كما سبق وأن توقعنا في المقال السابق الذي عنوناه ب(الجزائر: بين مناورات الحكام.. وإصرار الشعب على "الكل أو لا شيء". موقع "الدار" السبت 16 مارس 2019)، أن السيناريو المصري هو الذي يفرض نفسه على الساحة الجزائرية بغرض طي صفحة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وما كان يسمى ب"المشروعية التاريخية"، فإن التطورات الأخيرة تسير في هذا الإتجاه وتؤشر على تهميش ل"جبهة بوتفليقة" وأخويه (سعيد وناصر)، واستعمالها ككبش فداء بقصد تغيير ظاهر النظام السياسي وليس جوهره. حكومة برأسين كُلِّفَ بتشكيلها نور الدين بدوي لم تر النور بعد، قُلْنَا إنها ولدت ميتة، وحتى لو قُدِّرَ لها أن تتشكل، فلن تصمد إلا لبضعة أسابيع في أحسن الأحوال. فالصراعات على أشدها بين الدائرة الضيقة لبوتفليقة ومؤسسة الجيش ومن يدور في فلكها، في حين نجد أن الشارع يواصل الصمود والتأكيد على مطلب "الكل أو لا شيء". إن الأخطاء المرتكبة إبان "ثورة 25 يناير 2011" التي عصفت بحسني مبارك وأطاحت بأداته السياسية الضاربة "الحزب الوطني الديموقراطي"، تتكرر حالياً في الحالة الجزائرية بشكل جلي، إذ أن طي صفحة بوتفليقة لوحدها لم يعد لا كافيا ولا مغريا لملايين المواطنين الجزائريين الذين لم يترددوا في حمل لافتات كبيرة تعلن الوفاة الرسمية لحزب جبهة التحرير الوطني (FLN)، مشددين على ضرورة الرحيل الكلي لنظام جثم على صدورهم لمدة تقترب من بلوغ ستة عقود. هذا التحول الذي كان منتظراً لاعتبارات عدة منها ربط الحزب الحاكم (FLN) بمافيا المصالح وبالأوليغارشية المتحكمة في الإقتصاد المبني على الريع والمناورات السياسية، تجلى في مناورة جديدة للمؤسسة العسكرية المسيطرة ومن يدور في فلكها، وذلك من خلال تسريب خبر مفاده أن بوتفليقة سيتنحى عن الرئاسة يوم الخميس الفائت (21 مارس 2019)، وهو ما سيتولد عنه فراغ سياسي ودستوري قد يعصف ب"استقرار" البلاد، وهو الأمر الذي يتوجب معه اتخاذ تدابير لازمة بغية ملء الفراغ وعدم الوقوع في دائرة خطر "الدولة الفاشلة". مناورة كهذه لا يمكن أن تدخل إلا في إطار التهييء لما تُعْتَبَرُ الجزائر مقبلة عليه من تشكيل "مجلس" لتسيير الفترة الإنتقالية، وهو "مجلس" قد يشكل نسخة طبق الأصل ل"المجلس الأعلى للدولة" الذي فشل فشلاً ذريعاً، وفَجَّرَ صراعات عميقة بين الآخذين بزمام أمور الحكم في البلاد والذي أَتَى ببوتفليقة. فهل يعيد التاريخ نفسه، ويصطدم الجزائريون مع "مجلس جديد" نَتَوَقَّعُ أن يتشكل من شخصيات مدنية سياسية مستقلة وشخصيات عسكرية، مع ضرورة ترأسه من طرف عسكري قد يكون، على الأرجح جداً، رئيس أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح؟ الجواب سيحمله ولا شك القادم من الأيام. لكن الملاحظ أن هذه الأزمة السياسية المتصاعدة لم تسترع، بالشكل اللازم، باهتمام إقليمي وجهوي ودولي يليق بدولة في مستوى الجزائر، عدا بعض الخرجات الرسمية من بعض الدول، ومن بينها المغرب، والتي أكدت على حيادها وعدم تدخلها في الشأن الداخلي الجزائري واحترامها لإرادة الشعب، مما يُفَسَّرُ على أنه تحصيل حاصل لفشل رمطان لعمامرة، الرأس الثانية في الحكومة المكلفة، والذي وصفته وكالة الأنباء الفرنسية (AFP) ب"الدبلوماسي المخضرم والمحنك الذي يحظى باحترام في الخارج"، مع أن الوكالة نفسها تعمدت، بشكل ساذج وفج، الزَّجَ بالمملكة المغربية في كل هذا الذي يحدث بالجزائر، محاولةً تقديم النصح للمتظاهرين من أجل "عدم تكرار" ما تعتبره "أخطاء حركة 20 فبراير المغربية"، وهنا يمكن الرجوع إلى قصاصتها الإخبارية المطولة التي نشرتها يوم 15 مارس الحالي بعنوان (احتجاجات الجزائر: الشارع المغربي يتابع بترقب والسلطات صامتة). الوكالة الفرنسية التي من المفروض أن تتماهى مع المواقف الرسمية للدولة الفرنسية، تشذ دائما عن القاعدة حين يتعلق الأمر بالمغرب، فهي لا تدخر جهداً ولو باختلاق أمور وأحداث ليست إلا في مخيلة بعض من يعتبرون