كان الإلحاد في مقام الكمون، إلى أن جاءت أحداث "الفوضى الخلاقة" أو "الربيع العربي" حسب الاصطلاح الأمريكي، ليخرج إلى الوجود، وإن كان حاضراً في الوجود الرقمي أكبر بكثير مقارنة مع الوجود المادي، لولا أن أي فعل رقمي، يبقى ترجمة لفعل مادي على أرض الواقع، بمقتضى القاعدة الرقمية التي تكشفها خوارزميات مواقع التواصل الاجتماعي، ومن هذه القواعد أن هذه المواقع تكشف كل شيء. في هذا السياق، أصبحنا نعاين ظهور خطاب الإلحاد في المنطقة، وخاصة في السعودية ومصر بداية، منذ عقد تقريباً، قبل تسليط الضوء على الإلحاد لاحقاً في بعض دول المغرب العربي، وخاصة الجزائر والمغرب، وإن كنا نعتقد أن هذه الظاهرة ذات صلة بالإلحاد الثقافي أو الفكري، أو قل عبارة عن نسخة فائقة من الخطاب العلماني، أكثر منها ظاهرة تحيل على الإلحاد كما هو سائد في الساحة الأوربية. موازاة مع هذه الحالات التي تهم المنطقة العربية، وهي محسوبة على المجال الإسلامي السني، نعاين ظهور الإلحاد في المجال الإسلامي الشيعي، وبالتحديد في إيران الفارسية، مع ظهور عدة أصوات تعلن عن النزعة الإلحادية، في العالمين الرقمي والمادي. ونحسبُ أن استحضار هذا المعطى الإلحادي، في كل من السعودية السنية وإيران الشيعية، يتطلب الكثير من التأمل، بخصوص مآل الخطاب الديني المتشدد، سنياً كان أو شيعياً، وزد على ذلك الإلحاد الذي يُميز بعض أتباع الحركات الإسلامية سابقاً، وهذه حكاية أخرى. مريم نمازي، ناشطة إيرانية ملحدة، تقيم في بريطانيا، ولدت في سنة 1966 في مدينة طهران، هي الناطقة الرسمية بإسم "مجلس المسلمين السابقين"، والذي تأسّس في غضون يناير 2007، أي بضع سنين بعد اعتداءات نيويورك وواشنطن. بعد اندلاع أحداث الثورة ضد نظام الشاه في إيران، والتي يُصطلح عليها ب"الثورة الإسلامية" الشيعية في سنة 1979، هاجرت مريم نمازي مع عائلتها من إيران في السنة الموالية، وعاشت متنقلة بين المملكة المتحدة والهند والولايات المتحدة، وثم عملت في مجال حقوق الإنسان في إثيوبيا، عرفت في الإعلام بنقدها للدين الإسلاميومعارضتها لتطبيق الشريعة في بريطانيا، واشتهرتبتضامنها مع نسويات "فيمين". [ليس صدفة أن الداعية المغربي المسيحي الذي يُسمي نفسه "الأخ رشيد" من مروجي مشروع مجلس المسلمين السابقين" على صفحته الرسمية في موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"]، ومعلوم عند المتتبعين، طبيعة المشاريع الإيديولوجية التي تدعو إلى "تطبيق الشريعة" في بريطانيا. تحظ ىمريم نمازي هذه الأيام بدعاية إعلامية هناك، إلى درجة الحديث عن "مقاتلة" كما نقرأ في حوار هنا أو هناك، وهذا أمر متوقع، أخذاً بعين الاعتبار تعامل العقل الغربي مع الدين، وتغول الخطاب العلماني، بتفرعاته المتعددة، منها "العلمانية الجزئية" و"العلمانية الشاملة" حسب التنصيف الشهير الذي اشتغل عليه الراحل عبد الوهاب المسيري، ويقصد علمانية فصل السياسة عن الدين، مع الأولى، وعلمانية فصل القيم عن الدين مع الثانية. أجرت النسخة الرقمية لمجلة "لوبوان" الفرنسية حواراً مطولاً مع مريم نمازي، ومما جاء فيه مثلاً، أن "الإلحاد اليوم في العالم الإسلامي أشبه بتسونامي" (كذا)" وأن "هذا التسونامي يؤكده حضور الإلحاد في مواقع التواصل الاجتماعي"، مضيفة أن "ما تقوم به مواقع التواصل الاجتماعي اليوم في العالم الإسلامي، يذكرنا بالدور الذي قامت به المطبعة مع المسيحية". مما جاء في الحوار أيضاً، أن تبنيها للإلحاد، هناك في إيران، جاء رداً على القيم التي تروجها وتدافع إيران باعتبارها "دولة دينية"، أولاً وأخيراً، خاصة أن الموت ينتظر كل من يعلن الردة عن الدين هناك (تحدثت بالتحديد عن الاتهام بالتكفير والردة والهرطقة). إذا كنا نؤاخذ بعض أتباع الحركات الإسلامية في المنطقة، وخاصة أتباع الحركات الإسلامية والقتالية أو "الجهادية"، ذلك السقوط في مأزق التماهي بين الدين والتديّن، سواء عن حسن نية أو سوء نية، إلى درجة التعامل مع الظاهرة الإسلامية الحركية، كما لو أنها تمثل الإسلام مقارنة مع باقي أنماط التديّن، فالأمر سيان مع العديد من أتباع الإلحاد في المنطقة، ومن باب تحصيل حاصل الأتباع الذين كانوا في زمن ما من أتباع الإسلاموية، حيث نلاحظ في تصريحات ومواقف مريم نمازي ذلك الإصرار على تكريس التماهي غير السوي منطقياً فالأحرى أخلاقياً، بين الدين والتديّن، مستغلة أي فرصة لنقد الحركات الإسلامية، من أجل نقد الدين، كما لو أن الإسلام يبقى [حصراً مجسداً في] الدين، وهذا اعتقاد فاسد منطقياً كما سلف الذكر. نقول هذا ونحن نستحضر موقفها النقدي من خطاب بعض الإسلاميين في بريطانيا، من الذين يريدون تطبيق الشريعة الإسلامية، أو تعاملها مع إيران باعتبارها دولة دينية، كما لو أن مسلمي اليوم، هدفهم ترويج ما يقوم به الإسلاميون في بريطانيا أو ما تسعى إلى نشره إيران. عندما يُعاين الخطاب الغربي (الفكري والإعلامي) أصواتاً من المنطقة، تروج لنموذج من نماذج الإصلاح الديني، في نسخة مشوهة من الإصلاح الديني كما جرى هناك في الغرب، والذي انطلق من أرضية دينية أساساً، بالصيغة التي تروجها مريم نمازي، فطبيعي أن ينخرط هذا الخطاب في الترويج لهذه الأسماء، وما هو غير طبيعي، أن تتوقع هذه الأسماء بأن ما تقوم به من مبادرات إصلاحية إن صح وصفها كذلك لا توجد قابلية لها هنا في المنطقة، بل إن شعوب المنطقة، لم تتصالح حتى مع المشاريع الإيديولوجية التي أساءت العمل بالدين، رغم دفاعها العلني عنه، فالأحرى ألا تعير قليل أو كثير اهتمام لهذه الأصوات التي تكاد تؤدي دور "رجل البيت الأبيض" بتعبير طارق علي، الروائي والباحث البريطاني من أصل باكستاني، ويقصد كل الأصوات العربية والأمازيغية التي تروج ما يود صناع القرار هناك ترويجه عنا، ولكن المهمة هذه المرة، تتم عبر أصوات محلية، تعتقد أتها تحسن صنعاً، بينما الأمر خلاف ذلك.