تجتاح المشروع السياسي الإصلاحي لحزب العدالة والتنمية أزمة عميقة، تتجلى في محاولة تحريف ناعم لجوهر الفكرة السياسية الإصلاحية، وتجريف فكري وقيمي وسياسي غائر لمعركة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.هذه النزعة التحريفية والتجريفية تخترق بشراسة الهوية الفكرية والمناعة الأخلاقية والمقاومة السياسية لدى حاملي الفكرة أنفسهم، كما تنعكس آثارها على الإطار التنظيمي الحامل لها بوصفه أداة الإصلاح. إن بروز أي مظهر من مظاهر الأزمة في النسق التنظيمي لأي حركة اجتماعية تنشد الإصلاح أو حركة سياسية تطمح للتغيير والتقدم، هو بمثابة مأزق في النظرية الإصلاحية نفسها ومؤشر على تراجع التجديد الفكري والحس النقدي في نموذجها المعرفي، مما يدلعلى أن حدوث الأزمة في أي مشروع إصلاحي يعني غياب آليات المراجعة والتصحيح، وفقدان القدرة على التفاعل مع تحولات العصر، وعجز عن إدراك المتغيرات وصياغة الأجوبة وإبداع الآليات، ووعي أسئلة المرحلة ومتطلباتها. وإذا أضفنا إلى ذلك أفول/تصفية المثقف النقدي الإصلاحي العضوي بوصفه وسيطا ضروريا، في بناء التفكير السياسيوالتحريض الإيديولوجي وترشيد العقل الوظيفي وتطوير الأطروحة الإصلاحية في أبعادها الفكرية والاستراتيجية، سنكون أمام حالة عجز عن الإبداع. وإذا رصدناأهم التحولات التنظيمية والمراجعات الفكرية والتصورات السياسية التي قادتها الحركة الإصلاحية الإسلامية،فإنها كانت حصيلة مسار معقد ومركب من المراجعات النقدية الواعية للمواقف والاختيارات والخلفيات والتصورات، وأنها كانت ناجمة عن حالة من التجديد الفكري والنقد الذاتي والتأمل الواعي في التجارب والمسارات والسنن الشرعية والقوانين الاجتماعية والكونية.وهذا ما يؤكد جدلية العلاقة بين النسق التنظيمي والتحول الفكري والبيئة السياسية وطبيعة النظام السياسي القائم. وعلى ضوء ما سبق يمكن أن نقرأ الانقسام الحاصل في حزب العدالة والتنمية، بين حملة أفكار محافظة ذات نزعة اكتفائية وحملة أفكار تجديدية مكافحة،على أنها تقديرات متباينة في تقييم التجربة السابقة وقراءة الحاضر واستشراف المستقبل، وهو أمر طبيعي ومطلوب في كل التنظيمات السياسية والحركات الاجتماعية. ويرجع سبب هذا الانقسام أساسا،إلىالاختلاف حول طبيعة التأويل الاستراتيجي للمرحلة السياسية وللنسق والفاعلين في المشهد، ونوعية الأدوات المنهجية والحجج السياسية والقانونية وكذا الآليات الدعائية والنفسية المعتمدة،لتقديم قراءة لهذه الحقبة وتداعياتها بعد إعفاء عبد الإله بنكيران وتشكيل حكومة العثماني. المشروع الإصلاحي بين المحافظة واستعادة المبادرة لابد من الاعتراف بكل جرأة أننا أمام نهاية حقبة من الأفكار الحية، التي تحولت بفعل الزمن والسياق والتحولات والمواقع إلى أفكار محافظة وجامدة بل وقاتلة، بعد أن استبطنت المصالحة اللاشعورية مع الفساد والتعايش مع الاستبداد، والتكيف السلبي مع محاولات إجهاض الانتقال الديمقراطي والانتهاك الرمزي للدستور روحا ومعنى. يعيش مشروع العدالة والتنمية لحظة فارقة تنتصر فيها المحافظة والخوف والتقنية والتدبير والسيولة، على