سمي الكوكب الذي نعيش عليه أزرق نسبة للماء، ذلك الكنز الثمين الذي لم يتوفر في سواه، فالله جعل الحياة مقترنة بوجود الماء، حتى أن هذا السائل الذي لم يُخلق في الكون الواسع ما يضاهيه أهمية لا يمنح الحياة للكائنات الحية فقط، بل إنه قادر على أن يمنحها للجمادات أيضا. فكيف ستكون الحياة في غياب هذه المادة الحيوية؟
المعروف أن الأرض تتشقق وتتصدع وتنعدم خيراتها كلما تأخر عنها الماء، مهددة حياة الكثيرين ممن ترتبط لقمة عيشهم بالطبيعة، وهو ما ينطبق على المملكة الشريفة التي تواجه اليوم أخطر جفاف في تاريخها المعاصر جعل مخزونها الاستراتيجي على المحك، فما هو الوضع ميدانيا؟ وماذا أعدت المملكة للحرب الموشكة على الوقوع؟
«عمري 42 سنة، ولم أشهد طيلة حياتي هذا الانخفاض في مستوى مياه سد بين الويدان. إننا نسير نحو الهاوية!». بهذه العبارة «القذيفة» التي خرجت من فم صاحبها مرفقة بتنهيدة خوف وعجز، لخص «محمد» المنحدر من قرية «بين الويدان» الواقعة في إقليمأزيلال والذي يملك مركبا يَسُوقُه بنفسه لنقل السياح في بحيرة السد، التحول الذي طرأ في ملء أقدم سدود المملكة، والذي كان على مر التاريخ «ترمومترا» لقياس جاهزيتها في «معركة» العطش المندلعة في أغلب مناطق العالم بفعل التغيرات المناخية، قبل أن يَصِفَ الوضع بحسرة قائلا: «إن السد يكاد ينضب من المياه، والأشجار المحاذية تموت ببطء، إننا نرى فناء الحياة من حولنا، خصوصا نحن الذين نعرف كيف كان الوضع وكيف أمسى…».
تصل الطاقة الاستيعابية لسد «بين الويدان» أزيد من 1.2 مليار متر مكعب، لكن نسبة ملئه تهاوت في الأشهر الماضية إلى أن وصلت إلى 10.3 في المائة، وهي أقل نسبة سجلها هذا السد منذ انطلاق استغلاله سنة 1953، أي ثلاث سنوات قبل استقلال المغرب، فيما لم يتعد مستوى ملئه بعد التساقطات المطرية الأخيرة 19.3 في المائة (235 مليون متر مكعب فقط)، وفقا لمعطيات يومية توصلت بها «الأيام» عن حقينة السدود تهم تاريخ الاثنين 8 ماي الجاري.
تُعَزّز هذه الأرقام المخيفة، الوضعية الكارثية على الأرض، حيث تظهر تشققات على جنبات البحيرة، معلنة عن قرب نفاذ الخزان الاستراتيجي من المياه في منطقة «بين الويدان» التي كانت على مدار عقود «جنةً» تستقطب آلاف السياح الراغبين في التمتع بِسِحر الطبيعة، قبل أن يعرف السد الذي منحها الحياة خلال الأعوام الأربعة الأخيرة، ولأول مرة، انخفاض حجم مياهه بحوالي 50 مترا، لدرجة أصبحت معها البحيرة تظهر ك»بِركة مائية» في سد يبلغ علوه 132 مترا وعرضه 290 مترا !!
بالنسبة إلى «عثمان» صديق «محمد» في المهنة والذي يكبره باثني عشر عاما، فإن الوضع في المنطقة «يُنذِرُ بوقوع الكارثة»، معبرا عن ذلك بالقول: «كان آباؤنا يستشعرون الجفاف عندما ينخفض مستوى ملء السد إلى 60 في المائة، أما اليوم فإن السد أصبح قريبا من الوضعية الكارثية لسد المسيرة»، إذ تفيد معطيات هذا السد الواقع بإقليمسطات، والذي يعتبر الأكبر بطاقة استيعابية تصل إلى 2.6 مليار متر مكعب، أن نسبة ملئه لا تتجاوز حاليا 4.3 في المائة، ما يهدد مُدُنًا ِعدة بالعطش كونه مزودها الرئيسي بماء الشرب، وبينها العاصمة الاقتصادية الدارالبيضاء التي يعيش فيها أزيد من سبعة ملايين نسمة.
القطرة الأخيرة !
يمثل الماء الذي يحيط بالقرية الصغيرة «بين الويدان» الواقعة بين «وادي العبيد» و»وادي أحنصال»، سر الحياة، فالماء حينما ينساب تندمل شقوق الأرض، وتلبس الطبيعة ثوبها الأخضر، وتشدو الطيور، ويبتسم الإنسان ويفرح، وعندما ينضب يصيب الإرهاق كل شيء فيبدو أصفر شاحبا، حتى الإنسان. لا أحد هنا كان يعتقد في أسوأ كوابيسه أن بحيرة السد الذي تصدر قنواتها الماء إلى قلعة السراغنة (على بعد 130 كيلومترا) يمكن أن يبلغ هذا المستوى من الانخفاض فجأة، بحيث لا سؤال اليوم في ظل واقع الحال إلا عن المآل.
