تزامن صدور أحد الأعداد الأخيرة لمجلة "فلسفة" [philosophie] الفرنسية (العدد 102، شتنبر 2016)، والمُخصص ملفه الرئيسي لدور الثورة الرقمية في توقع مصير الإنسان (من ص 46 إلى ص 67)، مع إعلان المؤسسة العربية للفكر والإبداع (مقرها بيروت)، عن جديد طه عبد الرحمن، والإحالة على ثلاثية جاءت بعنوان: "دين الحياء: من الفقه الائتماري إلى الفقه الائتماني". (مفهوم "الائتماري" هنا إحالة على الأمر، ومفهوم "الائتماني" إحالة على الأمانة، وقد تطرقت طه لمفهوم الائتمانية في الجزء الأخير من كتابه "روح الدين"، والصادر في غضون العام 2012، وأيضاً عبر شذرات في كتابه "سؤال العمل" الصادر في نفس السنة، عن نفس مؤسسة المركز الثقافي العربي). جاءت العناوين الفرعية لهذه الثلاثية كالتالي: أصول النظر الائتماني (وهو فصل نظري صرف، ويُعتبر بمثابة الأرضية النظرية لأطروحة الفلسفة الائتمانية عند طه عبد الرحمن، وجاء هذا الجزء في 284 صفحة)؛ ثم "التحديات الأخلاقية لثورة الإعلام والاتصال"، وجاء في 384 صفحة؛ وأخيراً، "روح الحجاب"، وجاء في 184 صفحة. تضمن ملف مجلة "فلسفة" مجموعة من المواد، وقبلها افتتاحية قيمة لمدير تحرير المجلة، الباحث الشاب ألكسندر لاكروا، تستحق كثير تأمل، حول ما أشرنا إليه في مضامين العدد السادس لمجلة "أفكار"، والذي تطرق لما اصطلحنا عليه حينها في ملف العدد ب"العبودية الرقمية الطوعية". من أهم مواد الملف، مقالة مُركبة بعنوان "دليل النجاة من مُجتمعات المراقبة" (من ص 60 إلى ص 63) بقلم رئيس تحرير المجلة، ميشيل إيلتشانينوف، والمادة عبارة عن تذكير باجتهادات العديد من فلاسفة المجال التداولي الغربي في موضوع التصدي للمراقبة، مُوَجهاً النصح لقارئ المادة بإمكانية (احتمالية) الاستفادة من هذه النصائح، خاصة أنها صادرة عن أهل الحكمة، حيث أحصى خمس استراتيجيات بالضبط، جاءت كل واحدة منها منفصلة، مع التركيز على اجتهاد هذا الفيلسوف أو ذلك، واللصيق بمضامين تلك الاستراتيجية، وقبل الإجابة على السؤال الذي يقف وراء تحرير هذه المادة، أي أسباب هذه المُفارقة بين مضامين ملف المجلة ومضامين الجزء الثاني من ثلاثية طه، نتوقف عند بعض الإشارات/ المفاتيح الواردة في مقالة إيلتشانينوف. استراتيجيات خمس لمواجهة سطوة الرقمي أشرنا سلفاً إلى أنه تحدث عن خمس استراتيجيات يمكن أن تساعد الإنسان المعاصر، المنخرط أو المتورط في "الثورة الرقمية"، على مواجهة هذه المعضلة، أو على التقليل من آثارها، وجاءت كالتالي: هناك أولاً، استراتيجية اللجوء التقني المُضاد، مع الاستشهاد باجتهادات جون جاك روسو (1712-1778)، الذي أشار في كتابه "خطاب حول العلوم والفنون"، إلى أن التقدم التقني في زمن الانوار إياها، يحمل في طياته مخاطر الاستلاب، ولو أنه حينها، لم يكن يسمع أهل القرن الثامن عشر شيئاً عن "ثورة الاتصالات"، بله "الثورة الرقمية"، وإنما تم ذلك عبر التطورات التي طالت المجال الفني، إلى درجه أنه قضى ستة أسابيع في عزلة بإحدى الجزر. وفيما يُشبه الإحالة على بؤس