أسئلة الفكر النقدي والواقع المركب ووعي جدلية النظرية والممارسة، مع نوع من الإصرار المقدس على خيار الاكتفاء الفكري والاحتفاء التاريخي بالمنجز والكسب السابق والانكفاء الذاتي عليه، والاستغناء عن إبداع نموذج فكري جديد بأنماط تلفيقية محافظة تختصر المشكلة في الأبعاد التدبيرية والتقنية والقانونية، وفي ضرورة عودة النزعة الأخلاقوية الوعظية حلا للتوتر الحاصل بين وجهات النظر داخل الحزب. إن خطاب الخوف ومنطق المعلومة (سواء أكانت خاصة أم مسربة) وآليات الضغط الإعلامي في بناء الموقف واتخاذ القرار، فضلا عن استخدام أساليب التخوين وصناعة سيكولوجية الصدام الوهمي، وخطاب التخويف من المستقبل والاكتفاء بحماية المنجز والذات الحزبية فقط، لا يعد برنامجا ولا أطروحة فكرية-سياسيةمن أجل النهوض بالإصلاحات وإنعاش المسار الديمقراطي والاستجابة للإرادة الشعبية،والتفاعل المثمر مع ما يتخبط فيه الوطن من احتقان اجتماعي وانفجار صامت وإحباط سياسي، وتفاوت طبقي متفاقم ولاعدالة في توزيع الثروة. كما أن المحافظة السياسية والتكيف السلبي لا يولد نمطا اقتصاديا مبدعا في اجتراح التنميةالمستقلة والشاملة والمتوازنة، ولا يخدم العلاقة المصيرية بين الديمقراطية والتنمية،بقدر ما يخدم سياسات نيوليبرالية متطرفةومنحازة للطبقة الاقتصادية المهيمنة، ولأصحاب المصالح الكبرى والامتيازات، وهو ما يؤدي إلى تعميق التفاوت الطبقي بين الفئات المجتمعية، وتنمية مشاعر الظلم والإحباط، في ظل انسحاب ناعمللدولة من حماية الفقراء وذوي الدخل المحدود، وتصفية الطبقة المتوسطة. لقد تمددت السلطوية من جديد،نتيجة فراغنا الفكري وترددنا السياسي وتراجعنا الحقوقي، وفقرنا الفلسفي وتأزم الاجتماع السياسي وتعثر نموذج الدولة الوطنية ومأزق مشروعها التنموي. وتكمن قوة السلطوية في إضعاف تيار الإصلاح الديمقراطي وإرباكه الذاتي، واستثمار مواطن الضعف ومساحات الضباب بداخله لتفجير التناقضات في مشروعه، بل تمكنت هذه الاستراتيجية من تحويل عوامل نجاح التصدر الانتخابي للحزب إلى انكسار سياسي حاد، أفرغ خطاب التعاقد الانتخابي مع المواطنين من مضمونه، بعد أن انتقل الحزب من طرف له رأي وتوجه في تشكيل حكومة سياسية بتحالفات واضحة وهوية منسجمة وبرنامج متوافق عليه، إلى طرف مُشَكَّل به "حكومة" بدون وجهة. إن محاولات السلطويةلغلق قوس الربيع المغربي واستعادة منهجها التدخلي، وعجزها البنيوي عن إدراك طبيعة التحولات وفهم المتغيرات الراهنة في الوعي والثقافة والسلوك داخل المجتمع المغربي، مآله إنعاش مناخ العدمية والتطرف، وانهيار الأمل في المؤسسات الوسيطة وفقدان الثقة في السياسة كعنوان للتغيير والإصلاح وتجسيداللإرادة العامة، فضلا عن سيادة اليأس الاجتماعي والسياسي،وتزايد أوضاع الهشاشة وتنامي سيكولوجية القهر، وغياب التوزيع العادل للثروة وتكافؤ الفرص، كل ذلك يؤدي إلى المواطنة المنقوصة والاستبعاد الاجتماعي والعزوف عن المشاركة. أسئلة الإصلاح المجهضة وهنا نتساءل: ما هي مقاربة التيار الإصلاحي الإسلامي للخروج من الأزمة السياسية والمأزق الاجتماعي والاختلال التنموي والفساد النسقي؟ وما هو تصوره لطبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع؟ وكيف يسهم في بناء دولة عادلة في خدمة المجتمع؟ وكيف يمكنه استعادة المبادرة من جديد؟ما هو الأسلوب الأمثللتفعيل المرجعية الإسلامية في سياسات الإصلاح؟ وما طبيعة حضورها في الفضاء العام؟ وأي تصور للعلاقة بين الهوية والحداثة في المشروع الإصلاحي والتحديث السياسي؟ كيف يمكن تجسيد فلسفة العدل بوصفها قيمة مهيمنة وحاكمة في بنية الفضاء الاجتماعي والسياسي والاقتصادي؟ وما مستوى حضور قيم العدل والحرية والكرامة في خطاب النخبالإصلاحية؟ وهل نمتلك تصورا واضحا وشاملا لبناء كتلة ديمقراطية إصلاحية؟ وما هي معالمه ومحاوره؟ وإذا كان الخطاب الإصلاحي يمتلك جرأة كبيرة في الانحياز لفلسفة العدل والعدالة وتكافؤ الفرص وخيار الإنصاف، حلاّ لمعضلة الفساد والزبونية والقبلية والحزبية التي قامت وتقوم عليها آليات التشغيل وتوزيع الخيرات، فإنه لم يفلحفي التأسيس العملي والمؤسساتي لهذا المنهج الصارم على مستوى البنيات المحلية والبيروقراطيات المركزية والجهوية وكذا المؤسسات المنوط بها ذلك. بل لا نجانب الصواب إذا قلنا إن العطب الجوهري للخطاب الإصلاحي هو عدم قدرته على ابتكارمقاربة سياسية جديدة تدمجالآليات الإجرائية والمسطرية والقانونية والتقنيات البيداغوجية والرقابية، والمعايير العلمية والمؤشرات القادرة على تفكيك/محاصرة نسق الفساد المستحكم دون أن يتحايل باسم القانون على ثروات البلاد. لقداستنفذت مقولات التأسيس(الإسلامية الإصلاحية) وظيفتها التاريخية والتغييرية، بعد انتقال المشروع الإصلاحيمن طائفة تنظيمية(معارضة) إلى حزب يترأس الحكومة ويسهم في إدارتها ثم إلى تيار مجتمعي،حتى صار حلم أجيال وتعبيرا عنانتظارات وتطلعات الأمة المغربية،فأنتج-رغم المؤاخذات- نموذجا إسلاميا مختلفا عن باقي التجارب، ولا شك أن هذا التحول الجوهرييقتضي بناء حالة حوارية حول المقولات الرئيسة في العمل السياسي الإصلاحي، لمعرفة ما الذي ينبغي تجاوزه في هذا الميراث وما الذي يتوجب الاحتفاظ به، دون إغفالمرتكزات الخطاب السياسي الإصلاحي القائمة على منهج المصارحة والمناصحة والمصداقية والواقعية والتدرجية والتراكمية والتشاركية، في بناء حركة إصلاح تركب بين الملكية والاستقرار والديمقراطية داخل بنية النموذج المغربي. لقد كانت معالم هذا النموذجالإصلاحي في طور التبلور قبل اغتياله المعنوي، وظهرت بعض ثماره في الممارسة السياسية الراهنة نذكرمنها: ممارسة السياسة بمعناها النبيل والملتزم تجديد الصلة بقيم الوفاء والتعاقد والنزاهة. عدم الانجرار إلى الاستقطاب الهوياتي لصالح تقوية الصف الديمقراطي. عودة الروح إلى السياسة وإدماج المواطن في قلب المعادلة. بناء الوعي بالحقيقة كما هي باعتماد خطاب الصراحة مع الشعب،وتوضيح حجم التحديات والتربصات التي تواجه تيار الإصلاح الديمقراطي. الوعي بإكراهات تجاوز الإرث الاستبدادي في الفساد والتنمية وكشف المخاطر المحدقة بتجربة الانفتاح الديمقراطي المغربية. لكن للأسف ما نشهده اليوم هو عبارة عن ممارسات وخطابات بدون نظرية ملهمة، وإغراق في تقديس الإجراءات بدون أطر معرفية وخلفيات فلسفية قاصدة، ونقل للتناقضات المختلفة من المجال الأصلي(نقد الاستبداد وآليات تفكيك الفساد والمركب المصلحي) إلى المجال الفرعي(من يدبر أداة الإصلاح؟)