تتزايد يوما عن يوم العزلة التي يعيشها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وحكومته بعد أن اجتاحت احتجاجات الشباب وانتفاضاتهم ضواحي مختلف المدن ضدا على جرائم الشرطة الفرنسية التي أدت إلى مقتل الشاب القاصر نائل لسبب تافه يتمثل في عدم توفره على رخصة سياقة. وبينما يسوء الوضع الأمني في البلاد مع دخول الاحتجاجات ليلتها الخامسة يخسر الرئيس ماكرون ما تبقى من رصيده السياسي بعد أن عجز تماما إلى حد كبير عن تطويق الاحتجاجات وتوحيد القراءة السياسية لها وتحقيق وحدة وطنية تلزم في مثل هذه الظروف العصيبة. وبينما تتوالى الإجراءات الحكومية المعلنة للتصدي لتداعيات هذه الأحداث تتعاظم الفجوة القائمة بين مختلف الفرقاء الحزبيين. لكن ما الذي يمنع الأحزاب السياسية والفرقاء الحزبيين الفرنسيين عن توحيد الموقف مما يحدث؟ هذا الأمر يعود بالأساس إلى الغموض والضبابية التي كانت وما تزال تميز الماكرونية في فرنسا. إنها تيار يعبر عن خليط من المواقف والأهواء والتوجهات السياسية التائهة التي استطاعت أن تصل إلى الحكم وتستحوذ على تدبير الشأن السياسي في فرنسا على جثة اليسار المتهالك وجثامين الاشتراكيين. ولأن هذه الماكرونية ليست سوى نتيجة منطقية لموت الأحزاب السياسية وتغوّل الفاعلين الاقتصاديين وسيطرتهم على صناعة القرار فإن الرئيس الفرنسي يبدو اليوم عاجزا تماما عن مواجهة هذا الاختبار الأمني والسياسي والحضاري الكبير الذي تعيشه فرنسا الحريات والديمقراطية. فرنسا الحريات وحقوق الإنسان هي نفسها التي قادت الشرطي الفرنسي إلى إطلاق رصاصة قاتلة على شاب مراهق لا ذنب له إلا أنه لا يمتلك رخصة سياقة ويخشى من المحاسبة. لم يكن هناك أي خطر حقيقي يهدد ذلك الشرطي عندما اتخذ قرار القتل، لكنه قرار تراكم في لا وعيه ولا وعي العديد من رجال الأمن والأجهزة الأمنية الفرنسية بسبب الانشغالات العنصرية المقيتة التي تسيطر على النقاشات العمومية في فرنسا منذ أن تولّى الرئيس ماكرون السلطة في فرنسا. إن افتقاده لكاريزمية جاك شيراك وجدل نيكولا ساركوزي وحزم فرانسوا ميتران يعد تعبيرا ساطعا عمّا وصلت إليه فرنسا بسبب هذا الرئيس المراهق، الذي احترف منذ توليه السلطة تمزيق الأوراق القديمة ومحاولة كتابتها من جديد. واليوم، بعد أن اشتعلت الضواحي الفرنسية وهيمنت لغة العنف، يستنفد هذا الرئيس ما تبقى من رصيد شرعيته، ويصبح أول رئيس فرنسي تشتعل في عهده حرائق من كل الأشكال والأنواع. احتجاجات السترات الصفراء واحتجاجات الطلبة والمراهقين واحتجاجات الضواحي واحتجاجات اليمين المتطرف واحتجاجات العمال المسرّحين، واحتجاجات الفنانين والرياضيين والمهاجرين وغيرهم. إنه الرئيس الوحيد تقريبا الذي نجح في إثارة عداء الجميع وانتقادات الكل، ولم يفشل في إغضاب أيّ طرف من أطراف اللعبة السياسية أو الفرقاء الاجتماعيين، بعد أن ندر نفسه خادما وفيا لرجال الأعمال وأثرياء فرنسا، وحارسا لأجندة الرأسمال المتوحش الذي خرج من جائحة كورونا متعطشا إلى الربح والتوسع. لقد كان من الطبيعي إذاً أن تصل الأوضاع في فرنسا إلى ما وصلت إليه هذه الأيام. ولا تمثل جريمة قتل المراهق نائل إلا تلك القطرة التي أفاضت الكأس، بعد أن بلغ الاحتقان الاجتماعي ومظاهر الاستهداف العنصرية الموجهة ضد الأجانب، والعرب على الخصوص، أوجها، بينما تواصل الحكومة الفرنسية وأذرعهم الإعلامية الرسمية وغير الرسمية حملاتها العدائية الموجهة ضد الحكومات المغاربية والإفريقية، وترفض تماما الاعتراف لهذه الدول بسيادتها واستقلالية قرارها. وبعد أن كان ماكرون والإعلام الفرنسي المتطرف منشغلا بتشويه سمعة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومحاولة الترويج لأطروحة هزيمته الاستراتيجية وإظهاره بمظهر مجرم الحرب، يتفاجأ ماكرون اليوم بتلك الهشاشة البنيوية التي تميز المجتمع الفرنسي وتهدد تماسكه من الداخل، وتعلن أن فرنسا بلد من ورق، يقف على شفا جرف هارٍ يمكن أن ينهار في أيّ لحظة خاصة مع رئيس يتقن إشعال الحرائق وتمزيق الأوراق.