في زمن ختزل فيه السلطة في من يملك القدرة على الوصول إلى المعلومة، لم تعد تهديدات الأمن تقتصر على السلاح التقليدي أو العنف المادي، بل باتت تأخذ أشكالا أكثر خفاءا وأشد إختراقا، تستهدف الوعي الجمعي، وتقوض الثقة في المؤسسات، وتنخر السيادة من بوابة الفضاء الرقمي. لقد أصبح الأمن السيبراني اليوم خط الدفاع الأول لحماية المواطن وأمن الدولة، لا سيما حين تكون المعطيات ذات الطابع الشخصي هي نقطة الضعف الأكثر حساسية، والباب الخلفي الأخطر الواجب حمايته. إن القانون رقم 08.09، بوصفه الإطار التشريعي الناظم لمعالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي بالمغرب، يعد مكسبا تشريعيا لا يستهان به من حيث المبدأ، إذ يؤسس لجملة من الحقوق والضمانات التي تحمي الأفراد من الاستعمال الجائر أو غير المشروع لمعلوماتهم الخاصة، ويحدث أجهزة رقابية مستقلة ، متمثلا في اللجنة الوطنية لمراقبة حماية المعطيات ذات الطابع الشخصيCNDP ، و المديرية العامة لأمن نظم المعلومات DGSSI التابعة لإدارة الدفاع الوطني، وهي الهيئة المكلفة بتأمين البنيات التحتية الحساسة، و الوكالة الوطنية لتقنين الاتصالات ANRT والتي تلعب دورا في وضع الإطار العام للأمن السيبراني. غير أن هذا البناء القانوني، وإن بدا متماسكا على مستوى النص، سرعان ما تنكشف هشاشته أمام إختبار الواقع، خصوصا في ظل تواتر حوادث الاختراق الرقمي، والتي كان أبرزها، الإختراق غير المسبوق لموقع الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، حيث طالت يد العابتين قاعدة بيانات تشمل معطيات حساسة لملايين المواطنين المغاربة وحتى بعض الأجانب المرتبطين بعقود خاصة مع الدولة والمؤسسات الخاصة. حدث ليس معزول عن سياق دولي متسارع تتعاظم فيه حروب البيانات، ويستبدل فيه التجسس التقليدي بالتحكم في الخوارزميات، ويغدو فيه المواطن مادة خامة في سوق المعلومات، وساحة تجريب في معركة السيطرة على العقول وصناعة القرارات. فمن الاسم الكامل إلى العنوان ورقم الهاتف، ومن التصورات السياسية إلى السلوك الاستهلاكي، تتحول البيانات الشخصية إلى عملة صعبة تباع وتشترى، وتستعمل في الابتزاز الرقمي، والتأثير على الإنتخابات، وتوجيه الرأي العام، بل وحتى في خلق نزاعات داخلية تهدد الأمن والاستقرار. فالخلل هنا لا يكمن فقط في ثغرات الأنظمة المعلوماتية، بل في بنية الوعي العام، وفي بطئ الدولة في إدراك التحول الجذري الذي تعرفه التهديدات الأمنية، وفي محدودية الترسانة القانونية التي لم تعد تواكب طموحات الرقمنة ولا مخاطرها. فالإختراق لا يقاس بعدد الحسابات المسربة فقط ، بل بمدى القدرة على تحويل هذه البيانات إلى أدوات للضغط والسيطرة، خاصة مع تنامي قدرات الذكاء الإصطناعي، ليصبح خطر التلاعب النفسي والسلوكي أكبر من مجرد سرقة رقم إنخراط أو رقم بطاقة تعريف وطنية. فلم يعد مقبولا اليوم أن يترك المواطن وحيدا في ساحة معركة غير مرئية، ويطلب منه أن يكون حارسا لبياناته دون تمكينه من الوسائل القانونية والتقنية لذلك. كما لا يمكن للدولة أن تكتفي بردود فعل مناسباتية، بل يتعين عليها وضع سياسة سيبرانية شاملة، تتجاوز الطابع التقني الضيق إلى تصور سيادي شامل، يعيد الاعتبار للخصوصية بوصفها حقا دستوريا ومكونا من مكونات الكرامة الإنسانية. إن الأمن السيبراني ليس ترفا مؤسساتيا، ولا قضية تقنية تحال إلى الخبراء فحسب، بل هو سؤال سياسي بامتياز، تتقاطع فيه قضايا السيادة، والحريات الفردية، والمصلحة العامة، وحقوق الإنسان. ومن هذا المنطلق، فإننا ندعوا إلى مراجعة القانون 08.09 وتحيينه وفق المعايير الدولية والمعطيات المستجدة، كما نأمل أن تعمل الدولة على تجويد أداء المؤسسات المكلفة بحماية الأمن السيبراني الوطني وأن تضخها بكفاءات وطنية جديدة ، فأي تفريط في السيادة الرقمية وتهاون في صون الأمن المعلوماتي ، هو تهديد مباشر لأمن وسيادة الوطن . *محام بهيئة المحامين بأكادير والعيون مقبول لدى محكمة النقض باحث في الإعلام والهجرة وحقوق الإنسان. النائب الأول لرئيس المرصد الوطني للدراسات الإستراتيجية.