، وهكذا انحرف النقاش من الاشتباك مع أسئلة السلطة والثروةوما حصل من توجيه لمضمون المسار الديمقراطي والتحكم في مخرجاته والتدخل في مكوناته، إلى سؤال الانكماش المرضي على الذات والصراع من أجل الحسم التنظيمي مع القناعات والأفكار والتأويلات. الأمر الذي يؤدي بنا إلى السقوط في علاج أعراض المرض بدل التوجه إلى المرض الباطني الأصلي،ألا وهو انسداد عميق في شريان النسق الفكري السائد واستنفاذ الأجوبة السابقة لوظيفتها التاريخية وأغراضها الاستراتيجية ومقدرتها التوليدية، وهذا يوجب علينا ضرورة التفكير في المضمون الكفاحي الإيديولوجيللأداة الإصلاحية، وتحصينها من الانحراف إلى مجرد جماعة طائفية وظيفيةغير مؤثرة ولا فاعلة أو مادة استعمالية مفعولا بها في النسق السياسي. الفكرة الإصلاحية بين الصلابة والسيولة إن التمييز بين الإصلاح الصلب والإصلاح السائل يسهم في إدراك التناقض الأساسي بينهما في النظرة إلى طبيعة الإصلاح ومضمونه وآليات اشتغاله.فالإصلاح الصلب يتميز بخصائص رئيسة تتمثل في التركيب الخلاق بين الصمود والمرونة والتجرد، والجمع بين التكيف والمقاومة والتدافع والتعاون، وتبني خيار التوافق والتشارك. كما يتميز بكونه ينحاز إلى أولوية توطين الديمقراطية واحترام الإرادة الشعبية، والإيمان بالحرية وتكريس العدالة والدفاع عن الكرامة. بعد أن حسم موقفه عقديا وتاريخيا واستراتيجيا من المؤسسة الملكية، بوصفها رمزا للإصلاح وضامنا للوحدة والاستقرار ومناط إجماع معظم القوى والفاعلين حول شرعيتها ومشروعيتها، كما لا يعتبر نفسه منافسا لها ولا متنازعا معها، بل شريكا متعاونا على الإصلاحات. أما خيار الإصلاح السائل، فعلى العكس من ذلك، يتميز بالذوبان السياسي والسيولة القيمية والترهل الإصلاحي، وفقدان الهوية الفكرية والبوصلة السياسية وطغيان التقنوية، فضلا عن كونه يختصر الأزمة فيما هو تدبيري دون استحضار إرث الفساد السلطوي وتراكم المصالح والنفوذ والامتيازات، وتحالف القوى المضادة للإصلاح، ولا يخفى أن هذه الخصائص تفضي بهذا الخيار إلى ابتلاع السلطوية للنخب الإصلاحية وتفكيك جبهة الإصلاح الديمقراطي وإلهاءها بالصراعات الثانوية. ومن هنا فلا يمكن تصور الممارسة السياسية الاصلاحية بمثابة برنامج جاهز وجامد،وإنما جهد نسبي ومسار معقد وسلسلة مركبة من التكيف والمرونة والصلابة، والتدافع والمقاومة والتفاوض، والتنازل والتوافق، والتقدم والتراجع، يتأثر بموازين القوى وأنماط التدافع بين الفاعلين واستراتيجياتهم المتنوعة داخل النسق.