يوم بيوم نور الدين مفتاح يكتب: رسالة من العزيز النويضي نور الدين مفتاح نشر في 16 مايو 2024 الساعة 20 و 01 دقيقة كانت هذه الوفاة بهذا الشكل الذي قدر الله أن تأخذ رجلا بهذا الوزن ملهمة. فالمغرب الذي بنى الأمجاد في تاريخه، وقاوم الاستعمار، وناضل من أجل الديموقراطية بالدم والدموع، يجد نفسه في قوس تاريخي غريب يكاد لا يشبهه. لقد انطلقت مشاريع كبرى، وتحققت قفزات لا تخطئها عين كل من نزل في المطار وأخذ الطريق السيار، إلا أن هذا المغرب ظل هشا من الناحية الاجتماعية، واكتشفنا مثلا في جائحة كورونا أن هناك أكثر من 20 مليون مغربي تحت عتبة الفقر، وترتيبنا في سلم التنمية البشرية لا يسرّ. قطاع التعليم فاشل وقطاع الصحة يعرج، والمجال العام أعطى في غفلة من الجميع الريادة في كثير من الأحيان للتافهين أو المدّعين أو الوصوليين أو سحرة الكلام وأصحاب الجباه العريضة الذين لا يخجلون من اقتحام أبواب كانت لها حرمتها في الثقافة والإعلام والعلم والجامعة. ودخل الرعاع إلى السياسة وأصبحت للشلاهبية حظوة وصولة وصار لهم أتباع، وكتب الصغار الفاسدون شعارات الإصلاح. ولم يكتف أولئك وهؤلاء بسرقة جزء من الثروة وجزء من السلطة، بل سرقوا الخطاب الذي كان رأس المال المتبقي لضحاياهم، وانهالوا على القيم كما ينهال الذئب على الشاة. نور الدين مفتاح [email protected]
الطريقة التي قدّر للصديق العزيز والأستاذ الفاضل عبد العزيز النويضي أن يرحل بها كانت مؤلمة وملهمة في آن. لقد كان في خضم جوابه على أسئلة الزميل يونس مسكين بمقر جريدة «صوت المغرب» حين شعر بضيق ثم انحنى، وفاضت الروح بكل بساطة. يا له من موت، ويا له من قدر!
أعرف أن أثر هذا الجرح سيتطلب وقتا ليندمل بالنسبة للزملاء ولعائلة الفقيد ولأصدقائه الأقربين، ومن هنا يكون الألم الذي يجمّد الدموع في المآقي ويعتصر القلوب. ولكن، السي النويضي أبى إلا أن يعطينا درس النهاية، درسا ربما يكون رسالة كنقطة ضوء في نفق طويل مدلهم.
جاء كما يحكي الزميل يونس مسكين بمبادرة منه، وكان محددا للمَحاور، وأعطاها للصحافي الذي قبلها احتراما للرجل ولنزاهته ولعدم شكه في أن وراءه أجندة خفية، ليبدأ في مناقشة المواضيع الأثيرة التي نذر لها حياته، من محاربة الفساد إلى حرية الصحافة إلى حقوق الإنسان، ووراءه خلفية حب وطنه.
كان النويضي، دون أن يشعر، يرتب لتكون وصيته مسجلة قبيل رحيله بثوان. كان يحمل معنى الشرف كجندي يحلم أن يموت في ساحة المعركة وليس على سرير وثير. إنها معركة التدافع السلمي، والنضال من أجل الحريات، والإيمان بقدرة بلادنا على تعزيز المكتسبات في مجال أدى فيه آلاف المغاربة خلال عقود تضحيات جساما في ما يسمى بسنوات الجمر.
