واقفا أمام مكتبة سلمى بزنقة الصفار يدردش مع صاحب المكتبة مرت قربه كارمن، لم يصدق أن يقابلها ثانية. هنا بالذات، كانت تجوب المدينة العتيقة مع سياح إسبان من قادس نزلوا الصباح بتطوان. اقترب منها.. جرها من يدها.. استغربت لسلوكه.. كادت تصرخ.. تصورت في أول الأمر أنه يحاول الاعتداء عليها. لكن رغم تهدج صوته، قال: هل نسيتني يا كارمن، أنا يونس.لم تنبس ببنت شفة، ثم بعد هنيهة عانقته بشدة.بدأ الكل ينظر للمشهد السينمائي..التصق جسده بجسدها..وتعانقت أطراف أصابعهما..ولم يتمالكا نفسيهما وسط الجميع.وشرعا في تقبيل بعضهما البعض بقوة إلى حد أنها ذرفت دمعة نزلت خفيفة كقطرات الندى.دعاها لشرب فنجان من القهوة في مقهى لايبعد كثيرا عن المدينة العتيقة، كان يود تذكيرها بأيام غراثاليما.اعتذرت له...قالت:أخاف أن أتأخر..فاليوم سنغادر إلى قادس..والباطو لا يمكن له أن ينتظرنا...لم تبق سوى ساعة واحد على الرحيل..وداعا حبيبي..نلتقي السنة القادمة إذا جئت إلى قادس. أيقن يونس أنه لن يراها بعد الآن..اختفت بين أسوار ودروب المدينة العتيقة..رحلت... ركب كما كان يركب كل ستة اشهر أحد الباطوات من سبتة في اتجاه الجزيرة الخضراء..ومن هناك يسافر إلى قادس..كان له أصدقاء هناك..وفي ليلة ممطرة، وباردة التقى بكارمن داخل حانة..التقى بها صدفة...احتسيا معا كؤوسا من البيرة ..ودون أن يتكلما أو يتعرفا على بعضهما البعض خرجا معا...قضيا الليل كله يتسكعان في المدينة...يضحكان ويصرخان ويلعبان وقطيرات المطر تتساقط على رؤوسهما..اتخذا مكانا بالحديقة وشرعا في تقبيل بعضهما البعض.. عرك نهديها...أحس بقشعريرة تسري في جسده... انتشى بطعم السعادة ..كان جسدها طريا، رطبا.. وشعرها المبلل المنسدل على وجهها حريريا..فجأة انطفأ مصباح كهربائي.. خرجا من الحديقة..دعته ليقضي الليل معها في منزلها الذي لا يبعد كثيرا عن الحانة...لم يتقاعس..زادت سعادته بذلك.. في الصباح، دعته إلى السفر معها إلى غراثاليما، توجد في إقليم قادس، قرية نموذجية، فرح ..لم يرفض..كان في حاجة للترويح عن نفسه.. فيما كارمن كانت ترغب في زيارة لعمدة المدينة ماريا لعلاقة أسرية تربطها بها. كانت الطريق وعرة..خففت عنه فقط المناظر الطبيعية، التضاريس والجبال، والحيوانات التي تظهر وتختفي..حين نزلا من السيارة جذبه معمارها، الطريقة الجميلة التي بنيت بها المساكن..والتمدن التي تعرفه هذه القرية التي كان يتصورها بمنظور مختلف كأي قرية من القرى الأخرى..أدهشته فيما بعد صناعاتها التقليدية والغذائية والزراعية..لكن سلب عقله معمارها. في الليل دعتهما ماريا إلى حفلة بعد تناول العشاء في مطعم لابوستاديا ..تصادفت مع زيارتهما..يحيي فيها سكان البلدة ذاكرتهم التاريخية والثقافية.. أراد أن يكون لوحده بالخارج ليدخن سيجارة.. لمح كارمن قادمة صحبة ماريا..وأفواج من الناس بملابس تقليدية تعود لفترة تاريخية ماضية..بدت له كارمن كراقصة فلامنكو..أحبها كثيرا لجمالها..أمسكت بيده ونظرت إليه نظرة رقيقة..وابتسمت..وبدأ مشهد من المسرحية، الحفلة..يستعيد فيها الممثلين ذكرى الأشخاص الذين تعرضوا للقمع خلال فترة الحكم الديكتاتوري..المقابر الجماعية للاشخاص الذين أعدموا خلال الحرب الاهلية الإسبانية..لم يستمر يونس في مشاهدة ما تبقى من المسرحية..طلب من الساقي قدحا من البيرة.وارتشف رشفة خفيفة، ثم عاد إلى فضاء الحفل..كان الجميع يعيشون اللحظة..الشراب، الطعام، الغناء، البيع والشراء، طلقات الرصاص،الاطفال الذين يركضون ويشعلون النيران بالعيدان..اقتربت منه عجوز إسبانية رفقة زوجها رغبت في الحديث معه، فيما زوجها يمسك بيديها.. كانت ملابسهما التقليدية غريبة شيئا ما ، رمقها بنظرة عطوفة..وابتسامة رقيقة، قالت: هل لكم أنتم في بلدكم مثل هذا، رد :سيدتي ، ماذا تقولين، نحن لنا عاداتنا وتقاليدنا..مختلفة عنكم..قالت بصوت خافت: أنا أحب المغرب، وسبق لي أن زرته مرارا، وكم أشتاق إلى زيارته مرة أخرى..لكنك تعرف كبر السن..يحول دون تحقيق تلك الرغبة. أجاب: اهلا وسهلا بك سيدتي في أي وقت.قالت: أتعرف لماذا نحيي في غراثاليما هذا الماضي..لنعايشه..ليبق أبناؤنا ملتصقين بجذورهم التاريخية والثقافية..ليعرفوا ما جرى في عهد السيبة..والمعانات والصعوبات التي عاشها أجدادهم...إننا يابني نعيد إنتاج تاريخ مليء بالحب والدم. ظهرت كارمن فجاة وهي تبحث عن يونس، طلبت منه أن يرافقها.ودع السيدة العجوز وزوجها بكل احترام، ثم رافق حبيبته. في الصباح، تحدثت إليه كارمن، قالت: هل أعجبتك الحفلة. حرك رأسه إلى اليسار..لم يتحدث كثيرا ذلك الصباح..اكتفى فقط بشرب فنجان قهوة..غادرا الفندق للتوجه إلى قادس..في الطريق، داخل السيارة، افتكر جمال غراثاليما ونسائها..انصهار الإنسان مع الطبيعة..البساطة..التمدن..الحب..الصمت..الحركة..افتكر كل هذا ..ونظر إلى وجه كارمن.. إلى النافذة..ثم راح في سبات عميق... ================= يوسف خليل السباعي تطوان- المغرب