أنفاس الكلب المريض تتردد، تتصاعد، تتلاحق، وتمتزج بحشرجة فتطرد النوم الوجل المتعثر على أهداب عيني سمير. ومنذ سبع ليالٍ متواصلة والكلب ليبر يحتضر في الغرفة المجاورة حيث تنام صاحبة المنزل، والجدار المصنوعة من ورق المقوى لا يقوى على منع توجع الكلب أو صد عبارات المواساة التي ترددها صاحبته الفرنسية من اختراق أُذني سمير وحرمانه من النوم. كم مرة غازلته فكرة التخلص من الكلب، ألحّت عليه، ذكرته بالماضي، كانوا يفعلون ذلك في قريته الصغيرة فيريحون الكلب المسعور أو المسلول ويستريحون. ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟ فالوصول إلى القمر أيسر من الانفراد بالكلب ليبر هذه الأيام، إذ أن مدام ديبون لا تفارقه البتة، فهي تمرضه وتواسيه بلمساتها وهمساتها ونظراتها الحزينة طوال النهار. إذن، متى يموت الكلب ليبر فيستريح ويريح؟ في الصباح وقبل أن يذهب إلى جامعته كان عليه أن يساعد مدام ديبون على حمل هذا الكلب في بساط والنزول به إلى الطابق الأرضي لكي يقضي حاجته في الشارع المجاور كما تعود، ثم عليه أن يحمله معها ويرتقي السلالم الطويلة ليصل إلى الطابق الرابع وهو يحاول أن يخفي لهاثه ويضبط أنفاسه. كم تمنى لو أن هذه السيدة اختارت كلباً أصغر حجماً وأقل وزنا من هذا الكلب الألماني الضخم من نوع الراعي، أو أن هذه البناية القديمة لحقتها التكنولوجية الفرنسية على صورة مصعد كهربائي. لنسترح قليلا هنا، ياعزيزي ! كما تحبين، سيدتي ! تصوّر، يا عزيزي سميغ، أن الطبيب البيطري الثاني الذي عرضت عليه ليبر لعلاجه هو الآخر وبكل وقاحة اقترح إعطاءه الحُقنة (القاتلة). ما أبشع هذه الوحشية ! لعل الطبيب أراد أن يضع حدا لآلام ليبر ومعاناته، يا سيدتي ! لقد فقدنا نحن الفرنسيين اليوم الذوق واللطف الرفيعين اللذين كنا نتحلى بهما. أنا متأكدة يا عزيزي سميغ أنك لا ترضى بذلك، فأنتم العرب أرباب مدنية عريقة، لقد كان جدي الأكبر أحد علماء الآثار الذين رافقوا نابليون إلى مصر، وأمي كانت تجيد قراءة اللغة العربية، وأنا أعرف الشيء الكثير عن حضارتكم، فأنتم تعتبرون الكلب كائن حي كالإنسان له مشاعره وأحاسيسه التي ينبغي مراعاتها. لا شك أن هذه العجوز تهرف بما لا تعرف. آه لو رأت الكلاب السائبة في البلدة المجاورة لقريته حينما كانت الشرطة تطاردها من آونة لأخرى وتقتلها رميا بالرصاص. هو يذكر ذلك جيدا ورآه بعينيه عندما كان صغيرا. وكان أخوه الكبير يداعبه أحيانا بقوله: لا تخرج يا سمير من الدار هذا الصباح فالشرطة تتصيد الكلاب اليوم وأخشى أن يتوهموا بك. وحتى في قريته، حيث تستخدم الكلاب للحراسة، ليس هنالك من فلاح يسمح لكلبه بولوج الكوخ أو الاقتراب من مجلس الجماعة. الكلاب جميعها نجسة. أما هنا في فرنسا فهم يطعمون الكلاب بأيديهم ويغسلونها في حماماتهم ويفعلون كل شيء من أجلها، وحتى البقالات الكبيرة تمتلأ بالأطعمة الشهية الخاصة بالكلاب. لا ينسى حينما اشترى ذات مرة في أول أيام إقامته في باريس بعض المعلبات لنفسه من البقالة الكبيرة وعاد بها إلى الدار، وعندما رأتها مدام ديبون تللك وجهها وهي تقول: شكرا لك، يا عزيزي سميغ، على هديتك الكريمة. لا بدّ أن ليبر سيقدر لك صنيعك بعد تناول هذه الأطعمة اللذيذة. الآن أعرف أنك تودني حقا، فالمثل الإنجليزي يقول: " مَن يحبني يحب كلبي". ربما لا تدري أنني درست اللغة الإنجليزية وسافرت إلى ..." أما اليوم فليبر لا يقوى على الأكل منذ سبعة أيام، ومدام ديبون تجلب إليه طعامه في ميعاده وتضعه أمامه، تقربه إليه، تدعوه متوددة، فينظر إليها بعينين ذابلتين أسى، ثم يلتفت بتؤدة إليها كأنه يعتذر عما يسببه لها من نصب وحزن. أرأيت، يا عزيزي سميغ؟ لم يعد ليبر قادرا على تناول طعامه، وأنا خائفة خائفة حقا هذه المرة. يا إلهي، ماذا سأفعل إذا فقدته؟ وتغمض عينينها المرهقتين كأنها تصلي من أجل ليبر. وتطول إغماضة عينيها، وتمر في مخيلتها صور من رفقتها الطويلة السعيدة مع ليبر. منذ خمسة عشر عاما وليبر رفيقها في وحدتها، أنيسها في عزلتها، يجلس معها في المساء والظلام يدثر المدينة النائمة، والمطر يغسل نوافذها برفق، والريح تداعب أغصان أشجار حدائقها المستسلمة، وليبر يضع رأسه الدافئ على فخذها فتستسلم للنوم. وفي الصباح حينما تستعد للخروج تخاطبه: ليبر، أين وضعتُ المفاتيح؟ ليبر، ألم ترَ حقيبتي البيضاء؟ ابقَ هنا حتى أعود. كن عاقلا. وفي العصر يخرج معها إلى الحديقة القريبة وهو يقفز هنا وهناك، وترمي له الكرة فيلتقطها ويعود إليها مسرعا. وفي الطريق إلى البيت يلتقي ليبر بكلب آخر فيقف كأنه يتبادل التحية معه، فتتبادل هي الأخرى كلمات المجاملة مع السيدة صاحبة الكلب الآخر، إن لم تكن التقتها سابقا، وإذا كانت من معارفها تشعب الحديث. آه يا إلهي، ماذا سأفعل إذا فارقني ليبر؟ أنفاس الكلب ليبر تتلاحق صاعدة هابطة وتمتزج بحشرجة حزينة، وتختلط مع نحيب خافت، ثم تتلاشى رويدا رويدا ولا يبقى سوى نحيب الأرملة المتوجع المتقطع. ==================== بقلم: علي القاسمي كاتب عراقي مقيم في المغرب