عندما يلج الإنسان العالم الرقمي، ومن ذلك مواقع التواصل الاجتماعي، فإنه، ابتداءً من تلك اللحظة، يصبح عارياً، سواء انتبه إلى ذلك أم لا، هذا شأنه، ولو إنه من الأفضل أن ينتبه إلى ذلك، حتى يستمر في التفاعل الرقمي، مع الاجتهاد في ستر بعض العورة، على قدر المستطاع. لكي نُدقق أكثر في مفهوم "العُري الرقمي"، لا مفر من بعض الإشارات، وفي مقدمتها قاعدة أشرنا إليها من قبل، مفادها أن هناك ثلاثة مجالات، تملك أجوبة شافية عن هذا السؤال اللامفكر فيه، والخاص ب"العري الرقمي": هناك أولاً المجال الذي يتبادر للأذهان، أي مجال الخوارزميات الرقمية (وهذه تتفرع بدورها على الرياضيات والمنطق وحقول أخرى)، وهو الأكثر حضوراً في قراءة هذه العوالم، في العالم بأسره، كما نعاين مع المختبرات العلمية في عدة دول رائدة (الولاياتالمتحدة، الصين، ألمانيا)، سواء كانت تشتغل تحت وصاية صانعي القرار أو تشتغل بشكل ذاتي، عصامي، بعيداً عن دوائر صناع القرار، كما هو الحال مع إمبراطورية "سيليكون فالي" في كالفيورنيا، حيث توجد أهم المؤسسات الرقمية، ومنها مؤسسات التواصل الاجتماعي، وما يُصطلح عليه "الغافا" أو "الغافام" (نسبة إلى مؤسسة غوغل، أمازن، فيسبوك، آبل، ومايكرسوفت). وهناك ثانيا أهل علم التحليل النفسي، والذين اكشتفوا العجب العجاب أثناء اشتغالهم على العوالم الرقمية، من فرط الظواهر المرضية التي تعج بها هذه المواقع، بل يمكن الجزم بأن ما كشفته هذه المواقع لأهل التحليل النفسي، وبدرجة أقل أهل علم النفس، يساعدهم بشكل كبير على اختصار المسافات في قراءة طبائع المجتمع والأشخاص، وهوى الرأي العام، والتحولات التي تطال قيم وأفكار الإنسان المعاصر. والأمر نفسه مع الخدمات التي تقدمها التفاعلات الرقمية للدوائر الأمنية على الصعيد العالمي. وهناك أخيراً، أهل علم التصوف، أو أهل علم التزكية والتربية على أخذ مسافة قصوى من حظوظ النفس، ويملك هؤلاء العديد من المفاتيح النظرية، ومنذ قرون في الواقع، لقراءة مجموعة من الظواهر المميزة للتفاعل الرقمي، لعل أهمها النرجسية والأنانية والأحقاد والازدواجية وغيرها من الآفات السلوكية. ومن المفارقات هنا أن الفاعلين في العمل الصوفي، يجدون أنفسهم معنيون بتفادي هذه الآفات أثناء التفاعل الرقمي، وهذه مهمة ليست هينة، بما يُفسر فشل بعضهم أو العديد منهم في هذا المضمار. هناك توضيح لا بد منه، على هامش الحديث عن مفتاح علم التصوف في معرض التعامل مع العالم الرقمي: العنوان الأصلي للمفتاح هو "علوم الدين"، ومعلوم أن هذه العلوم مفتوحة على عدة مجالات وحقول ومدارس، لولا أننا ارتأينا التركيز على الخطاب الديني الذي يشتغل على قضايا السلوك والتزكية، سواء كان صادراً في مؤسسات دينية أو زوايا وطرق صوفية أو في مقامات أخرى، بخلاف السائد مع الخطاب الذي تروجه المشاريع الإسلامية الحركية، المتورطة في قضايا أدلجة الدين واختزاله وتشويه صورته، في الدعوة والسياسة والقتال، وبالتالي، لا يمكن الرهان على خطاب هؤلاء، في معرض النهل النظري الديني من أجل التفاعل النافع مع قلاقل العالم الرقمي، أو