كيف انتقل التوجه الانتخابي في ظرف أسبوع واحد من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار تقريبا في فرنسا؟ ما حدث في الانتخابات التشريعية التي جرت الأسبوع الماضي في فرنسا درس حقيقي من الدروس الانتخابية النادرة التي تُظهر بالملموس أن الكثير من الإنجازات السياسية هي مجرد فقاعات مصنوعة إعلاميا، ولا علاقة لها بالواقع أو بالقاعدة الاجتماعية الحقيقية. لقد كانت جل التحليلات السياسية تتوقع فوزا ساحقا لحزب التجمع الوطني برئاسة مارين لوبين بالأغلبية المطلقة في البرلمان الفرنسي، والتمكن من فرض واقع سياسي جديد، قد يفضي إما إلى التعايش بين رئيس حكومة يميني ورئيس الدولة المحسوب على يمين الوسط، وإما إلى الإعلان عن انتخابات رئاسية سابقة لأوانها. لكن فجأة عادت فرنسا إلى رشدها. كيف حدث ذلك؟ هناك سرّ خفي في المجتمع الفرنسي يفسر هذه الرغبة في مقاربة الحدود السياسية القصوى ثم العودة مرة أخرى إلى الرشد السياسي، والاختيارات المعتدلة والمتوازنة. ليست هذه هي المرة الأولى التي يحقق فيها اليمين المتطرف اختراقا انتخابيا واعدا في الدور الأول ثم يتعرّض إلى صدمة وانتكاسة واضحة في الدور الثاني. حدث هذا الأمر في مناسبات عدة. ولم يتعظ الناخبون الفرنسيون مع ذلك، وتكررت هذه التجربة في الانتخابات الأخيرة بشكل مفرط إلى حد أن الجميع بدأ يتهيأ استعدادا لمرحلة التعايش مع حكومة يقودها اليمين الراديكالي الذي بنى خطابه السياسي على معاداة الأجانب والشوفينية المطلقة والثورة الشعبوية الجديدة. من الواضح أن الناخبين الفرنسيين يحتفظون مع كل ما نراه من تصاعد للأصوات اليمينية بقدر معين من الرشد والرزانة السياسية التي تمنعهم من الإمعان في اختيارات انتخابية متطرفة مثل هذه. الصعود الكبير لحزب التجمع الوطني في الدور الأول كان مرة أخرى مجرد جرس إنذار أو إشارة تحذيرية أرسلها الناخبون الفرنسيون إلى الرئيس إيمانويل ماكرون والحكومة الحالية من أجل الاستجابة إلى بعض المطالب التي تنامت في السنوات الأخيرة، ومنها معالجة مشكلة تدفق المهاجرين والحفاظ على الهوية الثقافية الفرنسية، علاوة على توفير الحماية الأمنية الكافية لعموم الموطنين. إنها بالمناسبة القضايا الرئيسية التي يتاجر بها اليمين المتطرف، والقائمة على رأسمال أساسي: تجارة الخوف. ومع أن للخوف سطوته التي ترعب أي إنسان مهما كان توجهه إلا أن الرسالة المعاكسة التي جاءت في الدور الثاني كانت واضحة أيضا. تخيلوا أن تنتقل كتلة ناخبة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، والقرار الوحيد الذي وحدها هو توجيه صفعة مباشرة لكتلة مناصري الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون. وهذه في الحقيقة هي الرسالة الأساسية التي أراد الناخبون الفرنسيون توجيهها لمن يهمّه الأمر. لقد قالوا ببساطة لإيمانويل ماكرون: نحن مستعدون للتصويت على أي كتلة إلا كتلك السياسية التي تدعمك. مستعدون للتصويت على أقصى الخيارات السياسية لتجنب التصويت على حزب إيمانويل ماكرون الذي أضحى اليوم بالنسبة في نظر معظم الفرنسيين مجرد عبء دستوري لا أقل ولا أكثر. بل إن جلهم ينتظر بفارغ الصبر حلول الانتخابات الرئاسية للتخلص منه. إضافة إلى المعطى التاريخي والرغبة في بعث رسالة مخيفة إلى ماكرون هناك عامل آخر لا بد من الوقوف عند دلالاته المهمة. إنه دور الكتلة الناخبة المنحدرة من أصول مغاربية. إنها الكتلة المفضلة لدى زعيم ائتلاف اليسار الفرنسي جان لوك ميلانشون الذي كان وما يزال أحد أكبر الداعمين لتسوية أوضاع المهاجرين في فرنسا، وتمتيعهم بكافة حقوقهم على غرار باقي المواطنين الفرنسيين. ابن مدينة طنجة الذي يكره توجهات اليمين المتطرف العنصرية، استفاد إلى حد كبير في نصره الانتخابي هذا من دعم واسع للفرنسيين من أصول أجنبية، وعلى رأسهم أبناء الجيل الثاني والثالث والرابع من الجالية المغاربية القادمين من المغرب والجزائر وتونس، وكلهم يمثلون اليوم قوة انتخابية حقيقية لم تعد الاستهانة بها أمراً مقبولا. لهذه الأسباب حدث إذاً أكبر انعطاف سياسي في تاريخ الانتخابات الفرنسية، وربما الغربية عموماً.