الانقلاب الأخير الذي شهدته دولة النيجر أظهر من جديد أن الشعوب الإفريقية ملت من الوجود الفرنسي في المنطقة ومن دعمه لبعض الأنظمة التي لا تفعل شيئا غير خدمة المصالح الفرنسية حتى ولو تعارضت مع مصالح شعوبها. خروج مئات الآلاف من سكان النيجر في مظاهرات مناهضة للوجود الفرنسي يؤكد هذه الحقيقة الساطعة التي لم يعد يختلف حولها اثنان في إفريقيا. هذه الحقيقة ملخصها أن فرنسا لم يعد مرحباً بها في القارة السمراء، ما لم تراجع سياساتها وتغير نظرتها الكولونيالية عن مستعمراتها السابقة. بل إن المنطلق هو أن تدرك فرنسا فعلا أن هذه البلدان كانت مستعمرات سابقة ولم تعد كذلك اليوم. ومن الواضح أن تجاهل السلطات الفرنسية لهذه الحقيقة لن يزيد الأمر إلا سوءاً في المستقبل القريب. غالبية دول الساحل الإفريقي تعمل اليوم على التخلص من القوات الفرنسية في أفق التخلص أيضا من النفوذ السياسي والاقتصادي الفرنسي. وفرنسا مسؤولة كل المسؤولية عن صعود نجم روسيا وجيشها في العديد من الدول الإفريقية. لو كانت فرنسا تفي بوعودها حقا وتعمل على تكريس علاقات مبنية على منطق التعاون والشراكات المتوازنة رابح-رابح، لما سعت العديد من الأنظمة السياسية الإفريقية إلى البحث عن حلفاء بدلاء لهذا البلد المصرّ على معاملة البلدان الإفريقية بمنطق العجرفة والتعالي والتفوق الثقافي. الدول الإفريقية تشهد تحولات ديمغرافية عميقة، والتاريخ لا يرحم، والقارة السمراء التي أصبحت اليوم تمثل مستقبل النمو العالمي لا يمكن أن تنتظر مكتوفة الأيدي دولا مثل فرنسا ما تزال تؤمن بأطروحة استعمارية متجاوزة، تنظر إلى ثروات إفريقيا الطبيعية ومقدراتها، ولا تولي أي اهتمام لطموحاتها وآفاقها الخاصة في التطوير والنماء والتحرر. كان من الممكن أن تستمر سياسة إفريقيا الفرنسية في التحكم بمقاليد الأمور، والتلاعب بالأنظمة السياسية وتوجيهها لو لم ندخل عصر العولمة والانفتاح من بابه الواسع. شباب إفريقيا اليوم يطلعون على كل ما يحدث من حولهم في هذا العالم ومن الصعب خداعهم أو التعتيم عليهم. لذا من الطبيعي أن يقفوا بقوة وراء كل حركة تحررية تريد الانعتاق من قيود فرنسا المحطمة. إفريقيا جاهزة اليوم لبناء مستقبلها بعيدا عن الإملاءات المالية والاقتصادية الفرنسية، وعن الاستغلال الفاحش الذي دام لعقود طويلة دون أن تكسب من ورائه البلدان الإفريقية أي عائد يذكر. لقد كانت أمام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فرصة تاريخية كي يعيد بناء هذه العلاقة على أسس جديدة قوامها الاحترام المتبادل والتشاور واستقلالية القرار. لكنه لم يستغل للأسف هذه الفرصة أفضل استغلال، ويصر بقراراته الرعناء وتوجيهاته الخرقاء على الإجهاز على ما تبقى من سمعة فرنسا ورصيدها الفارغ أصلا أمام الشعوب الإفريقية. وقد رأى ماكرون بأم عينه في مناسبات عديدة كيف يستقبل الأفارقة كل ما يمت إلى فرنسا بصلة بقدر كبير من الاستهجان والاحتجاج والنقد. وسمع بأذنيه الطلبة الأفارقة وهم يوجهون لوما شديدا لبلده ولنخب فرنسا الغارقة في أوهام التفوق القديمة. ومع ذلك يصر ماكرون على تجاهل التحولات العميقة التي تحدث في المحيط الجيوستراتيجي لفرنسا. وأيّا كان موقفه، فإن مسار التغيير في القارة السمراء لن يتوقف. العالم فيه دول أخرى وازنة ومستعدة لتقديم الدعم والمساعدة بناء على علاقة احترام وتكافؤ. هناك روسيا والصين والهند والولايات المتحدةالأمريكية. وكلها قوى تجاوزت اليوم وبكثير النفوذ الفرنسي المتراجع، بعد أن أصبح وضع فرنسا اليوم في إفريقيا أشبه بوضع الدولة العثمانية في بداية القرن العشرين. فرنسا تستحق اليوم لقب الرجل المريض في القارة السمراء.