صدرت مؤخراً في بيروت عن الدار العربية للعلوم الطبعة الثانية من رواية بدو على الحافة للكاتب المغربي عبد العزيز الراشدي، وكانت قد صدرت في طبعتها الأولى عن دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، بعد أن فازت بجائزة الرواية في الدورة التاسعة من جائزة الشارقة للإبداع العربي ، وكانت هي الإصدار الروائي الأول للكاتب بعد مجموعتين قصصيتين هما زقاق الموتى وطفولة ضفدع الصادرة عن اتحاد كتاب المغرب كمجموعة فائزة بجائزة الاتحاد للعام 2004 . ومن يقرأ الإنتاج الأدبي بشكل عام للكاتب عبد العزيز الراشدي ، لا يمكنه تجاهل المكان الذي يشكل إلى حد كبير رؤية الكاتب وحكم اختياراته إذ يجد نفسه في مواجهة كاتب يلتحف بتراثه الصحراوي الجنوبي حيث لا فكاك من سلطة المكان الأول ومن سلطة الطفولة التي لا تموت فيه ، ينهل من تلك التركة الميثولوجية ومن معين الهوية الذي لا ينضب ، كما يجد نفسه في مواجهة كتابة ذات حدود مترامية ورموز دقيقة ، بها من الغنى والتميز وشمول الرؤية والتشكيل السردي ، حيث السرد لديه يعتمد بشكل كبير على ذاكرة المكان ، فهو يقيم عالمه المتخيل على أسس الواقع الخارجي ، بينما يراعي النسبة بين التقنيات الجمالية وتسجيلية الواقع ، فهو يذهب في كتابته إلى مدى بعيد يتخطى فيه مجرد التسجيل السطحي للمكان كما يتخطى التوصيف إلى تفكيك الواقع ، فدائماً ما نقرأ وحدات سردية تدور في موطن البداوة في هذا المكان الغني بالخيال وبدلالاته الترميزية ، في كتابة تستمد مادتها من الجنوب المغربي إلا أن ما تشير إليه من معنى لا تحده حدود ، فنقرأ عن الصحراء كوطن أو كدنيا البشر ، وهو يهتم اهتماماً كبيراً بتفاصيل عالمه ، فنرى المكان لديه معروضاً بعناية فائقة ودقة متناهية في التفاصيل ، فلا يتيه بقارئه في العموميات ، وتقدم أعماله بشكل عام نموذجاً متقناً يتوازى فيه السرد التسجيلي مع المتخيل السردي . رواية بدو على الحافة ، رواية مثيرة تلامس مناطق لا يذهب إليها الكثيرون سواء من ناحية الجغرافيا الواقعية ، أو المحتوى الحكائي ، تمتع القارئ وتأخذه بحكاياتها اللانهائية ، يجد فيها القارئ عالماً وفضاء مغايراً ، رواية مليئة بالهواجس تدور في منطقة ما بين الوهم والحقيقة ، مكتوبة بأسلوب ينم عن شغف جمالي باللغة ، بالإيقاع اللفظي والمدلول المعني ومحمولاته الدلالية المباشرة ، ما ينهض بالرواية جمالياً وفنياً وإيحائياً . لا يقف الكاتب على حافة هذا المجتمع ، وإنما يقف في قلبه يغوص في أحشائه ويجمع انشطاراته ، في كتابة على صلة مباشرة بهموم الإنسان في هذا المكان وهذا الواقع المقفر ، بشر يسوءهم التجاهل والإهمال ، التنافر الحضاري والوهم المزمن ، وفي نفس الوقت يقدم لنا هذا المكان على أنه مكان ليس فقيراً على الإطلاق بثراء حكاياته التي تكسر رتابة هذا العالم ، فالرواية تشكل احتفاء بالمكان على الرغم من هذا الفضاء الجدب في تكوين جمالي جديد حيث يسبغ خياله على الصور قوة وحيوية . تواجهنا الرواية في بدايتها بحادثة ستكون مدخلاً لحكايات الرواية المتتالية ، وهي حادثة تلك السيارة البيضاء الأنيقة ، التي تبقى قابعة في الرمال ، وتكون في نفس الوقت سبباً