وعليه، يكون مقصد العمل السياسي الإصلاحي هو تحقيق أكبر قدر من الإنجازات والمكاسب،وتجنب أكبر قدر من الإخفاقات، مع القدرة الذكية على مقاومة من يسعون لإفشال التجربةومحاصرتها، ووضع العوائق والكوابح في طريقها. وإذا كانت الأزمة تساءل المضمون الفكري والسياسي للمشروع الإصلاحي للحزب، فإنها في الوقت نفسه، تختبر أيضا مدى صلاحية هذا المشروع وقدرته على التكيف الإيجابي والفاعل مع متغيرات الواقع السياسي وتحدياته، وعلى هذا فلا يصح اختزال المشكلةاليوم في الأشخاص والمساطر والتمركز المتطرف حولها، حتى أصبحالحسم التنظيمي والتصويت الانتخابي بديلا عن الحوار الشامل والتفكير الجماعي، فتبدو نتائج هذا الحسم كما لو أنها حربا بين قوى الخير والشر ستنتهي بانتصار طرف وهزيمة آخر واندحاره. لايمكناختصار المشكلة في الأشخاص والمساطر بلفي تغيير المقاربة بالتركيز على الرؤية الناظمة والبوصلة الموجهة للعمل الإصلاحي، وطبيعة الأنساق الحاكمة للفعل الاجتماعي والسياسي، ورصد أشكال التفاعل فيما بينها(السياسي والحزبي والاقتصادي والاجتماعي/ الإقليمي والإفريقي والدولي)،وخصوصية نسق سياسي يزاوج بين نمط سلطاني تقليدي ونمط حداثي معاصر مما يولد بنيات عتيقة عصية على التغيير، ومؤسسات متداخلة الصلاحيات ومترددةلا تسهم في ربط واضح للمسؤولية بالمحاسبة فتصبح كابحة للتقدم الديمقراطي.ولن تنتجالنزعة الاختزالية للمشكل أي تركيب مبدع سوى تفريغ الإصلاح من مضمونه القيمي والفكري والسياسي، وإنتاج حالة الخوف من الإقدام على الإصلاح وتآكله الذاتي وإبطال قدراتها. عندما يصاب المشروع الإصلاحي بمرض "الخوف"، يُنتج حالة من التردد والشلل والعقم في التدافع والرؤية والخطاب، ويؤدي إلى ضمور حاد في تجديد المضمون الفكري والسياسي للفكرة الإصلاحية وغياب مساءلة الخيارات وتقويم المسارات. كما تسهم متلازمة الخوف والتخوف والتخويف في انعزال/اغتراب التيار الإصلاحي الديمقراطي عن عمقه الاجتماعي وهويته الأصلية، المتمثلة في السعي إلى إقرار العدل والإنصاف وتكافؤ الفرص ورفض الظلم، فضلا عن معالجة الاختلالات والتفاوتات البنيوية في النموذج السياسي والاجتماعي والاقتصادي والقانوني، لأن الخوف يتحول مع الزمن إلى رُهاب نفسي وتفكك ذاتي. كما قد تتقاطع استراتيجيات الخوف مع إرادات "سلطوية"تقليدية ومحافظة، واستراتيجيات كتلة"مصالح ونفوذ" وسياسات إعلامية تشتغل لتحجيم الدور الإصلاحي والوطني الذي قاده حزب العدالة والتنمية، مع القوى المؤمنة بالإصلاح الديمقراطي والسعي لإضعاف شعبيته وتشويه صورته ومحاولة تفكيك هذا النموذج السياسي الواعد، وما يمثله من أفق تجديدي في التفكير السياسي المعاصر للإسلاميين، في بناء التوافق السياسي والشراكة الوطنية والتعاون مع المؤسسة الملكية، والتقارب مع الديمقراطيين،والانفتاح النقدي مع الحداثة الفكرية والسياسية. إن دخول أي حركة اجتماعية أو سياسية في مرحلة أزمة أو انسداد، يقتضي الاعتراف بوجود توتر حاد في نموذجها المعرفي الإصلاحي الأصلي، تتمثل بالأساس في الفقر الروحي والفراغ الفكري والخوف السياسي، وهذا يوجب علينا يقظة تصحيحيةلمعالجة أصولها المنهجية والفكرية والأخلاقية لا أعراضها السياسية الظاهرة فقط، ويجب أن ترتكز في تقديرنا على الأسس الآتية: الأخلاقية في الحجاج والحوار وإبداء الرأي. الحرية في التفكير والاختيار والانحياز. النسبية في تقدير وجهات النظر والاجتهاد السياسي. العقلانية في تدبير