الذين يعرفون الرجل عن قرب يعلمون أنه لا يجيد المجاملة والاختباء خلف الكلمات الناعمة، كما لا يجد حرجا في تقديم آرائه بكل جرأة ووسائل إقناع في القضايا الحيوية والمصيرية. في هذا الحوار يستفيض مولاي اسماعيل العلوي في توصيف المشهد السياسي الراهن وتعرية أزماته، قبل أن يشرع في الحديث عن المطلوب حالا ومستقبلا لتجاوز حالة التخبط التي يشهدها. وعلى الرغم من أن حزبه مشارك في حكومة العثماني العاجزة إلى حدود اللحظة عن التعامل بحكمة وتبصر مع الأزمات المتسارعة، فقد كان صارما حين دعاها إلى الانسحاب من تلقاء نفسها إذا لم تحقق خطوة إلى الأمام ترضي الرأي العام، ومضى في الحديث عن سيناريوهات ما بعد الحكومة الحالية والتحالفات المطلوبة لتجاوز التحديات الراهنة.
يعرف المشهد السياسي في الآونة الأخيرة حالة من التخبط، تتجلى في تقديم وزير لاستقالته وعجز الحكومة عن تدبير الأزمة التي خلفتها المقاطعة، ما رأيكم في هذه التطورات؟
استقالة الأستاذ الداودي لم تدخل بعد حيز التطبيق، لقد قدم بالفعل طلب إعفائه من مهمته لمسؤوله المباشر، أي رئيس الحكومة، ويظهر أن هذا الأخير قبل الفكرة، لكن القرار يعود دستوريا لصاحب الجلالة. ومادام لم يعط الملك رأيه في الموضوع إما بالموافقة أو بالرفض، فإن الاستقالة تبقى غير مفعلة.
مع ذلك فإن "الاستقالة" في حد ذاتها مؤشر على وضعية متأزمة شيئا ما داخل حزب العدالة والتنمية، سواء كانت دوافع هذه "الاستقالة" مرتبطة برد فعل ذاتي على "التنبيه" أو "التأنيب" الذي قدمه رئيس الحكومة للأستاذ الداودي أو بمعطيات أخرى.
كيفما كانت الأحوال فالأمور مازالت معلقة والكلمة الأخيرة ستكون لصاحب الجلالة وليس لرئيس الحكومة أو للوزير نفسه، ولو أنه سيصعب على هذا الأخير الاستمرار في عمله إذا لم يكن راغبا في ذلك، إذ "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها".
بالنسبة للوضعية السياسية الراهنة، فعلا نعيش حالة من التخبط تدل على نوع من التأزم في الأوضاع العامة. فالحكومة مازالت لم تتخذ إجراءات للتخفيف من العواقب المحتملة للمقاطعة، ولا ندري ما هي هذه الإجراءات. هل ستكون على صفة التحكم أكثر في الأسعار أم ستؤدي إلى العودة إلى نظام الحسبة العتيقة، أم ستؤدي إلى تسقيف الأسعار كما يجري الحديث عنه بخصوص أسعار المحروقات؟ مهما كان في الأمر فكل الإجراءات المتخذة ستكون متنافية مع الإعلانات المختلفة التي كنا نسمعها منذ مدة، والتي تعلن عن تشبث اقتصاد المغرب "بالليبرالية" وترك السوق ينظم نفسه بنفسه ! في ظل زيادة الحاجة لتوفير نوع من تحكم الدولة والحكومة في الحياة الاقتصادية حتى لا يحصل أي انزلاق لا تحمد عقباه، يبقى أن هناك قضية وجود كارتيلات في ما يخص المحروقات مثلا، فالاحتكارات الموجودة وسلوك البعض في ظل أوضاع اجتماعية متأزمة مرفوضة من قبل من يتأثر بها سلبا. لذا، وعلى الأقل، لنفعل الهيئة الوطنية المكلفة بتنظيم المنافسة التي مازلت مشلولة عسى ألا نجد أنفسنا مرة أخرى في وضع شبيه بهذا الذي نعانيه.