به تتبدد رتابة تلك البيئة الصحراوية المعتادة ، فتصبح تلك الحادثة وتلك السيارة هي الشغل الشاغل والمسيطر الأول على العقول ، كما تصبح تسلية الجميع ، حيث التفسيرات والحكايات المختلفة ، " وها قد مضى على حادثة السيارة المركونة قرب الطريق زمن ، ولا أحد يدرك بم يفترض أن توحي الحكاية التي تداولها الناس حتى أصبحت مهلهلة ، فقد تقلبت على كل أوجهها ، وزادت حواشيها والناس لا يملون " ص 52 لكن مع توغلنا في صفحات الرواية ، نمسك بخيوط تلك الرواية الأساسية ، حيث نقرأ عن هذا العاشق المتعب / الراوي ، الذي يذكر محبوبته وأحلى أيام عمره التي كانت بين لقاء بالمصادفة وفراق قاهر بالمصادفة أيضاً ، بعد أن غابت تلك الحبيبة تاركة إياه مع شخوص روايتها التي لازال يعيش معها ، وهكذا تكون الحبيبة هي الشخصية الرئيسية الحاضرة الغائبة في الرواية ، بها يرتبط الراوي الذاهب إلى هناك بالأساس لإعداد بحث عن تلك الواحات التي اكتشف أنها لم تكن واحات نخيل وإنما كانت واحات زيتون لقرون ، وبها ترتبط الرواية التي هي روايتها في الأصل ويكملها الراوي العاشق ، وبها ترتبط الشخوص أيضاً . وهذه الحبيبة هي طبيبة تطوعت لمحاربة مرض العيون في تلك المنطقة بعد أن زارتها لأول مرة رفقة وفد سياحي ، وفي ذلك اليوم أيضاً كان لقاؤها بالمحجوب أحد أهم شخصيات الرواية – الذي تقدم منها قائلاً " اسمي المحجوب ، أعرف هذه المنطقة ، وإذا شئتم أقودكم إلى تمبوكتو ، أنا رهن إشارتك في كل شيء ، قالها بفرنسية قديمة " . ص 53 كانت تلك الحبيبة مشغولة بكل أمور المكان ، تتجول فجراً تتأمل كل شيء قبل ذهابها إلى عملها في المشفى المتهالك ، وكانت تشغلها أيضاً سيارة الغرباء ، يشغلها موت عبد النور ، وكانت تحاول أن تؤكد حقيقة ما تعتقده عن أن موته كان بفعل فاعل وأنه مات مقتولاً ، إلا أن مسئول الأمن كان يسخر من حماستها وتأويلاتها التي يحسبها خيالية ، وكانت تحلم به صبح مساء وبروحه التي تطلب الحقيقة . تمتلئ الرواية بالحكايات ، بدءاً من حادثة السيارة وهؤلاء الغرباء الذين كانوا بداخلها وهربوا بعد الحادثة ، إلى حكايات الخطر والخوف خاصة على الأطفال من الباحثين عن شخص يتميز كف يده بسمات معينة يحتاجها من يفتشون عن الكنوز المخبأة ، والحشاشون الذين عمدوا إلى التنقيب عن قطعة حشيش بداخل تلك السيارة التي ظنوا أن أصحابها الغرباء جاؤوا بغنيمة كبيرة منه ، كل هذا إضافة إلى حكايات المحجوب الذي هو حكاء هذا المكان وحكاء الرواية أيضاً فهو يملأ الرواية بحكاياته حول الحادثة ويظل يحكي ويحكي عن هؤلاء الغرباء ، كما تتوالى الحكايات عن عبد النور وعن تعاونه مع النصارى ( الأوربيون ) ، وعن مقتله ، وعن إيطو التي يجلبها للزواج بها وعن عسو الذي كان يرغب في قتله . هكذا تدور الرواية بين ذكريات الراوي مع محبوبته وبين معايشته لأوراقها وهواجسها وحكاياتها وتفاصيلها التي يكملها ويقرأ مذكراتها مستعيناً بها على إتمام الرواية ، إلى أن يكتب الراوي السطور الأخيرة من رواية محبوبته ، يكتبها ويشطبها في خضم حيرته بين الصدق والكذب بين الوهم والحقيقة . ...................................... د.مروة متولي كاتبة وناقدة مصرية