كشفت الأحداث المتعاقبة التي شهدها المغرب خلال السنوات الأخيرة، عن هشاشة مواقف نخبتنا السياسية، وفشلها في الدفاع عن قضايا البسطاء من المغاربة وتقاعسها عن المساهمة في الدفع في اتجاه إحداث انتقال ديمقراطي مرجوّ، في مواجهة موجة انسحاب جماعي من السياسة والاهتمام بقضايا الشأن العام، والتي يتحمل فيها الفاعل الحزبي القسط الوفير من المسؤولية، خصوصا بعد "الكوارث" التي أعقبت تشكيل حكومة 2021، التي أقل ما يمكن أن يقال عنها، إنها "حكومة باطرونا" جاءت عكس آمال المواطنين الذين ربما صدق بعضهم لوهلة الشعار الخادع "تستاهل أحسن!"، بأداء سياسي تعتريه الكثير من الأخطاء التي تضرب في عمق الممارسة السياسية السليمة: من ضعف تواصل وتضارب مصالح وموجة غلاء غير مفهومة وسوء تدبير قادنا إلى إعلان "إلغاء" ذبح أضحية عيد الأضحى برسم هذه السنة كنتيجة طبيعية لفشل الحكومة في مواجهة التحديات الاقتصادية. الأمر الذي ساهم بشكل كبير في تنامي حالات الإحباط والسخط لدى قطاع واسع من المواطنين، الذين وقفوا في مُدد طويلة حائرين، أمام كمية اللا مبالاة التي تطبع أداء هذه الحكومة ووزراءها، الذين يتحدثون عن إنجازات لا تُرى سوى عبر نظاراتهم الخاصة. فلا هم نجحوا في إعادة إيواء ضحايا زلزال الحوز بعد مرور حوالي عام ونصف من الفاجعة، ولا هم نزلوا إلى المواطنين شارحين -في محاولة للإقناع- أسباب غلاء الأسعار، ولا هم تعففوا عن خدمة شركاتهم وتحاشوا السقوط في حفرة تضارب المصالح، ولا هم جنبوا حكومتهم تقارير مؤسسات الحكامة التي تضمنت تقييمات سلبية حول أدائها في مكافحة الفساد، ولا منتخبوهم نجوا من مقصلة المتابعات القضائية على خلفية قضايا اختلاس وتبديد أموال عمومية وغيرها…
من جهة أخرى، صار من الواضح أن كثيرا من المحسوبين على النخبة السياسية، قد فقدوا بوصلتهم، ولم يعودوا قادرين على تحديد مواقفهم من الأحداث، والأزمات، والقرارات، وما إذا كان عليهم الاستبشار والإشادة بحدث أو قرار ما، أو رفض واستنكار توجه اَخر، في غياب تام لأي مرجعية تمثل لهم بوصلة في تحديد المواقف، وكأن كل المرجعيات والعقائد السياسية للأحزاب الموجودة، أصبحت فجأة هي نفسها، اللهم ما دوّن في أوراقها المنسية من مبادئ وأهداف "أصبحت غير صالحة لممارسة السياسة"، كما يروج لذلك النموذج الجديد من السياسيين الذي تركوا انتماءاتهم الحزبية في المقرات، ليقدموا أنفسهم ب"بروفايلات" تقنية أو شبه أكاديمية، مستعدة دوما لشغل المناصب والمسؤوليات، والعزف على أي لحن تتبناه مربعات المصالح وتدعمه.
بالمقابل، وفي ظل هذا الوضع، أصبح الناس مخذولين، منهم من لا يعرف حتى ما هو حقه، وما ليس من حقه.. ضاعت بوصلتهم بين قانون يُقرأ وآخر يطبق.. بين صورة الأوضاع التي يرسمها الخطاب الحكومي الرسمي، وذلك الواقع الذي يعيشه في حياته اليومية.. بين مبدأ حصاده الخسران، وتملق أو تسلق تنظيمي نتيجتهما التألق…
إن الأزمة الحقيقية التي يعاني منها المشهد السياسي المغربي، ليست مجرد أزمة برامج أو تحالفات، بل هي أزمة بوصلة مفقودة لفاعل سياسي لم يعد ينظر نحو الاتجاه الصحيح، بل أضحى عالقا في مسار مناقض لأي رهان ديمقراطي حقيقي. لذلك، قبل أن تطالب الأحزاب السياسية بتعزيز المشاركة السياسية، عليها أن تصلح بوصلتها أولا، وإلا فإنها ستنتهي إلى "جيف سياسية" بلا قيمة، تنتظر فقط استكمال عملية التحلل، في مشهد سياسي بات يخيم عليه الضباب.