المطلوب، في العمق، هو إعادة النظر في الجوهر بالنسبة للتوجه العام. لقد حان الوقت لكي يجتمع كل من يريد أن يساهم في عملية التفكير التي نادى بها صاحب الجلالة، والتي تقتضي إعادة النظر في النموذج التنموي الذي سرنا عليه منذ 20 سنة والذي أعطى كل ما كان يمكن أن يعطيه ولم يبق قادرا على الاستمرار، ولابد من الدعوة إلى مناظرات ولقاءات مع الجميع بدون استثناء. وكل من يظن أنه في إمكانه أن يفيد وله ما يقول في الموضوع فليتفضل. الشارع اليوم أخذ الكلمة، وهذا شيء إيجابي ودليل على حيوية الرأي العام الوطني، لذا على الهيئات السياسية والنقابية والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبرلمان بغرفتيه والحكومة وهيئات المجتمع المدني الخوض في هذا النقاش والوصول إلى حلول ونتائج ترضي شعبنا كافة وليس فئة معينة فقط.
البعض يتحدث عن أن حكومة العثماني أضعف من أن تتخذ إجراءات تطمئن الشارع، هل تتفق مع ذلك؟
(مقاطعا) لماذا هذا الحكم الجازم؟ الحكومة مكونة من قوى سياسية تناقش في ما بينها وتتقدم بمقترحات، ويمكن لهذه النقاشات أن تساهم في إخراج شعبنا وبلادنا من المأزق، باختصار ليس علينا أن نصدر حكم قيمة على حكومة العثماني، وأعتقد أن اللقاء الذي جمع مؤخرا الأغلبية يمكن أن يمثل بداية لحوار معمق يصل إلى خلاصات تؤدي إلى مراجعة الخطة التي سرنا عليها منذ عشرين سنة في الميدان الاقتصادي، والتي أضحت متنافية مع المصالح العليا لشعبنا وتطلعاته، فلنغيرها إذن وكل من لا يرضيه تغييرها من أجل المصلحة العامة فليبتعد على الأقل.
منذ ميلاد الحكومة بالطريقة التي يعرفها الجميع لا يشعر الشارع المغربي أنه أمام حكومة قادرة على ترجمة مطالبه إلى إجراءات، تؤكد ذلك طريقة تدبيرها للأزمات التي واجهتها بدءا من حراك الريف وجرادة وانتهاء بالمقاطعة، وهذا كله يؤكد أنها أضعف من أن تتعامل مع الأزمات بحكمة وتبصر؟
إذا لم تكن هذه الحكومة قادرة على حل المعضلة فعليها أن تقدم استقالة جماعية، وهذا ليس من المحرمات، حتى وإن كنت أدعو رغم ذلك إلى عدم التسرع في الاستنتاج. أما بخصوص الأزمة التي نشبت في الريف الأوسط مثلا، فالظاهر أنها لم تكن هذه الحكومة هي المسؤولة عنها بشكل مباشر، لأن لتلك الأزمة جوانب نوقشت وأثيرت مرارا وتكرارا، وبتنا نعرف أن للشرارة الأولى سببا متصلا بالقطاع الحكومي المكلف بالصيد، وأشياء كهذه ينبغي أن تناقش بكل وضوح، وباحترام للجميع، دون أن ننسى أنه لا بد لنا أولا وأساسا من الخروج من المأزق الذي نزيد انغماسا فيه حسب ما نلاحظ في المجتمع ككل، رغم أن هذا الرأي السائد يمكن ألا يكون مطابقا للواقع الموضوعي، لذا لابد من الخوض في نقاش جماعي في أقرب الآجال.
هل أنت مقتنع أن الحكومة مازالت قادرة على تصحيح ما يمكن تصحيحه؟
إن العبرة بالنتائج، إذا، مثلا وفي مدة معينة، لم يحصل أي تغيير ولم يحدث أي إحساس يدل على أن الرأي العام يشعر بتحقيق خطوة إلى الأمام، فيصبح من المؤكد أن هذه الحكومة لم تبق صالحة لتدبير الشأن العمومي بشكل إيجابي يرضي المواطنين، وما عليها بالتالي إلا أن تنسحب من تلقاء نفسها.
