في طفولتي التي كانت مزيجا من غيم الحزن و مياه السعادة ، كان اللون الأزرق حاضرا بكثافة الموج و استطالة صفحة السماء ، و كان إعجابي بكل متلون بالزرقة يتدفق إلى عيني فيسحرهما و يستوطن نفسي فيغرقها في ماء السكينة و صفاء الحياة. يشدني بالنظر و التأمل فضاء السماء الأزرق الجميل ، و يستهويني بالسحر و الإغراق في التفكر منظر البحر مستلقيا على زرقته الممتدة على مدى البصر و طول الأفق . أحببت الماء ، و أردت إمساكه .. أحببت العوم و الغرق ، فكنت لا أفوت فرصة وجوده إلا و غطست و سبحت و أمسكت بما أستطيع منه ، و عاركته و عبثت حتى أمل . أتتبع مواطنه حيث كان ، فلم أدع بئرا إلا و انغمست فيها و لا نهرا إلا و جريت مع جادته ، و لا بحرا إلا و سكنته و سكنني و تلهيت بموجه و أغرقت فيه رغبتي و عشقي للسباحة . بلغ بي جنون البحر و أنا الذي أتقنت فن العوم قبل أن ألقاه .. حدا لا يوصف ، و قد كنت تمرست على صحبة الماء و مخالطته منذ أيام طفولتي عندما كنت و مجموعة من الأصدقاء الأشقياء ،نلجأ إلى بئر واسعة و عميقة ، نمضي فيها معظم ساعات يوم الصيف القائظ ، نستظل في ظل النخل و بيت من الجريد ، نأكل ما نحضر من الطعام و نسبح ونقفز في الماء حتى يصيبنا الجهد ، فنرتاح ثم نعاود حتى ينقضي يومنا ، و قد تطير بنا فكرة مجنونة فنحمل أنفسنا على ستار الظلام و نسير مسافة طويلة إلى بئرنا في تلك الغيطان البعيدة ، فنغطس غطسة أو غطستين كنا نسميها غطسة منتصف الليل ، و لعلي الآن، أسميها غطسة الجنون . لعل بعد البحر عن مكان إقامتي عاظم تعلقي به و محبتي للهو و العبث في مائه و تمني ذلك .. أذكر أول مرة التقيته فيها .. من دون مقدمات ألقيت نفسي و قد كان بها شوق كبير ، في أحضانه ، و لست أدري لم كانت حفاوته بي كبيرة لا توصف ، مع أنه كان غاضبا في ذلك اليوم ، و لم يكن هادئ الطبع و لا ساكن الروح ، أرغت أمواجه على صفحته كرؤوس الشياطين و استرسلت أنا في معانقته و احتضانه و الإمساك بما أستطيع من موجه ، و القبض على تلك الرغبة التي يطاردها الغرق . النزول إلى البحر متعة كنت أقدمها على كثير من الأعمال الهامة ، أذكر و لمرات عديدة ، و قد صادف حضوري لملتقيات و مؤتمرات أقيمت في أماكن بجوار البحر ، لم يكن الأمر حينها في متناول قدرتي و لا تحت سيطرتي ، عندما كنت أترك قاعة المحاضرة و الأشغال و أتسلل في صمت لأزاول متعتي ، فلم يكن البحر بالصديق الذي أفرط فيه و هو على هذه المقربة المغرية ، يكاد صوته في أذني يطغى على أصوات المتكلمين ، و ما هي إلا أيام ستشتد بي الحسرة بعدها إن أنا أفلت لحظات طفولتي العائدة ، و خيالات أصدقائي الأشقياء و كأني بهم ينادونني و أنا أسمعهم .. أترك كل شيء و الحق بنا عند البئر التي صارت في مثل طول السماء و عرضها . لعلني أيضا أبالغ في سرد هذا العشق الخاص .. و لكنني أدرك أن لي عالما نسجته تلك الزرقة و صبغته ، و تلونت بلونه رغبة ظلت تسكنني ، و أريد أن أسكنها وحدي ، فأنا أفضل البحر في جوار الوحدة و أسعى لأتخذه خلوة ، لا أحب زحمة المصطافين و لا كثرة الزوار و مظلاتهم ، لا أحب طرائق تعاملهم مع الماء و لا ألعابهم و لا نظراتهم ، و لا طقوس المغازلة التي يحب الكثير ممارستها ، فعلى ضفاف الزرقة ريشة واحدة لرسم البحر ،و وردة واحدة لعشقه . لست أتذكر الآن كم من الشعر ألهمته في متعة التأمل و كم من الأغنيات رددت على إيقاع الموج ، و لكنها ذهبت و اندثرت .. بلا أسف و لا حزن فقد كنت أنشدها و أسمعها آذان البحر و روحه ، و الساعة في يقيني أنها محفوظة في أعماقه ، يهديها في كل مرة لشبكة صياد ، أو لؤلؤا تتزين به أجمل النساء. على ذكر الجمال .. كنت دائما متسائلا عن سر جمال هذه اللوحة بنفس اللون .. زرقاء و أزرق ، لعله في تدرج هذا اللون .. فاتح في صفحته القريبة يدكن كلما ازداد بعدا و اتساعا ، يزينه ذلك البياض الناتئ كلما تخبط الموج على ظهره و انتفض ، و يصنع لنفسه شيئا من الاخضرار و شيئا من حلكة الليل ، ربما هذا سر جماله ، فهو يصنع لوحة نفسه بنفسه و يغيرها و يتفنن في إظهارها و عرضها ، كأنه يقلبها في زوايا رواق و على انكسارات الضوء ، و كأنه يلعب بأبصارنا يستحل فينا مخادعة هذا العقل البسيط أمام جلالته و هيبته . ربما يرعبنا و يرهبنا لنقول إنه جميل ، لننبهر و نعترف ، شيء آخر من ذلك السر ، إنه ينطوي بالرغم من جماله و وداعته ، على انقضاض الموت إذا انخدع له عاشقوه و راكبوه ، و على قوة الدمار إذا انقلب مغاضبا على هذه الأرض الصغيرة ، يحتفظ بالتأكيد بتوازن الرعب ، و مطلق الرهبة ، يغلفها بقماش رسام تفنن بكثير من الزرقة ليرسم لنا جمالا نقبع أمامه و نتعرى له و نلقي بأجسادنا في أحضانه ، و ننشئ كلمات الحب و نكتب الروايات و ندبج الأغاني و الشعر و نعشق برعاية مهابته و على أسرار جماله . الآن أيها البحر ستنطفئ فيك تلك الشعلة التي تسمى شمسا ، ستغرق فيك كما أغرق دائما ، و ستذوب كما ذابت أغنياتي و أشعاري في أعماقك ، الآن سأقوم من مقامي هذا بعد أن ألهمتني شيئا من الكلمات و سافرت بي إلى زمن الطفولة ، و أراك سيصمت لك الكون ، و يبقى صوتك يضج طول الليل ، و أنت لا يراك أحد بعد أن تمسح زرقتك ، أو تطوي لوحتك و تركنها في إحدى زوايا المرسم .