مسار النويضي يكاد يكون مثالا يحتذى. فهذا الرجل الشعبي المتواضع حاز الدكتوراه وانخرط في العمل الحقوقي وأسس جمعية «عدالة» للدفاع عن استقلالية القضاء وعمل مستشارا في حقوق الإنسان للوزير الأول الأسبق الراحل السي عبد الرحمان اليوسفي، وظل دائما وفيا لليسار ووافته المنية وهو رئيس ل«ترانسبرانسي المغرب» وعضو في المنظمة العربية لحقوق الإنسان ومناصر من درجة فارس للقضية الفلسطينية كرمز لقضايا تحرر الشعوب، وأستاذ جامعي بارز ومحام بهيئة الرباط ومستشار لدى العديد من المنظمات الدولية والإقليمية.
وجدنا السي عبد العزيز النويضي في الكثير من الملفات الوطنية الحساسة مدافعا عن الحرية والمحاكمة العادلة، وظل صوتا للحق في وسائل الإعلام إلى أن كان آخر شيء تنتهي عنده هذه الحياة الضاجة بالآهات والأحلام، هي قوله كلمة صدق للرأي العام أمام واقع يكاد يكون محبطاً.
كانت هذه الوفاة بهذا الشكل الذي قدر الله أن تأخذ رجلا بهذا الوزن ملهمة. فالمغرب الذي بنى الأمجاد في تاريخه، وقاوم الاستعمار، وناضل من أجل الديموقراطية بالدم والدموع، يجد نفسه في قوس تاريخي غريب يكاد لا يشبهه. لقد انطلقت مشاريع كبرى، وتحققت قفزات لا تخطئها عين كل من نزل في المطار وأخذ الطريق السيار، إلا أن هذا المغرب ظل هشا من الناحية الاجتماعية، واكتشفنا مثلا في جائحة كورونا أن هناك أكثر من 20 مليون مغربي تحت عتبة الفقر، وترتيبنا في سلم التنمية البشرية لا يسرّ. قطاع التعليم فاشل وقطاع الصحة يعرج، والمجال العام أعطى في غفلة من الجميع الريادة في كثير من الأحيان للتافهين أو المدّعين أو الوصوليين أو سحرة الكلام وأصحاب الجباه العريضة الذين لا يخجلون من اقتحام أبواب كانت لها حرمتها في الثقافة والإعلام والعلم والجامعة. ودخل الرعاع إلى السياسة وأصبحت للشلاهبية حظوة وصولة وصار لهم أتباع، وكتب الصغار الفاسدون شعارات الإصلاح. ولم يكتف أولئك وهؤلاء بسرقة جزء من الثروة وجزء من السلطة، بل سرقوا الخطاب الذي كان رأس المال المتبقي لضحاياهم، وانهالوا على القيم كما ينهال الذئب على الشاة.
جزء من هذه المخلوقات يملأ الدنيا في مغرب اليوم ويشغل الناس في مؤسسات وجمعيات ومجالس وأحزاب ونقابات وهيئات ومنشآت… إنهم في كل مكان وأغلبهم يميلون مع الريح حيث مالت، واستعاضوا عن قوة الحجة بحجة القوة، وويل لمن قال كلمة حق أمام جورهم، فهم يتحالفون ليحطموا بعض الحالمين بقيم تكاد تبعث في نظرهم على السخرية، من مثل نظافة ذات اليد أو الاستقامة أو الحق أو الكفاءة أو الديموقراطية أو التنافس الشريف أو المصلحة العامة.
هؤلاء في حزب التفاهة هم الذين جعلوا آلاف الشرفاء يغادرون الساحة، ينزوون، يتوارون، ويتركون الجمل بما حمل. حتى أننا في هذه البلاد الجميلة بما حباها الله، نجد أننا كفريق وطني في الرياضة، اللاعبون الماهرون في دكة الاحتياط والفاشلون في قلب الميدان. هذا الخلل النخبوي الفظيع تكوّن بشكل معقد وفي غفلة من الجميع حتى وجدنا أنفسنا مطوقين بما لا يعد من القطاطعية والشناقة بعدما كانت الساحة ملأى بالأخيار والكفاءات.
