يوم بيوم نور الدين مفتاح يكتب: المعرض الدولي للفنتازيا نور الدين مفتاح نشر في 23 مايو 2024 الساعة 0 و 54 دقيقة فمن أين لنا أن نجد شعبا قارئا في ظل منظومة تعليمية فاشلة لحد الآن وهو شيء لا يختلف عليه اثنان؟ التعليم ظل حقل تجارب، وهو آفة الدولة الاجتماعية المبشر بها. والبيئة العامة تكاد تكون كالأرض المحروقة. ففي المدن، لا تجد عروضا مسرحية أو موسيقية أو معارض تشكيلية، في الوقت الذي تجد هذا بالعشرات كل يوم في المدن العالمية. وأما ثقافتنا التراثية أو موروثنا الثقافي فلا شيء يذكر باستثناء وليلي وقصر الباهية وبضعة آثار! نور الدين مفتاح [email protected]
معرض الكتاب ظل لا «حدث» إلا ما تعلق بحواشيه. وكان الأمر مفهوما في ظل الجفاف الحاد في قراءة الورقي في بلادنا منذ عقود.
كانت الربورتاجات من هذا المعرض تنقل شغب المراهقين تارة وحوادث بعض الفوضويين تارة أخرى، فيما يتوجه الجزء المتبقي من الزوار إلى كتب «السلف». وأتذكر أن الكتاب الذي كان الأكثر مبيعا في إحدى السنوات هو «مذكرات كافر مغربي» لكاتبه هشام نوستيك، نظرا لجرأته وغرابته عن بيئة أغلبيتها الساحقة من المؤمنين، ورغم ذلك لم يتجاوز هذا «البيست سيلر» الخمسمائة نسخة مبيعة.
وبعدها، مع الحكومة الجديدة، كان الحدث هو تحويل المعرض من مكانه التاريخي بالدار البيضاء بجوار مسجد الحسن الثاني المعلمة إلى الرباط، لينطلق سجال هامشي أيضا حضر فيه كل شيء إلا جوهر الموضوع وهو الكتاب! وبما أن العالم عندما يبني شيئا فإنه يحافظ على رمزية مكانه، بحيث ترتبط المدن في المخيال العام بأحداثها الثقافية الفنية كمدينة «كان» مع موعدها السينمائي أو البندقية ومهرجانها أو باريس ومتحفها أو غيرها، فإن هذا التنقيل المجاني الذي ابتدعته وزارة الثقافة بلا مردود جوهري لم يعمل إلا على تحريك النعرات الانتمائية الضيقة، وإعطاء الحطب لمشعلي نيران السجالات الخاوية.
وبطبيعة الحال، ظلت الثقافة في السياسات الحكومية هامشية وميزانية قطاعها هذه السنة لا تتجاوز 0.18 ٪ من الميزانية العامة، وأما ميزانية البحث العلمي فلا تتجاوز 0.34 ٪ وأصبحنا بعد التعثر التنموي الكبير خلال عقود لا نهتم إلا بما يلبي الحاجات الأساسية للمواطن كإنسان، حتى أن إعطاء 500 درهم، أي 40 أورو، في الشهر لأسرة يعتبر إنجازا جبارا للحكومة تحتفل به وتفحم به خصومها.
ليس مشكل القراءة بطبيعة الحال ماديا، ولكنه مشكل بنيوي. هل يليق بشعب في ربع القرن الأول من الألفية الثانية بعد الميلاد أن يكون نصفه وما يزيد قليلا أميّا؟ وآخر دراسات المجلس الاقتصادي تقول إن أكثر من أربعة ملايين شاب مغربي، ما بين منتصف العشرينات ومنتصف الثلاثينات، لا هم يدرسون ولا هم يزاولون أي نشاط مدرّ للدخل! فعل القراءة ليس أمرا بسيطا يُبنى تحليله على واقعة معزولة كالتي جرت في معرض الكتاب لهذه السنة مع الكاتب السعودي أسامة المسلم. فعل القراءة موضوع مركب ومعقد، المجتمعي فيه والاجتماعي يتداخل مع السياسي والتربوي ومع البيئة العامة والعادات.
فمن أين لنا أن نجد شعبا قارئا في ظل منظومة تعليمية فاشلة لحد الآن وهو شيء لا يختلف عليه اثنان؟ التعليم ظل حقل تجارب، وهو آفة الدولة الاجتماعية المبشر بها. والبيئة العامة تكاد تكون كالأرض المحروقة. ففي المدن، لا تجد عروضا مسرحية أو موسيقية أو معارض تشكيلية، في الوقت الذي تجد هذا بالعشرات كل يوم في المدن العالمية. وأما ثقافتنا التراثية أو موروثنا الثقافي فلا شيء يذكر باستثناء وليلي وقصر الباهية وبضعة آثار!
