يعلم الشاعر أن إقامته في القصيدة تمر عبر هذا البياض اللعين وهي إقامة مؤقتة وحلمية تسعى إلى ترسيخ الانتماء إلى اللحظة الأبدية المتوهجة، لكن هيهات، لأنها لحظة توهج وانطفاء في نفس الآن ولا يعول عليها لديمومة مصير شعري مرتج بهزات الواقع وإكراهاته التي تحبط الشاعر وتعرقل توقه إلى الإبداع الحقيقي لتغدو التجربة الشعرية خيبات متتالية... الكتابة إجمالا طقس فريد وحالة وجدانية وذهنية استثنائية تحاول إنتاج نص إبداعي أو فكري خاص بصاحبها لا يكرر نفسه فيها ولا يلغي أسلافه المتخاطرين معها. وهي في نفس الوقت تدوين أثر تلك اللحظة العابرة في الصيرورة الوجودية وفي الصيرورة الإبداعية. ويمكن اعتبار الشعر ذلك الطقس وتلك اللحظة الفريدة التي تضاعف الكتابة وتشسّع احتمالاتها وتجربتها على المستحيل الممكن أسره في أثر متوالد بعمقه النووي المتمركز حول موضوع ، مشروع يأتيه الشاعر من جان. في حوارية عميقة يقترح علينا الشاعر المهدي أخريف تفتيتا لهذا الطقس الشعري الذي نسميه كتابة القصيدة فهو نواة كل قصيدة ونواة مشروع الديوان كله. يمطط نواة الكتابة الشعرية، بالصوت والوصف والتأمل، يأسر اللحظة العابرة في الصورة والكلمة في الفكرة وتجلياتها في الزمن الفائت المتلاشي المتقلب الماسخ في الوجدان المكسور المنهار بالخيبات والردات. لكن رغم متغيرات الواقع وإكراهاته ودكنة الأبدالات (بالمفهوم الصوفي عند ابن عربي) يرسّخ الفعل الشعري فضاءه الأبيض ويصرّ على ما تبقى منه في الهوامش الصامتة من الحياة / من القصيدة / من الحبر / من البياض. كيف سيؤلف هذا اللقاء المستحيل؟ وهو الشاعر المحتد بانفعالاته. يرى ما لا يرى، ويسمع ما لا يسمع، ويكتب ما لا يكتب. يقول الشاعر على لسان (بديع الرماد): ثمة نغمة منفلتة من الوصف أنت تناديها وهي تفر من الصوت ثمة صورة ينقصها الصوت أنت تلاحقها وهي تتلألأ في الصمت هذا مفتتح وصوت شبيه بمتخيل شعري يشتغل عليه الشاعر منذ عقود للبرتغالي فرناندو بيسوا الذي اختلق أسماء وهمية لينوّع من تجربته الشعرية غير أن أشباه المهدي أخريف لا يستقلون بهويّاتهم الإبداعية فحسب بل بذواتهم أيضا لأنهم رفاقه في طريق الخطر الشعري المحفوف بالكمائن والمهالك: عندما أفقت تقريبا، في الثلث الخالي وجدتني ملتذا فحسب بوخز أشباهي المختصمين طوال يقظتي الغريقة في النوم. تلك السرنمة التي ينتحر فيها الضوء والعتمة ويتحد فيها التيه بالأمان والاستقرار، يفكر الشاعر أن لعنة الآخرين أشباهه ينبغي أن تنتهي دراماها في القصيدة .أما القصيدة فتنتصر على الأسلاف حراس بوابات الشعر البديع لتجترح لنفسا بويبا لفصول جديدة. عندما أفقت وجدت الصفحة طارت ويدي تمسك بالريش كما كانت وأنا بباب الصفحة عرّاف منحوس يحضر أشباحا طلعت من بئر منحوسة ووجدت اليقظة عالية ومضببة وحوالي مرايا عشر لا سبع إذ تهرب من ظلي تعكس كل وجوهي الممحوة في الصفحة. هل يستطيع الشاعر تجاوز إرثه الشعري؟ طبعا هذا مستحيل آخر في صيرورة الشاعر المرجعية لأن الشيفرة الجينية تتحكم في نصوصه وبالتالي فهو لا ينتج سوى تنويعات من متتالية شعرية متجاورة ومتنافرة. هل يمكن للشاعر أن ينفلت من مناخات وفصول وأنهار وصحاري قصائد الشعراء العرب القدماء والمحدثين وإن لم يظهروا للعيان فهم مفككون ممحوون في الأثر المعلن عنه كبوابة جديدة لكتابة جديدة مستقلة في مشروعها مندمجة في أسفار الشعراء السابقين وكأن أخريف يعبر عن مأزق حقيقي وسؤال يشبه الهاوية: أين أنا وسط أدغال الشعراء؟ أي مسلك آمن يؤدي إلى عدن الشعر وسلالة الشعراء المستوطنين دهشة الحواس؟ لماذا يصر الشاعر المهدي أخريف على تكرار (معجم الكتابة) الذي يتوالد في بياضه كجحافل جرداء هل يريد أن يسفه طرح الشيفرة والأسلاف؟ وان الشاعر حين ينضج ويقيم في القصيدة يتخلص من أسلافه ويلقي بأشلائهم خارج قصيدته وخارج تجربته الشعرية ؟ نجد المعجم يتمطط على الشكل التالي: الحبر - الحرف - البيت - القصيدة - الشعر - الشطر - سماق -الدواة - البياض - الكلمات - الصفحة - الصفحات - الخط -النص - خطوط السطر - الورق - نمنمات - التناص - الوزن -النثر - المداد - الحواشي - القوافي - البحر - الماء - الكناية -أقلام.. يقول الشاعر أنه يبدأ من الصفحة/ البياض واللحظة المولدة للقصيدة وهي أساس تجربته الشعرية في الديوان: ماذا لو فجأة تبدد البياض بجمرة نثر هوجاء حينئذ كيف لي وأنا صاح أن أمحو في الحال خيط قوافيّ أو أذيب النثر الأهوج في القوافي؟ ماذا لو طارت الصفحة من البال ولم يبق سوى عرق سامّ يتنزّى من رأس الريشة وأنا ثمل لا مزاج لديّ لأعود إلى البال حينئذ هل أتعلق بخشبة النص العائم كالعادة؟ هل أمحو حبل غسيل حروفي من رأسي أم أغوص عميقا تحت الصفحات حتى ذلك النص المغلق من غير بياض ولا صفحات؟ يعلم الشاعر أن إقامته في القصيدة تمر عبر هذا البياض اللعين وهي إقامة مؤقتة وحلمية تسعى إلى ترسيخ الانتماء إلى اللحظة الأبدية المتوهجة، لكن هيهات، لأنها لحظة توهج وانطفاء في نفس الآن ولا يعول عليها لديمومة مصير شعري مرتج بهزات الواقع وإكراهاته التي تحبط الشاعر وتعرقل توقه إلى الإبداع الحقيقي لتغدو التجربة الشعرية خيبات متتالية لهذا يعيش الشاعر تردده الدائم بين المحقق (بفتح القاف) وغير المحقق ولا يجد الشاعر من سبيل إلا حواريته المستحيلة: ها أنت في بيت القصيدة تلتقي بهلين ثالثة يداك تلوحان نراهما تحت السطور إلى مقاطع لا تلين أما القريحة فهي طورا تكتفي بالنقر في العصاب طورا تقتفي دور المحايد من بعيد ترقب الميلاد في بيت القصيدة عاريين من البلاغة تطفوان ستراودان خيوط أفق غاص في بحر رديء ما الذي يغوي هلينك بالقوافي ؟ عيناك تنتظران ما سيفيض عن عدسات ديك الفجر من ألق كنائي. يحول الشاعر فكرة الكتابة / طقس الكتابة / تحقق الكتابة إلى مشروع أنطلوجي فمثل هذه التصورات الشعرية تكررت عند الشاعر في مواقع جميلة من دواوينه الشعري ويمكن مراجعة ديوانه (قبر هيلين) وكذلك (ضوضاء نبش في حواشي الفجر) وكأنه بذلك يمطط مكونات مشروع رحمي إلى طرائق في القول الشعري أكثر نضجا وتعقيدا. ================================================== * المهدي أخريف : في الثلث الخالي من البياض-شعر- دار توبقال الدارالبيضاء 2002 المغرب. سعيد بوكرامي [email protected]