لا شيء يضاهي فرحتنا بمقدم طفل جديد؛ مولود يساوى حياة وفرحة عارمتين للجميع، فأصوات القلق والأدعية التى كانت تتردد خارج غرفة العمليات تتحول فجأة إلى ضحكات فرح بمجرد سماع بكائه، لكن هذا الفرح قد يتبدد وتكسو الأحزان الوجوه مجددا لو صارت المستشفى مقبرة لصراخ خمسة رضع خدج فجأة وبدون سابق إنذار، ففي السادس من أبريل الجاري وبمستشفى ابن سينا بالرباط، توقف نبضهم بسبب "انقطاع التيار الكهربائي" و"توقف أجهزة التنفس"، فاجعة تكشف بالملوس سوء التسيير والتدبير وغياب الحكامة داخل مستشفياتنا العمومية. ما طبيعة هذه المصادفة التي تجعل خمسة مواليد ب"حالة صحية سيئة" دفعة واحدة ويلقون حتفهم في يوم واحد؟هل يجب أن يموت 11 رضيعا مرة واحدة حتى يستقيل وزير الصحة المغربي كما فعل سابقا نضيره التونسي؟وإن كان مستشفى ابن سينا يعاني من ضعف التجهيزات، فما بالك بمستشفيات أخرى في مناطق نائية وقروية؟وهل سيكون التحقيق في هذه القضية مشابها لتحقيقات كثيرة أخرى تم تكوين لجان من أجل معرفة حيتياث الحادث، دون أن يتم تحقيق أي خطوة اللهم إغلاق أفواه المعارضين وامتصاص غضب الشارع وتحقيق استعراض سياسي. فوفاة الرضع الخمسة بالسويسي وقبله بمستشفى الليمون بالرباط، يكشف عن عمق الأزمة التي يعاني منها قطاع الصحة بالمغرب، حادثة تعد جزءا بسيطا فقط من اختلالات عميقة ومفجعة تسم قطاع الصحة ببلدنا. ذلك أن ولوج بوابة مستعجلات مستشفى "ابن سينا" بالرباط مثلا أو مستشفى "محمد الخامس" بطنجة، أشبه بلولوج باب سوق أسبوعي بأجساد تتدافع وروائح عرق تنز، وأفواه تصرخ ملئ فيها لا لبيع منتجاتها، بل لبيع صحتها بثمن بخس، صحة صارت هي أيضا تخضع لمنطق السوق المشوه وغير الشفاف، وللمتاجرة الشرسة من طرف لوبيات الطب الخاص والعام أيضا، جموع تتدافع أمام باب قاعة الفحص الطبي، أما الطبيب ورجال الأمن فيتمترسون خلف قلاع الخوف والهلع والشتائم، تفاديا لهجوم وشيك، تدافع يستمر من الجهتين، بصراخ وضجيج ووعد ووعيد. واحذر وأنت تدلف القاعة أن ترفس بأقدامك عبثا، جسدا مسجى يتكوم على الأرض بدمه وآلامه، جرب أقصى مناورات التمثيل والانهيار طمعا في سرير أبيض ولا أحد يصدق وجعه، أو طفلا رضيعا ولد حديثا أمام مرحاض عمومي. وأنت في طريقك إلى المستشفى، لا تنس أن تحمل سريرك معك وبعض الضمادات أيضا، فالأسرة والمستلزمات الطبية أقل بكثير من الأجساد المرمية على الطريق. وقد تكون سعيد الحظ وتجد واسطة أو صداقة قديمة، فأنعشها من جديد، كي تسهل مأموريتك وتفرش لك أرض المستشفى بالزهور، ولكنك غالبا ما تكون تعيس الحظ، فتجد نفسك وحيدا وآلامك، تتنفس أنفاس طابور طويل ينتظر في كيمياء أجساد متناغمة الآلام والآمال. لا أدري كيف تتطاوس وتتباهى حكومتنا بإرسال خدماتها الصحية إلى مخيمات عربية تعاني وتئن هي أيضا، أمام بؤس خدماتي صحي وطني؟ أرض الصحة بالمغرب أرض بائرة تحتاج الكثير من السماد الحكومي، بعيدا عن الشعارات الانتخابية البراقة والرنانة التي تغلي على صفيح ساخن طمعا في حقائب وزارية قادمة ومناصب سامية، فالحق في الصحة ليس منة من أحد، إن صحة المواطن هي حق طبيعي، منذ ولادته إلى مماته وضمانها واجب على الدولة والمجتمع. فهي ليست هبة من أحد، أو نتاج عمل خيري، أو تدخل سياسي، أو رشوة ندفعها لطبيب أو ممرض إنها كرامة الإنسان التي يجب أن توفرها الدولة للمواطن هو حق يجب أن يكفل لكل مواطن مغربي يعيش بكرامة في وطنه، لا باعتباره من "الرعاع" الذين يجب أن يقهرهم الجوع والموت والجهل، أو كائن شبه ميت تجرب على جسده الوصفات ومشارط الجراحة، أو جسد ينز مالا، بل كائن حي صحته مقدسة، لا تحتاج إلى واسطة أو معرفة أو تزلف وتوسل أو صراخ وبكاء للحظوة بسرير هادئ، سرير إن لم يتلق فيه تطبيبا يليق بإنسانيته، فعلى الأقل يجد فيه موتا دافئا كريما بعيدا عن أرضية المستعجلات الباردة. خمسة رضع كانوا كحلم على موعد مع أحلام كبرى مؤجلة، لكن سرير الوطن كان أضيق من أن يستوعب حلمهم، أو يحضنه، هي أجساد هشة طيعة اشتهت الحياة، لم يكتمل صراخها، انتهى عند البداية لأنهم كانوا فقط مجرد أرقام خمسة تثقل كاهل هذا الوطن.