الاختلاف والتنوع. الديمقراطية في بناء القرار الجامع. وإننا نميز في هذا السياق بين أمرين: الأول هو سيرورة التحول الديمقراطي المراهن على تأسيس قواعد البناء الديمقراطي، وترتيب علاقات السلطة وآليات التداول عليها، وما يتضمنه ذلك من إصلاحاتسياسيةودستوريةوإدارية. والثاني، هو طبيعة التحول الحضاري المرتكز على الإنسان فاعلا في التغيير الحضاري العميق وعلى الأمة مدخلاً للنهضة؛ إذ ينعكس ذلك على إعادة التفكير في المضمون الفلسفي والايديولوجي لنظريات التغيير، ومدى الحاجة إلى مشروعنهضويمتكامل بين الدولة والمجتمعيُجاوز الفكرة الصدامية والصراعية القائمة على التنازع والمغالبة. وهنا لابد من إحداث حالة فكرية ونفسية ومدنية تتبنى ملحاحية المداخل الحضارية المتعددة في الإصلاح، ليستعيد الإصلاح السياسي موقعه الطبيعي في مسيرة النهضة الشاملة، كأحد مداخل النهوض لا نهايتها؛ ليتم بالموازاة تقوية الفعل المجتمعي المدني والحقوقي،المنخرط في حماية الحقوق والحريات والتعددية وإرساء المواطنة والمساواة والإنصاف. في الحاجة إلى الكتلة الديمقراطية التوافقية إن معركة توطين الديمقراطية ليست نزهة عابرة أو زهو سياسي أو انتصار طائفي أو صراع هوياتي، بل تقتضي ضرورة اجتراح مشروع إصلاح ديمقراطي جامع، يستند إلى كتلة تاريخية حاضنة له وجبهة وطنية حاملة لقيمه وتيار أساسي مؤمن بمقاصده العليا المشتركة بين مختلف التيارات الأيديولوجية والتعبيرات السياسية والفكرية والنخب الاقتصادية والثقافية والمدنية، تنقلنا إلى بناء إصلاح ديمقراطي توافقي وصلب وتراكمي وتدرجي عميق. لذا يتوقف نجاح الإصلاح الديمقراطي على إنشاء هذا التركيب البنيوي الجديد، الذي ينبغي ألا يكون عارضا ومؤقتا وبرغماتيا، بل أن يتحول التوافق إلى عقيدة استراتيجية تركز على الثوابت المشتركة وتهمش الخلافات الجزئية والحساسيات الايديولوجية،ذلك أن التقارب الإسلامي العلماني والتحالف السياسي المتسع على أساس مواجهة السلطوية، والدفاع عن التجربة الإصلاحية والصمود لإنجاح الانتقال الديمقراطي، يخيف التحكم الذي ينتعش في أجواء الاستقطاب والانقسام والتخويف والتضليل. إن الغرض الرئيس هو توسيع قاعدة الاعتدال من أجل بناء أرضية مشتركة تؤسس لتوافقات تاريخية وكتلة ديمقراطية تاريخية جامعة، تحمي الخيار الديمقراطي وتنخرط في إصلاح جذري، وتعيد التقسيم السليم بين من ينحاز للصف الديمقراطي الإصلاحي الوطني وبين من يختار جبهة الاستبداد الخفي والناعم.ويكون ذلك بمثابة تدشين مرحلة جديدة تقدم جوابا تاريخيا أساسه التقاء القوى السياسية والمجتمعية على أرضية مشتركة يطبعها التوافق والتعاون، واجتماع التيارات باختلاف مرجعياتها وتوجهاتها على "كلمة سواء" ترتكز على المصالحة والإصلاح والديمقراطية والوفاق المنتج للاستقرار والاندماج والتكامل والتنمية.