قل، من الأفضل الرهان "إحياء علوم الدين" للغزالي، عوض "مجموع الفتاوى" لابن تيمية، في معرض هذا التفاعل. (وابن تيمية هنا، ذلك الذي اختطفته المشاريع الإسلامية الحركية، وساهمت في تشويه صورته لدى المسلمين وغير المسلمين) من باب الإنصاف والاعتراف في آن، هناك مجموعة من الأعمال البحثية التي صدرت في الساحة الغربية على الخصوص، اشتغلت على بعض هذه المفاتيح، ونذكر منها كتاب "أنا أوسِلفي، إذن أنا موجود" للمحللة الفرنسية إلزا غودار، وترجمه للعربية الناقد المغربي المتخصص في السيميائات سعيد بنكراد، وهناك أيضاً كتاب آخر ترجمه الناقد نفسه، وعنوانه "الإنسان العاري: الدكتاتورية الخفية الرقمية"، وهو عمل مشترك لكل من دوغان وكريستوف لابي، إضافة إلى أعمال أخرى. في الساحة عندنا، هناك الكتاب الثاني في ثلاثية "دين الحياء" للمفكر المغربي طه عبد الرحمن، انطلاقاً من مرجعية صوفية أساساً. (نتحدث هنا عن طه ما قبل "ثغور المرابطة"، لأن طه ما بعد هذا الكتاب، موضوع آخر، يعج بالقلاقل والإساءات إلى أعماله، وليس مقام التفصيل فيه). مع الكتاب الأول، نحن أمام مقاربة تنهل من التحليل النفسي، ومع الكتاب الثاني، نحن أمام مقاربة تقترب من الاشتغال على الخوارزميات الرقمية، ومع الكتاب الثالث، نحن أمام كتاب ينهل من التصوف. سبق أن توقفنا عند بعض مضامين الكتاب الثالث في عدة محطات، وخاصة في العالم الرقمي، لذلك نتوقف هنا في إشارات، عند مضامين الكتاب الأول والثاني. مع الكتاب الأول، والذي جاء تحت عنوان دال يُحيلنا على الكوجيتو الديكارتي "أنا أفكر إذن أنا موجود"، فإننا إزاء إحالة على منعطف تواصلي وتفاعلي في التاريخ البشري، كأننا إزاء منعطف رقمي جديد، يتجاوز المنعطف الديكارتي، ما دمنا نتحدث عن وظائف جديدة ذات صلة بماهية الإنسان، نعاينها في مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا ما اشتغلت عليه إلزا غودار، وترى أن تقنية "السيلفي" من خلال تبدياته التافهة والمتعدّدة، تعتبر رمزاً لمجتمع يمر من تحولات، أقلها أنها تأخذ الشباب بناصيته بمقتضى الحضور الكبير للشباب في العالم الرقمي، وباقي فئات المجتمع. وجهت المؤلفة انتقادات صريحة إلى النخبة، معتبرة إياها الفئة التي خسرت وظيفتها المرجعية، خاصة مع انسياق نسبة من هذه النخبة في تصرفاتها، عبر تقليد ما يقوم به المواطن العادي في تفاعله مع إغراء السيلفي. بمقتضى عدتها المعرفية، تنهل المؤلفة من أعمال العديد من رموز ما بعد الحداثة، ومنهم فرانسوا ليوتار، بما يُفسر إحالتها على انهيار السرديات التاريخية الكبرى، معتبرة أن الأيقونات الخاصة بالتواصل في المنصات الرقمية، مؤهلة لكي تصبحُ لغة بديلة للغة قوامها الكلمات، وبالنتيجة، أصبحت الشاشة تلعب دوراً مركزياً في تحديد السلوكيات والتصورات، وهذا نفس الموضوع الذي توقفت عنده في كتابها اللاحق الذي يدور حول مستقبل التحليل النفسي في القارة الأوربية. نأتي للكتاب الثاني، أي كتاب "الإنسان العاري.. الدكتاتورية الخفيّة للعالم الرقمي"، والمقصود بالإنسان العاري هنا، الإنسان المعاصر أو الإنسان