سألني صديق مرّة: لماذا ينسحب هذا الجزء من النخبة الصالحة أو المتوفرة على الحد الأدنى من الصلاح بدل أن يقاوم أو يواجه؟ فكان السؤال مفحما بالفعل، ولكني أجبت بأنك لا يمكن أن نلوم فارًّا من جحيم ولا يمكن أن نؤاخذ أقلية على التواري إذا ضجت الساحة بشراسة الظالمين وأصحاب السوابق وربما اللواحق!
السي عبد العزيز النويضي لم يكن من هؤلاء الذين فرض عليهم الانسحاب أو التواري. كان يقاوم التيار، ويقاتل بما استطاع إليه سبيلا في ردهات المحاكم ومدرجات الكليات وقاعات الندوات وبلاطوهات المواقع الإلكترونية وصفحات الجرائد وتقارير المنظمات الوطنية والدولية. ولكنه كان يفعل هذا بأناقة يشهد بها المختلفون معه قبل المتفقين، لدرجة أكاد أقول أنه لم يكن له أعداء. كان صاحب نكتة يخفف بها كآبة المنظر، قمعا كان أو تسلطا أو اعتداء أو انزياحاً.
كان كريما سخيا بلا حدود، ولهذا اختار نهايته، فكان أن استجاب القدر، ورأيناه في الحوار الأخير، والكلمة الأخيرة واقفا بلا مرض ولا فراش موت ولا احتضار. ما أبهاه من موت ولو أن كل فقدٍ هو فادح، ولكن إذا كان لابد من نهاية فيشتهي المرء أن تكون نهايته كالشجرة.. تموت واقفة.
مُلهم شكل رحيل العزيز النويضي، فهذه الحياة يمكن أن تنتهي في رمشة عين، والناس يجرون جرياً وراء المغانم والمكاسب بلا حدود ولا قيود. المناصب والممتلكات أعمت الكثيرين ولسان حالهم يقول هل من مزيد، ولا يهم إن ظلموا والظلم ظلمات يوم القيامة. هذه الرحلة القصيرة في الدنيا لو كان يستحضر نهايتها كل متجبر متحايل فاسد متحلل مدعي، لما استمر في تلويث محيطنا، ولما استمرت الآهات والمآسي والفوارق الاجتماعية الصارخة والنهب وإفساد الذوق العام. هذه هي الكبائر الحقيقية التي ترهن شعبا كاملا، وتشيع اليأس والإحباط، وتنشر الكراهية والبغضاء. هذه هي الأوتاد التي تشدنا وتحول بيننا وبين الإقلاع.
لا يمكن لمن عرف سيرة العزيز النويضي أن يكون متشائما ولا يائسا. لقد كان رحمه الله مثالا للأمل والتفاؤل مهما خفت ضوء الشموع. وكما أسلفت، فإن هذه الحالة العامة التي يعيشها مغرب مُصاب في نخبه ما هي إلا قوس ننتظر إغلاقه، لأن هذا لا يشبهنا، ونحن المعتزون بأنفسنا وبفخر الانتماء وبحب الوطن الحقيقي، وليس ذاك الذي قال فيه أحد الحكماء إنه «عندما تصبح الوطنية مصدر دخل يكثر الوطنيون».
السي النويضي لم يجعل من الوطنية مصدر دخل، بل سبب وجود ومعنى حياة ووساماً بعد الرحيل، وهو الذي رفض وسام جوقة الشرف من فرنسا بسبب فلسطين، قضيتنا الوطنية الثانية بعد قضية وحدتنا الترابية.
العزيز النويضي، سترتاح بالتأكيد لأن الغد المشرق في هذه المملكة الشريفة بازغ لا محالة، وحزب التفاهة آفل لا محالة. وفي انتظار ذلك اسمح لنا أن نقول لك شكرا على ما أعطيت ولقد وفيت، ولله ما أعطى ولله ما أخذ وإلى اللقاء أيها العفيف النظيف.