجموعة من الملفات الساخنة كتلك المتعلقة بملف الإجهاض أو الحسم في قضية المواريث وغيرها. لقد اتضح من هذه العشرينية التي قضاها الملك محمد السادس على العرش أن إرادة الإصلاح القائمة لا تكفي وحدها لإحداثا التغيير المنشود. فما تم إنجازه لا يعدو أن يكون لبنة مؤسسة في صرح يحتاج بناؤه إلى تضافر جهود جميع الفاعلين من أحزاب سياسية ومجتمع مدني ومواطنين ليلج المغرب فعلا عشرية جديدة عنوانها العريض هو تعميق الإصلاحات وتسريعها.