أنفسهم معارضين أو منتقدين تحت يافطة "البحث الأكاديمي والخبرة…" في مجالات معينة كحقوق الإنسان و"الحريات الفردية". كثيرون رأوا أن مبادرة رمطان لعمامرة بالإلحاح في انتزاع موعد، ولو بشكل سريع، مع وزير خارجية بلد مؤثر يعد في نظر حكام الجزائر "حليفا تقليدياً وإستراتيجياً"، تشكل بداية موفقة من أجل الحصول على الدعم اللازم بهدف تنزيل خطة القابعين والمتمترسين في دهاليز السلطة الحقيقية، وبالتالي الحصول على "شيك على بياض" من روسيا وباقي الدول العظمى بغرض "نقل السلطة" بما يضمن إستمرار الحفاظ على مصالحهم "المقدسة" المتجلية في التحكم في المشهدين السياسي والإقتصادي، والإستحواذ الحصري على العائدات المتأتية من تصدير النفط والغاز الطبيعي. غير أن الرياح لم تجر بما تشتهيه سفن "الدبلوماسي المخضرم" ومن ألبسوه جُبَّةً أكبر منه، فروسيا لم تمنحه "شيكاً على بياض"، بل إنها أنكرت أن عبد العزيز بوتفليقة قد طلب دعماً من الكرملين، وكأن سيرجي لافروف يلمح إلى عدم جدوى طلب دعم موسكو لضمان بقاء السلطة القائمة. فشل لعمامرة سيتم التعبير عنه من خلال إعفاءٍ وشيكٍ لهذا الذي عُوِّلَ عليه ليكون الرأس الثانية في الحكومة المكلفة، ولِلَعِبِ أدوار كان يُعْتَقَدُ أن لا أحد يجيدها سواه، فمعاناة "الدبلوماسي المحنك" بدأت تأخذ أبعاداً داخلية خاصة من طرف من يَعْتَقِدُ أنه قد تمت التضحية به بدون وجه حق، لا لسبب سوى دعمه اللامشروط ودفاعه المستميت عن "ما تبقى من الرئيس" المنتهية ولايته، ولا أدل على ذلك من خرجته المدوية التي اتهم فيها من وصفها ب"القوى غير الدستورية" التي سيطرت على كل شيء خلال السنوات السبع الأخيرة من حكم بوتفليقة، والتي رَقَّت غريمه لعمامرة إلى منصب نائب الوزير الأول، وَمَكَّنَتْهُ من الحقيبة التي حَرَمَهُ منها أحمد أويحيى (الوزير الأول السابق ورئيس حزب "التجمع الوطني الديموقراطي"). "الشخصية الحازمة" لإنجاح الإنتقال؟! مصير الجزائريين يبدو أنه أصبح بأيديهم، وَنَتَوَقَّعُ أن يُفَاجِئَنَا الشارع بخطوات نضالية لا تخطر على بال، وتضرب عرض الحائط بكافة السيناريوهات التي وضعتها الفئة الحاكمة الفعلية. لا شك أن مبادرة أحادية من المؤسسة العسكرية سترى النور في القريب العاجل، وسيتم طي "صفحة بوتفليقة" نهائيا مع المحافظة على الحد الأدنى من فلوله حتى يتم التوافق على صيغة معينة بشأن إحداث مؤسسة من شأنها ملء "الفراغ الدستوري" وإدارة "فترة إنتقالية" يعلم الله كم ستمتد، وإلى أي مآل سَتُفْضِي؟! مع أننا لا نَسْتَبْعِدُ فرضية وقوع إنقلابٍ مَدْرُوسٍ من داخل مؤسسة الجيش قد يكون أُعِدَّ له على نار هادئة من طرف من يرون في قادتهم من الجنرالات المعمرين مجرد ديناصورات آن الأوان لكي ترحل عن المشهد بلا رجعة. أمر كهذا سيكون إنقلاباً على الجميع، وقد يحظى بدعم من الفئات المجتمعية العريضة التي سئمت من كل الوجوه القديمة ومن السياسات التي أفقرتها ومرغت كرامتها في التراب، مما سَيَرْجِعُ بنا دائما إلى السيناريو المصري، أي إستقدام شخصية عسكرية قد تكون من المخابرات العسكرية وعلى شاكلة "بروفايل" عبد الفتاح السيسي الذي نزع البدلة العسكرية وَعَوَّضَهَا بزي "مدني" وربطة العنق، علماً بأن الحراك الشعبي الجزائري ليس ضد مؤسسة الجيش بذاتها، وإنما ضد من يستغلون هذه المؤسسة من أجل إخضاع الشعب برمته، وخدمة مصالحهم ومصالح ذويهم على حساب المصلحة العليا للوطن. في تقديرنا، وبعيداً عن كل شعبوية وشعارات تنادي بالديموقراطية الآن في الجزائر وإن كنا نؤمن بذلك، فإن واقع الحال يقول إن شخصية حازمة، ولو تنتمي إلى المؤسسة العسكرية، ضرورية لإنجاح إنتقال النظام السياسي في جارتنا الشرقية من "عهد الديكتاتورية العسكرية المطلقة" إلى "عهد الديموقراطية المدنية"، وتمكين الشعب من آليات انتخاب من يحكمه بكل شفافية ونزاهة. وإذا تحققت هذه الفرضية في ساحة الأحداث، تُرَى من سيكون عبد الفتاح السيسي الجزائري؟ صحافي*