فما هي إذن سيناريوهات ما بعد حكومة العثماني؟
إذا لم يكن ممكنا أن يظهر تحالف يغير الخطة والاتجاه، فيمكن أن نلجأ إلى انتخابات سابقة لأوانها، تفرز أغلبية أكثر وضوحا، كما يمكن التفكير في إعادة النظر في نمط الاقتراع حتى يصبح أكثر ديمقراطية وأكثر نجاعة. في هذا الباب أتمنى شخصيا إعادة الروح للكتلة الديمقراطية التي مازالت لمكوناتها الأصلية القدرة على مجابهة الأوضاع الحالية، لاسيما إذا ما جمعت بعض مكوناتها شملها وإذا ما فتحت أبوابها لكل قوة تريد الإصلاح والتقدم. هذه كلها احتمالات يمكن أن تخطر ببال من يفكر في أوضاعنا الراهنة. إنما يبقى أن الجوهر هو ضرورة إعادة النظر في هذا النمط الاقتصادي الذي سرنا عليه، وهذه الطريق التي سلكناها منذ عشرين سنة والتي أبانت عن محدوديتها، رغم ما أتت به من مكتسبات.
لوحظت في الأشهر الأخيرة محاولات للتمكين لأخنوش لكن يبدو أنها اصطدمت بالمقاطعة، فما هو البديل المحتمل لأي تغيير في المستقبل؟
أنا عادة لا أقوم بما تقوم به "النفاثات في العقد"، إذ إن المستقبل يأتي دائما بما لم نكن ننتظره، وبالتالي من الأفضل ألا يتفوه المرء كثيرا بأشياء يمكن ألا يثبتها الواقع.
في نظركم، ما هو أحسن تحالف سياسي لتجاوز تحديات المرحلة؟
لقد أدليت لك برأيي قبل هنيهة، وأؤكده: أعتبر أن أحسن تحالف لتجاوز تحديات المرحلة أن يكون شبيها بالتحالف الذي تجسد في "الكتلة الديمقراطية".
لاشك أن على هذا التحالف أن يحين مرة أخرى ميثاقه ليلائمه مع الواقع الراهن والتطورات التي عاشتها البلاد منذ إصدار الميثاق الأصلي الذي مازال صالحا في خطوطه العامة. وعندما أقول مثل هذا الكلام فلا تظنوا أنه تعبير لشيخ هرم أو لشخص يحن للماضي، أبدا، أعني بما أقوله أن على القوى الحية في البلاد أن تلتقي وأن تترجم إحساسات شعبنا وتطلعاته بشكل واضح يُمكِّنُ من جمع الشمل. وكما سبق لي أن قلت فعلى هذا التكتل ألا يقتصر على الهيئات التي كونت الكتلة سنة 1992، بل أن يدرج ضمنه كل القوى التي تقاسمه وجهة رأيه.
أليس مطلوبا في حالات الأزمة تشكيل حكومة وحدة وطنية أو حكومة تقنوقراط؟
تكوين حكومة "تقنوقراط" هو أمر متناف مع الديمقراطية التمثيلية وتبخيس للنظام البرلماني بمفهومه الحق.
ثم علينا أن نتذكر أننا عشنا تجارب كانت مبنية على هذه الفكرة في واقع الحال. لقد كونت "أحزاب الإدارة" كما سميت حينها "حكومات تقنوقراط". هل تريدون أن نعود إلى هذا النمط، سيما وأن حصيلة هذا النوع من الحكومات لم تكن مرضية؟ علينا أن نفعل دستورنا الحالي، وأن نعمق بشكل كبير جوانبه المتقدمة جدا، ثم علينا أن نكثف الحوار بيننا جميعا لنصل إلى أكبر عدد من نقط الالتقاء في ما بيننا، آخذين بعين الاعتبار تطلعات شعبنا قبل أي شيء آخر. إذا أسفر هذا الحوار عن تأسيس وحدة وطنية فمرحبا، لكن باحترام الضوابط الديمقراطية.