أهذا هو مغرب ال 12 قرنا بعد تأسيس الدولة؟ هل يمكن أن يتحفز المغربي على القراءة التي تبدأ من التعطش للأجوبة بعد أن تتيح البيئة الثقافية ثمار الأسئلة؟ هل يرنّ كل هذا في رأس وزير للثقافة أم أنه ينجرف إلى البهرجة والسموكينغ في المهرجانات المرتبة والكثير من الكلام بلا طحين. بل وصل الأمر إلى حد الكارثة باستقبال وزاري للممثل والمغني المصري محمد رمضان بالمعرض رغم أن لا علاقة له بالكتاب حتى يحتفى به رسميا؟
إن ما جرى في معرض الكتاب هذه السنة، حيث انهمر شلال من الشباب على الرواق الذي ستوقع فيه كتب الروائي الفنتازي السعودي أسامة المسلم شيء يثلج الصدر، ومحمود بدون تحفظ. وحتى وإن كان هناك يوتيوبر مغربي قد فتح قناة خاصة بسرد روايات أسامة ولها متابعين كثر من الشباب، وحتى وإن كان قد نشر عليها إعلانا لموعد التوقيع مع التبشير بخصم 50٪ من ثمن الكتب، وحتى وإن كانت مواضيع أسامة المسلم التي تمتح من العالم العجائبي لكائنات فوق طبيعية ما بين الإنس والجن، فإن فعل القراءة بالنسبة لهذه الفئة من الشباب، وإقبالهم على اقتناء النسخ الورقية من مجموعات «خوف» أو «بساتين عربستان» أو غيرهما، هو بارقة أمل ومؤشر، على من يهمهم الأمر أن يلتقطوه بدل أن يسارعوا لالتقاط الصور مع الكاتب!
لقد سبق للزميل الحسن آيت بيهي أن قام بتحقيق حول الكتب المستنسخة التي تباع في بعض شوارع العاصمة، ووجدنا أن في الموضوع جانبان، الجانب الأول يتعلق بحقوق التأليف، فأن تنسخ كتابا وتبيعه بعشرة أو عشرين درهما فهذه قرصنة لا محالة! ولكن، كان هناك جانب آخر إيجابي، فهؤلاء «الفرّاشة» الذين لم يعد لسلعتهم من «سيديهات» الأفلام رواج بعد انتشار منصات الأفلام بالاشتراك على النت، استبدلوها بالكتب الورقية المنسوخة، وكانت منها كتب أسامة المسلم. وقلنا حينها إن لكل عملة وجهان، والوجه الثاني لهذه العملة هو أن فعل القراءة قد يكون فطرياً في الإنسان، ولكن يمكن للبيئة كما أسلفنا أن تقوّض الفطرة. وها نحن مرّة أخرى نرى أن الشباب المغربي بكل آلامه، وربما يأسه، ما يزال قادراً على التجمهر من أجل كتاب ورقي حتى يضطر الأمن للتدخل! هل نحن في حلم؟!
إنه الواقع الذي يسائلنا جميعا، لا يجب أن نتقاذف المسؤولية حتى يضيع دم القراءة بين قبائلنا المتناحرة أدبيا وإعلاميا وفنيا. نعم يجب أن نحاسب السياسيين لأنهم يدبرون الشأن العام، لكن، هل يليق أن تكون في هذا المجتمع المدني كل هذه الحروب الدامية، حتى أن اتحاد كتاب المغرب انهار، وجمعيات الصحافة والإعلام متشرذمة، وجمعيات السينمائيين تتجاوز الثلاثين وقس على هذا المسرح والأغنية والتشكيل وهلم صدامات وصدمات.
وضمن هذا الهرج والمرج يعتقد المرء أنه بنسف غريمه سيفوز ولكنه دون شعور يطلق الرصاص أيضا على رجليه، فالبلقنة والحلقية والضغائن الواهية تنفر الناس من الصحافة والسينما والتلفزيون والكتاب والمسرح، ولا يبقى من موضوع للنخبة، أو من تدعي ذلك، في كل هذه المجالات إلا الدعم العمومي مع أن الدعم الحقيقي لكل عمل إبداعي أو ثقافي أو إعلامي يجب أن يكون من الجمهور، من المجتمع.
حزين واقعنا جداً، فالطبيعي أنه حتى في الحالات التي تضمحل فيها السياسة، وينحرف الساسة، تجد أن السند المتبقي، الذي يظل يقظا حيا هو الثقافة بمفهومها الواسع. ونحن اليوم، مع الحذر من التعميم، نجد أن هذه الثقافة تكاد تكون في درجة أسفل مما يفعله السياسيون الحزبيون بالبلاد والعباد.
لا علاقة إذن لما جرى في المعرض بجنسية الكاتب أسامة، فأنا شخصيا تتلمذت قراءة على يد الروائي السعودي الأصل الكبير عبد الرحمان منيف من «عالم بلا خرائط» إلى «شرق المتوسط» ف«الأشجار واغتيال مرزوق» و«مدن الملح»... ولا علاقة للأمر باليوتيوبر المغربي الذي روج لأسامة ولا بالفنتازيا التي تشبه «هاري بوتر» للكاتبة البريطانية ج.ك رولينغ. ولكن الأمر يتعلق بشيء أعمق، يتعلق بهذه السياسة العمومية التي لا تستطيع أن تكشف الغطاء عن هذا التعطش الدفين للقراءة لدى المغاربة، على الأقل الذين كان لهم حظ الولوج إلى المدرسة، يتعلق بنا كإعلاميين ومثقفين وبمفهومنا لواجبنا ومدى استقلاليتنا وكفاءتنا ومصالحتنا مع ذواتنا ومع مسؤولياتنا المجتمعية، يتعلق ببناء جسر الثقة المتداعي اليوم بين المجتمع ونخبه، وبدون تدارك كل هذا بصدق ومصداقية وليس بالادعاء، فإننا سنظل من أقل الشعوب قراءة، وهذه وصمة عار لا تليق بمغرب ومغاربة الأمجاد. فهل من ضمائر حيّة وآذان صاغية؟!