في الخامس والعشرين من أبريل المنصرم انفردت أسبوعية "الأيام" بنشر حوار مع "بييريت" أرملة محمد امجيد، الرئيس السابق للجامعة الملكية المغربية للتنس التي وافتها المنية أول أمس الاثنين في حادثة سير مميتة أثناء ممارستها لرياضة المشي. "بييريت" كانت فتحت قلبها للصحافية نجاة أبو الحبيب ووضعت بين يديها غيضا من فيض من الأسرار والذكريات مع زوج ذاق مرارة الاعتقال إلى أن رحل عن هذا العالم عن سن الثامنة والتسعين.
كيف تتذكرين أول لقاء لك مع محمد امجيد الذي ستعيشين معه ستين سنة من عمر زواج؟
كنت قد قدمت إلى المغرب بعد حصولي على عقد عمل لمدة عامين كممرضة في مستشفى عمومي وكان من المفروض أن التحق بمستشفى بمدينة مكناس، لكني فوجئت بعد وصولي إلى إدارة الصحة العمومية بالرباط بأن عليّ تحويل وجهتي نحو مدينة آسفي التي كان مستشفاها يحتاج لممرضة في قاعة العمليات الجراحية، كان ذلك في سنة 1953.
لم تكن لدي معرفة سابقة لا بمدينة مكناس ولا بمدينة آسفي، لكني قبلت العرض على الفور. وصلت إلى آسفي مساء السبت وكان قد تم توفير سكن خاص لنا كان يضم ممرضتين ومولدة وفي ذلك المساء علمت أن كل أفراد الطاقم الطبي من أطباء وممرضين ومستخدمين بالمستشفى اعتادوا على تناول وجبة الغداء معا كل يوم أحد في أحد المطاعم كانوا يستغلونها مناسبة للنقاش حول العمل.
في اليوم الموالي ونحن داخل مطعم صغير سنتناول فيه الغداء، توقف أحد الأطباء المقيمين الفرنسيين بجانب شخص كان يجلس وحيدا على طاولات المطعم، ثم دعاه إلى الانضمام إلى مائدتنا، حينها سألته المولدة "من هذا الرجل؟"، فأجابها الطبيب وهو يقدمه لنا مبتسما: "هذا النذل هو واحد من الأشخاص الذين يريدون طرد الفرنسيين من المغرب وقد تعرفت عليه عندما رافق والده إلى المستشفى للخضوع لعملية جراحية، ومنذ ذلك الحين أصبحنا أصدقاء".
الحقيقة لم أعر اهتماما كبيرا للحديث الذي جرى، وفي نهاية الأسبوع الموالي دعاني الدكتور "بريت" الطبيب الجراح الذي أشتغل معه إلى العشاء مساء السبت، حينها فوجئت بشخص يتقدم نحوي ويخبرني أنه سبق وأن التقاني، سألته إن كان يعيش في مدينة "بوردو" حيث أقيم في فرنسا، حينها ذكرني بلقائه السابق معنا في المطعم. عرفت أنه صديق أيضا للجراح الذي اشتغل معه، والذي أخبرني بدوره أن محمد امجيد من المقاومين للوجود الفرنسي.
كان ذلك بداية العلاقة التي ستقودكما للارتباط؟
الاحتكاك الفعلي بمحمد امجيد كان من خلال تردده كثيرا على زيارة طبيبه الجراح الفرنسي، وبما أننا كنا جميعنا من ممرضات وأطباء وجراحين وكذا مدير المستشفى، نعيش في إقامات خاصة قريبا من محيط المستشفى، فقد أصبح معتادا أن أصادفه، وتدريجيا بدأت صداقتنا تتوطد، وكان احيانا يدعونا مساء السبت، وكنا نتعرف على أصحابه الذي أتذكر أنه كان من بينهم شخص فرنسي كان مسؤولا عن ميناء آسفي ومغربيان أحدهما كان صاحب شركة تأمين والآخر كان يشتغل في أحد معامل السردين التي كانت تعرف حركية كبيرة وتعد بالمئات وأتذكر كيف كانت المدينة حيوية ومليئة بالفضاءات الجميلة والنوادي.