وقد طرح هذا الأفق بوصفه اجتهادا فكريا وتنظيرا سياسيا المفكر محمد عابد الجابري، حيث أسماه ب"الكتلة التاريخية". هذا الأفق الإصلاحي المأمول ليس نموذجاً جاهزاً يتم تبنيه، أو منظومةَ قوانين يتم تشريعها، أو قراراتٍ مهما كانت أهميتها يتم اتخاذها، بل يتضمن هذه الأبعاد كلها، بالإضافة إلى ضرورة تحوله إلى خيار مجتمعيٍّ ورؤية ناظمة لعلاقة الدولة بالمجتمع، وهو ما يتطلب خوض مسار حضاريٍّ طويل ومعقد من الكفاح الديمقراطي والبناء الاجتماعي والتغيير الثقافي وتوفر إرادة مقاومة وقدرة جماعية على النهوض، كما يقتضي ذلك الوعي المركب بالمحيط الخارجي وطبيعة المرحلة الحضارية الراهنة. من أجل دورة إصلاحية جديدة وفي هذا السياقتنقدحالحاجة إلى الدخول في طور جديد من الإصلاحية الوطنية،وتجديدفكرة الإصلاح على أساس قراءة مركبةومستبصرة ومنهجية للذات والواقع والمحيط، وعلى هذا ينبغي أن ينصب التفكير الراهن على تحصين الإصلاح فكريا وقيميا ونضاليا، بأدوات النقد والتفكيك، والصراحة والوضوح والنزاهة، وحماية خط/جبهة الإصلاح: فكرة وروحا ومسارا وتجربة، بعيدا عن العدمية والشخصنة وعمى الأدلجة، فضلا عن طائفية الذات وغرور النفس، وهذه الحماية تتطلب مزيدا من تقوية المناعة الروحية للفاعل الإصلاحي والقضاء على نزعة حب التسيدوالتنازع،وتأسيس الفكرة الإصلاحية على التغيير الباطنيالتخلقي للإنسان. لابد لطليعة الإصلاح ونخبه الفكرية والسياسية والمدنية من تكريس مصداقية لحركة الإصلاح الجذري تنطلق من بناء القدوة الذاتية وإحياء الأمل، ذلك أن الكتلة الحاملة للفكرة الإصلاحية وللنفس النهضوي والهم الديمقراطي، تحتاج أن تتحمل هي نفسها كلفة الإصلاح، وتجسدها في الوعي والخطاب والممارسة والمواقف والاختيارات. ولكي تنجح حركة "الإصلاح" تحتاج أن تتحلى نخبها ومؤسساتها بقيم المصداقية الفكرية والنزاهة الأخلاقية والتعفف الروحي، والكدح الحضاري والكفاح المبدئي والوفاء التعاقدي، بمعنى أن تكون طليعة في تنزيل الإصلاح فكرا وأخلاقا وممارسة فيما بينها أولا، ثم فيمحيطها ومجالات اشتغالها وتعاونها مع باقي الديمقراطيين والوطنيين. وهكذا ترتقي النخب الإصلاحية الديمقراطية إلى مستوى بناء الكتلة التاريخية الجامعة والمؤثرة والفاعلة. إن مهمة تطوير أطروحة الإصلاح فكريا ومدنيا وسياسيا، يستدعي إطلاق حركة تجديد فكري تنحاز لخيار الإصلاح الديمقراطي وتكريس الحريات وتقديس الاختلاف، وتعميق النقد لروح المحافظة الفكرية وسياسات توظيف التقليد والمقدس لتبرير الاستبداد، والإيمان المطلق بالكرامة الإنسانية وتحريره من أشكال العبودية الحديثة والخفية. كما أن البحث عن التركيب اللازم للبناء الديمقراطي والنموذج السياسي والنمط الاقتصادي المنشود يقتضي إبداع تركيب تاريخي وتنظيمي خلاق يجمع بين الباحث والمثقف ومراكز التفكير بجانب السياسي والإداري ومؤسسات التخطيط والتدبير حتى يمكن استعادة المبادرة ومن تكريس العمق الحضاري للإصلاحبمداخله المتعددة. ونجاح هذا النموذج رهين بخلق فضاءات استراتيجية دائمة للتفكير الجماعي، والحجاج العلمي والحوار الشوري بين الآراء المتنوعة والأفكار المختلفة، ويمر ذلك أيضا عبر حوار داخلي وخارجي شامل وعميق وصريح بين القمة والقاعدة، وبين مختلف الهيئات والمهتمين والشركاء، ركيزته الإيمان بدور العامل الفكري والبعد العلمي في ترشيد القرارات وتأسيس الخيارات وتجديد المناهج.