هذا العام، تمرّ الذكرى 43 لرحيل بوجمعة أحكور المعروف باسم "بوجميع" (26 أكتوبر 1974)، الأب الروحي ل"ناس الغيوان"، وتمرّ في المقابل 73 سنة على ميلاده (1944)، حيث غادر الحياة شابا في عامه الثلاثين، تاركا بصمته الخاصة في مسار الفرقة. بوجميع أبرز مؤسسي مجموعة ناس الغيوان، درس الابتدائي بمدرسة الاتحاد التي شيدها أهالي الحي المحمدي في ذلك الوقت، بعدها انتقل إلى ثانوية الأزهر وهي الثانوية الوحيدة التي كانت معربة في تلك الفترة وكان يدرس بها أساتذة مشرقيين، ومن هؤلاء أخذ بوجميع الولع بالقضية الفلسطينية وتأثر بها أيما تأثر.
ينحدر "بوجميع" من أسرة فقيرة كانت تقطن بالقرب من مكان يسمى آنذاك "الشانطي ديال الشابو" وهو مكان أشبه بساحة جامع الفنا، ففيه تلتقي مجموعة من الفرق الموسيقية المتكونة من عمال يقطنون الحي المحمدي وذلك كل يوم أحد ومنها: فرقة أحواش، الكدرة، هوارة، عيساوة، أقلال … فيخرج الناس لمشاهدتها كما كان بوجميع دائم الحضور إلى هذا المكان الذي يضم أيضا أصحاب "الحلاقي".
بوجميع المسرحي المتميز
بالنسبة لبدايات بوجميع الفنية، فقد كانت تقريبا سنة 1963، إذ أسس بمعية مجموعة من رفاقه من أبناء الحي المحمدي فرقة مسرحية تسمى "رواد الخشبة"، وكان من بين أعضائها الفنان عمر السيد، وقد ألف بوجميع لهذه الفرقة مجموعة من النصوص المسرحية التي أدتها مثل "المسمار"،"فلسطين"، "الحاجة كنز"...
ثم التحق بفرقة المسرح البلدي التي كان يشرف عليها الطيب الصديقي، وقد شارك بوجميع في أشهر مسرحياتها مثل "سيدي ياسين في الطريق" و"عبد الرحمان المجذوب"، وأيضا "الحراز".
ويحكي رفيقه المرحوم العربي باطما في سيرته الذاتية "الرحيل" كيف استدعاه الراحل بوجميع ليمثل معهم بالمسرح البلدي، ليفتح بذلك أمامه أفقا لم يكن في حسبانه، مما يبرز الدور الأساسي الذي لعبه بوجميع في تشكيل النواة الأولى لمجموعة ناس الغيوان.
ويضيف العربي باطما: "لم أعرف في حياتي شخصا مثل بوجميع، فالكل كان يحبه، وكان رحمه الله ذا ثقافة واسعة واطلاع بعدة أشياء، وكان ينوي كتابة كتب وأبحاث في التراث الصحراوي الذي ينتمي إليه ، ثم تأليف مسرحيات وملحمات زجلية".
صديقه عمر السيد قال عنه: "كان فوق الخشبة إنساناً آخر، يستشعر بقوة الأغاني التي يؤديها"، ووصفه بالحركي الذي يتمتع بشخصية قوية، وبالفنان الذي يغنّي بأعلى درجة من الصدق.
من الدراويش الجدد إلى ناس الغيوان
كانت الفكرة التي توصّل إليها، وسيناقشها بوجميع مع الكاتب الراحل محمد زفزاف، هي الغناء بروح جديدة ومختلفة، فتأسست الفرقة مطلع السبعينيات تحت اسم "الدراويش الجدد". لكن هذا الإسم لم يعمّر طويلاً، إذ سرعان ما عثر بوجميع على الإسم الجديد داخل الفن التراثي الخاص بصحراء المغرب، حيث تعني "ناس الغيوان" أهل الترحال والتجوال. وسيضيف عمر السيد على معناها: "أهل المحبة والخير والسلام.
غيوان السياسة وهموم الشعب
حين غنّت "ناس الغيوان" في بداية السبعينيات، "فين غادي بي أخويا؟" و"علاّم القبيلة خرّف"، بدا للناس أنهم أمام فرقة سياسية، فأغاني المجموعة كانت فعلا مشحونة بمفردات التمرّد والاحتجاج، لكنها لم تكن وحدها توحي بهذه اللمسة الثورية، بل أيضا الإيقاع الفريد للفرقة وشكل ظهورها على الخشبة.
لكن "ناس الغيوان"، وعلى مدار عقود، لم تقف عند حدود السياسة، بل تغنّت بالحياة والوجدان والتراث والأحلام والهموم الصغيرة للناس. سيصرّح عمر السيد لاحقا أن الفرقة لم تكن ملتزمة بالسياسة بقدر ما كانت ملتزمة بالفن، وأن تأويلات المثقفين كلمات أغانيهم البسيطة غالبا ما كانت تجلب لهم المتاعب
ذاع صيت "ناس الغيوان" في السبعينيات والثمانينيات، وانتشرت أغانيهم بسرعة غريبة. وجدت أعمالهم صداها لدى شرائح مختلفة من المجتمع: مال اليساريون إلى الأغاني التي كانت تنتقد الظلم والتسلّط والفوارق الطبقية، والمتصوّفون والمتديّنون أحبّوا المدائح النبوية والمكاشفات الروحية.
أما الشباب فكانوا أكثر ميلا إلى الأغاني التي تبدأ وتنتهي بطعم الثورة والتمرّد على الأنساق التقليدية الجامدة، والقوميون تفاعلوا مع الأغاني التي تستنهض همّة الإنسان العربي وتدعو إلى الوحدة، وتذكّر بالقضية الفلسطينية التي أفردت لها المجموعة قطعاً عديدة، مثل "صبرا وشاتيلا"، "دومي يا انتفاضة دومي"، "الشمس الطالعة"، "القَسم"، وغيرها.
يضاف إلى ذلك كمٌّ هائل من الأغاني التي تعبّر عن غربة الكائن داخل عالم كان الجميع يحلم بأنه سيتغير، مثل "الماضي فات"، "ما يدوم حال"، "هاجت الأحزان"، "الهموم حرفتي"...
مات بوجميع وبقي الميكروفون
وما زال البعض يرى أن بوجميع الجريء لم يمت بشكل طبيعي، بل إن شقيق الراحل أشار في العديد من الحوارات الصحافية إلى ظروف وفاته الغامضة، مقدّما في هذا السياق بعض التفاصيل التي تشكك في رواية موته من جرّاء قرحة في المعدة ثلاثة أيام بعد عودته من سهرة أحيتها المجموعة شمال المغرب.
حين رحل رائد "ناس الغيوان"، قرر العربي باطما التوقف عن الغناء، لكن أصدقاءه أقنعوه بمواصلة ما بدؤوه معا، فعاد، لكن كان يحب أن يبقى هناك مايكروفون آخر على الخشبة إكراما لروح صديقه الراحل، الذي جمعته به علاقة خاصة قبل الغناء، ويتعلق الأمر بالمسرح. منقول عن : موقع pjd.ma