بعض الممارسات التواصلية والتفاعلية في مواقع التواصل الاجتماعي، يتطرق الباحث إلى نقد روسو لنفاق وتنميط ممارسات الإنسان في عصره، إلى درجة أنه أعلن عن تذمره، منتقداً "الأعداء السريين والأقوياء"، بما تسبب له في إثارة حساسية رموز الفكر في عصره. وهناك ثانياً استراتيجية الثورة على الثورة الرقمية، مع الفيلسوف الفرنسي جيلبير سيموندون (1924-1989)، ويرى أن تبني خيار الدفاع الشامل ضد الثورة التقنية غير مجدي، ويقصد بلك تقنية الدفاع عن الإنسان ضد الآلة، والزعم الانتصار لإنسانية الإنسان ضد لا إنسانية خوارزمية ["لوغاريتمات"] الروبوتات، لاعتبار بَدَهي مفاده أن مُجمل هذه الآلات، تمت هندستها وصناعتها من قِبل الإنسان، وبالتالي هناك هامش مناورة كبير لاستمرار التحكم فيها (ولو أن العديد من الأعمال الفنية السينمائية على الخصوص، تُقوض هذه النظرية، دون الحديث عن بعض الاجتهادات التي تعج بها الدراسات الخاصة بمفهوم "ما بعد الإنسان" أو "الإنسانية البعدية"، وهذا ملف ستشتغل عليه مجلة "أفكار" في مطلع العام القادم بحول الله). وهناك ثالثاً استراتيجية التجاهل، مع التوقف عند اجتهادات المفكر الألماني لبينز (1646-1716)، والذي تحدث حينها، للحديث عن العين المطلقة، لأنه لم يكن المفكرون يتحدثون عن "غوغل" أو "فيسبوك"، وإنما الإله، وأن هناك عقل علوي يعلم سلفاً مصير الإنسان، ومن هنا إثارة سؤال الحرية عند الإنسان، ويرى لبينز أن الحريات الإنسانية لا تتحكم فيها المعادلات الرياضية، وأن هناك هامش مناورة لدى الإنسان للتحكم في أفعاله، وأنه وحده (بعد الإله أو المتحكمين في الشبكات الرقمية)، لديه قدرة التحكم في ذلك الهامش، وبالتالي تكريس الحد الأدنى من الحرية أثناء تناول وجبة العشاء، هل سنتناول السوتشي [الياباني] أم البايا [الأندلسية]؟ أو قل، "لنكن لبينزيين" بتعبير مُحرّر المادة، بمعنى أن نُخطط للاحتفاظ بالحد الأدنى من الحرية في زمن سطوة الثورة الرقمية على الإنسان المعاصر. وهناك رابعاً استراتيجية المستوى الأمثل، حيث توقف الباحث عن عدة مزايا الثورة الرقمية في الحياة اليومية، وشبه مؤكد (لأول وهلة) أنها مزايا لا تعادي الأخلاق مثلاً، مادامت تساعدنا على التقليل من تعقيدات الحياة، وهذا عَين ما توقف عنده الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميل (1806-1873)، أحد رموز النزعة النفعية، ويرى أن مبدأ السعادة الكبرى، تتقاطع مع جوهر الأخلاق، وخاصة الأخلاق الفردية، مضيفاً أن الأخلاق النفعية لا تدعو إلى تحقيق السعادة القصوى من خلال المال، وإنما تراكم أكبر عدد من السعادة هنا وهناك، ويضرب مُحرّر المادة مثلاً معاصراً، فمتصفح الإنترنت المهتم، سيكون معنياً بإفادة باقي المتصفحين من مزايا تطبيق يرى أنه يُفيد هؤلاء. كما أن العمل الشبكي الرقمي، يساعدنا على تقديم المساعدات وعلى التضامن وتبادل المعلومات، وتكريس أخلاق التطوع، حتى نصل إلى نوع من التوفيق والجمع بين سعادة الفرد وسعادة الكل. قبل أن يُنهي الباحث تفاعله مع اجتهادات ميل بالسؤال التالي: [لكن]هل يتطلب تحقيق كل هذه الفضائل، التضحية بالحياة الخاصة؟ وأخيراً، هناك استراتيجية التحكم في الذات، وتنطلق من مُسلمة أو قل، واقع لا يرتفع: "نحن مراقبون" اليوم، عبر تقيات وآليات الثورة الرقمية، وبما أن الأمر كذلك، من المُهم التعامل بِحَذَر مع العالم الرقمي، عبر تفادي نشر المعطيات الشخصية، وعدم نشر الصور العائلية، وحُسن اختيار الأصدقاء، والانفصال عن العالم الرقمي في الوقت المناسب، وعدم الإبقاء على التواصل بشكل مستمر، وغيرها من المبادرات التي تجعلنا من أتباع الكاتب الإسباني بالتزار غراسيان (1601-1658)، والذي حرّر أحد أهم الكتب المخصصة لسؤال الذات: "إنسان الباحة"، منتصراً للهاجس الفني في تهذيب النفس البشرية، ولكن عبر الانتصار لهاجس الحيطة، لأنه يستحيل على الإنسان الظفر بالكمال، ومعتبراً أنه عبر الحيطة، يمكن أن يُحسن من أداء وتفاعله، حيث يرى مثلاً أن "الصمت هو ضريح الحذر"، وأنه أحياناً، تصبح الصراحة، الملجأ الأخير، ولكن بعد معرفة الطيبين من أجل مرافقتهم والاستفادة منهم، مقابل معرفة الأشرار لأخذ مسافة عنهم. الثورة الرقمية ومطرقة النظرية الائتمانية نأتي لجديد طه عبد الرحمن، أي مضامين الجزء الثاني من الثلاثية التي تحمل عنوان "دين الحياء"، حيث اتضح، من خلال الورقة التعريفية المصاحبة للغلاف الثاني للعمل، أنه في هذا الكتاب، يُطبق طه عبد الرحمن نظريته الائتمانية على المجتمع المعاصر باسم "مجتمع الصورة"، والذي يُواجه ثلاثة تحديات أخلاقية كبرى هي: "التفرج" و"التجسس" و"التكشف"؛ فقد جعلت هذه التحديات الناتجة عن طغيان الصورة "الإنسان المعاصر" يدخل حالة يُسميها طه "حالة الخيانة"، إذ أخلّ بواجبه في حفظ القيم الأخلاقية؛ فيَتعين العمل على إخراجه منها على "حالة الأمانة" التي تُحوّل المتفرج إلى مُشاهد والمُتجسّس إلى شاهد، والمتكشف إلى مشهود؛ ويرى أن إسهام المسلمين، انطلاقاً من دينهم، في نقله إلى هذه الحالة المطلوبة قد يتخذ طريق ين اثنين: أحدهما الطريق الائتماري الذي يتصدى لهذه التحديات الأخلاقية بجملة من الأحكام والفتاوى التي تضبط ظاهر السلوك، بانياً على مبدإ الآمرية الإلهية؛ والثاني الطريق الائتماني الذي يتصدى لها بإعادة "روح الحياء" إلى النفوس بانياً على مبدإ الشاهدية الإلهية". ونحسبُ أنه لو كان الجزء الثاني من ثلاثة "دين الحياء" مُترجماً هناك، أولاً، وكان إيلتشانينوف يؤمن بالحد الأدنى من "ثقافة الاعتراف"، لما تردد في إضافة عمود سادس للتعريف ببعض مضامين اجتهادات طه عبد الرحمن الواردة في كتاب التحديات الأخلاقية لثورة الإعلام والاتصال"، وهذه مقالة أخرى، سنتطرق إليها لاحقاً بحول الله، مع بعض تفاصيل، بعد الاطلاع على مضامين الأجزاء الثلاثة.خَصَّصَ ميشيل إيلتشانينوف خمس أعمدة (بمُعدل نصف صفحة لكل عمود)، من أجل التعريف بتلك الاستراتيجيات الخمس، في معرض التفاعل مع تحديات الثورة الرقمية، مع النهل والاستفادة من اجتهادات بعض الأهرام الفلسفية في المجال التداولي الغربي.