من المؤكد أن الاعتراف الفرنسي الرسمي بمغربية الصحراء واعتبار مخطط الحكم الذاتي الحل الوحيد للنزاع المفتعل حدث دبلوماسي تاريخي سيكون له ما بعده. إنه إعلان من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن رفض الانفصال وما يعنيه من فوضى وقلاقل، وانفتاح على التوجه الوحدوي بما يعنيه من نماء واستقرار وحرص على مستقبل أفضل للمنطقة. هذا ما احتوته رسالة الرئيس الفرنسي في ثناياها تصريحا وتلميحا، وهذا ما تفتحه أمامنا النتائج المنتظرة من وراء هذا التطور الدبلوماسي الكبير. إنه تطور ينطوي على مكاسب ثنائية للبلدين فرنسا والمغرب، ومكاسب جيواستراتيجية تشمل منطقة الساحل والصحراء برمتها. ولعل التوقيت الذي جاء فيه هذا الاعتراف الرسمي الفرنسي يؤكد رغبة باريس في اغتنام فرص النمو والتقدم التي سيتيحها خروج المنطقة من دوامة النزاعات والتوترات. ويمكن إجمال هذه المكاسب التي ستعم الجميع في 4 أبعاد: 1- تعزيز الزخم الدبلوماسي لخدمة القضية الوطنية: هذا مكسب غاية في الأهمية بالنسبة إلى قضيتنا الوطنية. الموقف الفرنسي يمثل لبنة إضافية في تمتين شرعية الحق المغربي، تنضاف إلى لبنات أخرى وضعها أشقاء وأصدقاء وحلفاء مثل الولاياتالمتحدة الأميركية وإسبانيا والإمارات العربية المتحدة. وبحكم أن فرنسا بلد عضو دائم العضوية في مجلس الأمن فإن اعترافها الرسمي له وزنه في المنتظم الدولي، وقادر على تعزيز شرعية الوحدة الترابية للمملكة، ولا سيما أن الرئيس إيمانويل ماكرون تعهد بذلك حرفيا في رسالته عندما قال إن بلاده: "تعتزم التحرك في انسجام مع هذا الموقف على المستويين الوطني والدولي". ماذا يعني هذا التعهد؟ إنه يعني ببساطة أن فرنسا ستقارب كل القرارات المستقبلية التي ستتناول قضية الوحدة الترابية للمغرب في المحافل الدولية وفقا لمقتضيات هذا الاعتراف الرسمي. 2- تمكين اقتصادي وشراكة جديدة: قبل هذا الاعتراف عبر مسؤولون فرنسيون في زيارة إلى المغرب عن الاستعداد لإطلاق شراكة جديدة بين المغرب وفرنسا. هذا ما صرح به وزير الخارجية سيجورنيه خلال زيارة قام بها في فبراير الماضي. وخلال زيارة لاحقة في شهر أبريل كان هناك تصريح أكثر وضوحا ودلالة على الرغبة الفرنسية في المشاركة في مشاريع تنمية الأقاليم الجنوبية. فقد صرح وزير الاقتصاد والمالية والسيادة الصناعية والرقمية الفرنسي، برونو لومير للقناة الأولى بان بلاده مستعدة للمساهمة في تمويل الخط الكهربائي الرابط بين الداخلة والدار البيضاء في إطار مشاريع الهيدروجين الأخضر. هذا المشروع الطاقي الضخم هو نفسه الذي وردت الإشارة إليه في خطاب جلالة الملك يوم أمس بمناسبة ذكرى عيد العرش وفي سياق الحديث عن الابتكار الطاقي في محاربة أزمة الماء. اعتراف فرنسا في هذا التوقيت ينطوي إذاً على وعي استباقي بما ستشهده الأقاليم الجنوبية على مستوى مشاريع التنمية، وهي لا تريد أن تضيع فرص التعاون المشترك في هذا الإطار. ومن المؤكد أن متابعة الفرنسيين للمبادرات الاقتصادية والتنموية التي يقدمها المغرب في غرب إفريقيا تعد أيضا عاملا جاذبا لبلورة هذه المواقف السياسية الرشيدة. يكفي أن نذكر هنا مشروعي أنبوب الغاز بين المغرب ونيجيريا ومشروع الربط البحري الأطلسي. وهي بالمناسبة مشاريع ستمثل فرص تعاون هائلة بين البلدين. 3- مرحلة جديدة في إدارة التحديات الأمنية: بعد هذا الاعتراف الفرنسي الرسمي يمكننا أن نؤكد أن الرئاسة الفرنسية تحققت تماما من خطورة التوجهات الانفصالية وانعكاساتها المرجحة على استقرار منطقة الساحل والصحراء، وإمكانية تأثيرها في مصالح فرنسا نفسها بالمنطقة. الأقاليم الجنوبية ليست بعيدة عن المناطق الأمنية الملتهبة التي تشهد تفاقم الصراعات بين الأنظمة المنهكة والجماعات المسلحة، واستمرار الظاهرة الإرهابية علاوة على تناسل الحركات الانفصالية في بعض دول المنطقة مثل مالي والنيجر. دعم الوحدة الترابية للمملكة المغربية يمثل إذاً دعما للاستقرار في هذا المناطق، ومرحلة جديدة في إدارة التحديات الأمنية التي تواجهها. ومن الضروري أن نشيد في هذا السياق بذكاء الرئيس الفرنسي الذي اقتنع أخيرا وبشجاعة أن اختلاق دويلة وهمية في الإقليم لن يزيد إلا نيران الفتن وبؤر التوتر. 4- في أفق مغرب عربي موحد: إذا كانت فرنسا التي تمثل القوة الاستعمارية التاريخية في المنطقة قد اتخذت هذا القرار الواضح والصريح وأعلنت رسميا دعمها لسيادة المغرب على صحرائه، فهذا يدعونا على الأرجح إلى التفاؤل بإمكانية الطي النهائي لهذا النزاع المفتعل. ونهاية هذا الملف بصفة رسمية يمكن أن تفتح آفاقا واعدة على مستوى التكامل الإقليمي، ولا سيما المغاربي. هناك مشروع لا يزال حلما قائما على الرغم من كل العراقيل والصعوبات. إنه اتحاد المغرب العربي الذي إذا جمدته تداعيات هذا النزاع المفتعل فإن عودته إلى نطاق الإمكان الدبلوماسي تظل قائمة وليست مستحيلة. ومن المؤكد أن فرنسا ستكون أكثر ارتياحا في إدارة مصالحها وعلاقاتها بالمنطقة عندما ستجد نفسها أمام مخاطب موحد. لذلك لن نبالغ إذا أكدنا أنه على الرغم من كل المواقف الانفعالية والمتشنجة التي قد تصدر تعقيبا على هذا الاعتراف فإنه يفتح مع ذلك بصيص أمل مبشر لشعوب المنطقة وحكوماتها.