ما هي أصعب فترة صادفتها بعد الزواج من امجيد؟
تحولت علاقتنا إلى رغبة في الارتباط عن اقتناع كل واحد منا بالآخر، وهكذا قررنا أن نتزوج وكان ذلك في خامس عشر يونيو من سنة 1954، أي تقريبا بعد مرور سنة ونصف على قدومي للمغرب وتعرفي على محمد امجيد بعد يوم فقط من وصولي لمدينة آسفي لكن المحزن أنه في ثاني عشر غشت ألقي القبض على محمد امجيد وألقي به في السجن رفقة رجال مقاومة آخرين، ولم يمر على زواجنا أقل من شهرين، ذهبت لزيارته بسجن آسفي في المساء رفقة بعض أصدقائه، حملت له غطاء و"بيجاما" وكل ما يلزمه، فإذا بحارس فرنسي بالسجن ينصحني بأن أتخلى عن زواجي من مجيد، بل ويحرضني على ذلك، محاولا إغرائي بأنه سيجد لي عملا جيدا بفرنسا، فأجبته بأني لن أقدم على فعل ذلك أبدا. وبعد نقل محمد امجيد إلى سجن شيشاوة، ذهبت لزيارته كذلك، وبعد ذلك أعادوه إلى آسفي وتم الحكم عليه بسنة سجنا، قبل أن يتم نقله إلى الصويرة، وبعد ذلك إلى سجن عين علي مومن بسطات، حيث دأبت على زيارته كل يوم أحد، وكنت كي اتمكن من القيام بذلك، أتولي المداومة كل أيام الأسبوع.
في هذه الفترة تلقيت عرضا بإمضاء فترة تدريبية لمدة شهر في الجزائر في تخصص التخدير، ترددت في القبول، لكن حينما أخبرت امجيد بذلك شجعني قائلا: "إنها فرصة ما دمت هنا بعيدا عنك في السجن" حينها سافرت وحين عدت من الجزائر، وجدته قد نقل إلى سجن الرباط، لكونه طعن في الحكم، وكان قرار الإفراج عنه صادرا مع وقف التنفيذ، حين اكتشفت ذلك عند زيارتي له، ذهبت للقاء مدير السجن، لكن تم إخباري أن القرار لا يمكن تنفيذه إلا بالحصول عن وثيقة رفع الحجز عن السجين، التي لم يستطيعوا الحصول عليها من المكان الذي سيستلمونها منه، لكونهم لا يتوفرون على وسيلة نقل من أجل القيام بذلك، اقترحت عليهم أن أتولى القيام بهذه المهمة، لكن ذلك لم يكن ممكنا لكوني لا أنتمي لإدارة السجن، حينها سألتهم ماذا لو قمت بكراء سيارة نقل كبيرة، ورافقني أحد العاملين بالسجن لجلب وثيقة التصريح بالسراح، وهكذا تمكنت من تعجيل خروج امجيد وأصدقائه الذين كانت دون شك ستمتد إقامتهم هناك لعدة أيام أخرى، وعدنا جميعا بواسطة سيارتين للأجرة، لأن عددهم أعتقد كان سبعة معتقلين.
امجيد ابن مدينة آسفي ورأى النور بهذه المدينة التي كان يحبها كثيرا، كان يدير مشروعا في مراكش، لكنه صادف بعض العراقيل بحكم تحركاته الوطنية، حيث تمت إعادته إلى مدينته التي لم يكن له الحق في مغادرتها ولو الذهاب إلى منطقة قريبة منها كالواليدية، كانت أسرته تقطن بآسفي، وكان والده من تجار المدينة المشهورين في مجال التصدير، كان امجيد يحاول أن يتدبر أمره كي يوفر لنفسه ما يحتاجه، لقد مر فعلا من ظروف صعبة.
حين التقيت محمد امجيد كان في عمر السابعة والثلاثين، في حين كان عمري لا يتجاوز الثانية والعشرين، فيما كان والده في سن متقدم حينما تزوجت امجيد.