الحديث، أي إنسان العصر الرقمي، والمحاصر بعوالم "بيغ داتا" و"الغافا" سالفة الذكر، أو "الغافام"، وهي تقنيات وعوالم تكرس واقعاً عالماً جديداً، يبقى خاضعاً للرقابة المستمرة، بما يُفيد أنه يهدد الحرية الفردية الإنسانية. وميزة هذا الإنسان العاري أنه يتمّ اختزاله إلى "مادة استهلاكية" بتعبير عبد الوهاب المسيري، أو إنسان "مستهلك ومنتج للمعطيات التي يمكن استخدامها في العديد من المشارب التي تمتد من التسويق والتجارة إلى الأمن والدفاع، بما يمكن ترجمته إلى سيادة نوع من الدكتاتورية الخفيّة والناعمة في آن"، ومن هنا دلالة عنوان الكتاب. وواضح أن المعنيين بتوظيف هذه الدكتاتورية الخفيّة، ينتمون إلى المؤسسات الأمنية والمؤسسات الاقتصادية التي تروم الظفر بمعطيات "بيغ داتا"، فالأحرى المجموعات الكبرى العاملة في حقل الصناعات الرقمية، ومن تبعات هذه التوظيفات، أنه سيُصبح بإمكان التكنولوجيات الرقمية أن تجعل الإنسان نفسه شيئاً مختلفاً وإن اعتقد خِلاف ذلك، مع ذكر أمثلة كانت غريبة عند صدور الكتاب، ولكنها تتجه لكي تصبح "طبيعية"، والحديث عن تفكير إحدى الشركات الرقمية الأمريكية تبحث في إمكانية زرع رقائق إلكترونية تحت الجلد للقيام بعمليات الشراء والعديد من المهمّات اليومية الأخرى، وهذا ما تمّ فعلاً في عدة دول أوربية خلال الآون الأخيرة، وخاصة في السويد وبلجيكا، دون الحديث عن الأخبار التي تثير الفزع، تلك القادمة من الصين، وليس صدفة أن العمل يُحذر من تبعات هذه التطبيقات الرقمية، ومنها التأثير السلبي المباشر على النموذج الديمقراطي في نسخته الغربية مثلاً. هذه ثلاثة مفاتيح إذن، تساعد المتلقي، أي الإنسان المعاصر أو الإنسان الحديث، للتفاعل مع العالم الرقمي، وخاصة مواقع التواصل الاجتماعي، والحال أنها تتقاطع في نقاط وتتباعد في نقاط. وواضح أنه كلما كان هذا المتلقي متمكناً من هذه دروس هذه المفاتيح الثلاثة، كلما كان مؤهلاً أكثر لكي يكون تفاعله نوعياً أثناء ولوج هذه العوالم، لأنها تساعده على مواجهة لائحة عريضة من التحديات المرتبطة بها، أقلها، وعيه التام بأنه ابتداءً من اللحظة التي يلج فيها موقعاً من مواقع التواصل الاجتماعين يُصبح في مقام "العري الرقمي" كما أشرنا إلى ذلك سلفاً، وهذا ما يمكن أن تبرهن عليه تطبيفات المفاتيح الثلاثة سالفة الذكر. أما أن توظف المؤسسات الاقتصادية والتجارية والرأسماليات السياسية والأمنية، هذا الحضور، فهذا تحصيل حاصل. ونتوقف عند نموذج بسيط من هذه التطبيقات، وهو حضور الخطاب الإسلامي الحركي في العالم الرقمي، حيث إن قراءة عابرة في هذا الحضور، دون استحضار خدمات تلك المفاتيح، تفيد أنه خطاب غير مؤهل لكي يكون قدوة في الإصلاح، خاصة مع تأمل ما تقوم به تلك الكتائب الإلكترونية، من أجل شيطنة الغير، سواء تعلق الأمر بالدولة أو باقي المرجعيات السياسية والدينية والإيديولوجية، أو كل من لا يشتغل من خارج الأفق الإسلامي الإيديولوجي. لم يتسوعب هؤلاء قاعدة "العري الرقمي"، كغيرهم، لذلك فشلوا رقمياً في الظفر بثقة الرأي العام، فالأحرى ثقة صانعي القرار.