ولا يقتصر الأمر على «بين الويدان»، فأزمة ندرة المياه تشمل كل ربوع المملكة، بالتزامن مع تناسل الدراسات في السنوات الأخيرة التي تحذر من دنو موعد حرب المياه الأولى، خاصة في منطقتي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وذلك بفعل موجات الجفاف والتغير المناخي. ويوجد المغرب في طليعة الدول التي تعرف ندرة هذه المادة الحيوية، ويفاقم هذا الوضع ما يعرفه السد الأقدم في المملكة الواقع على بعد كيلومترات قليلة من آيت أعتاب، والذي يطرح سؤالا رئيسيا: إلى أين تسير المملكة؟
على مدار عقود، شكل «بين الويدان» ملاذا للباحثين عن التمتع بخرير المياه وجمال الطبيعة، لكن المنطقة أضحت تشتكي في السنوات الخمس الماضية من ضعف الإقبال عليها، خاصة من جانب المغاربة، فرغم أن توقيت نزول «الأيام» بها تزامن مع أسبوع العطلة المدرسية الأخيرة، ظهر واضحا ضعف الإقبال عليها، عكس ما كان يحصل في سنوات خلت، والسبب أنها باتت منطقة كما لو أنها صحراوية، وتحولت الجبال التي تكون خضراء في مثل هذه الفترة من السنة إلى منطقة جافة، وهو ما دفع «السي علي» الخمسيني الذي يملك مطعما صغيرا بالقرية الصغيرة البسطاء أهلها إلى القول: «لا أريد أن أكون على قيد الحياة عندما تختفي القطرة الأخيرة من هذه البحيرة»، وأردف في حسرة: «أشعر بقلبي ينقبض كلما نظرت صوبها ورأيت مدى انخفاض منسوب المياه فيها».
هذه الوضعية الكارثية التي أصبحت تقض مضجع «علي» والساكنة المحلية، باتت ظاهرة للعيان على طول الطريق الفاصلة بين «بين الويدان» و»شلالات أوزود» والمقدرة ب60 كيلومترا، هذه الأخيرة التي تعد أشهر شلالات المملكة باتت تظهر كما لو أنها تسرب مياه من فج جبلي لا غير، في صورة بليغة تلخص ما ينتظر المملكة في قادم السنوات، حيث يعتبر وضع التزود بالمياه حاليا الأسوأ منذ استقلال المملكة، ذلك أن مخزون السدود لا يتجاوز حتى 8 ماي الماضي، 32 في المائة من طاقتها الاستيعابية، بينما يصنف المغرب تحت خط ندرة المياه الذي تحدده منظمة الصحة العالمية ب1700 متر مكعب للفرد سنويا، إذ لا تتجاوز هذه الحصة 600 متر مكعب في المملكة، علما أن هذا المعدل كان أكبر أربع مرات في ستينيات القرن الماضي، عندما قدّرت حصة كل فرد من المياه ب2600 متر مكعب.
السؤال الحارق !
«حزام الأمان» الذي يظهر أنه يفتقد تدريجيا، لا يشمل محور «بين الويدان» و«شلالات أوزود»، بل يمتد إلى محور «بين الويدان-إفران»، كما عاينت ذلك «الأيام»، على طول أزيد من 300 كيلومتر، والذي يمكن من تلمس آثار سنوات عجاف تعيشها الثروة المائية بالمغرب على طول الطريق من شلالات أوزود نواحي مراكش وصولا إلى إفران، مرورا عبر إقليميبني ملالوخنيفرة، كما يمكن الوقوف عن كثبٍ على مستقبل قاتم. حيث أحصينا تسعة أودية وبحيرات نضب ماؤها تماما أو بدأت صخور قعرها تظهر للعيان، أهمها بحيرة أمغاز نواحي أزرو، وبحيرتي أكلمام أبخان وأكلمام أزكزا بإقليمخنيفرة اللتين يتراجع مستوى مياههما كل يوم، وواد كركيرة بنواحي إفران، بينما أصبحت ضاية عوا وضاية حشلاف بالإقليم نفسه لا تحملان من الضاية إلا الاسم بعد أن جفت مياههما بالكامل.
ملامح ساكنة المناطق المجاورة لهذه المجاري المائية والتي كانت في الغالب قروية تظهر بوجوه محبطة رغم الابتسامة التي يقابلون بها الغرباء، كما كان البؤس وفقدان الأمل والخوف من المستقبل يفوح من كلامهم جميعا، بما في ذلك بعض الصغار الذين اشتكوا من نضوب الوديان التي جعلت الأراضي المجاورة جرداء في فصل الربيع، فحتى الأشجار المتفرقة بالكاد تقف وتبدو متعبة من آثار الجفاف المحيط بها.
أكثر من ذلك، لاحظت «الأيام» في كثير من الأماكن التي توقفت بها آبارا جافة حفرها بعض أهالي المنطقة الحالمين بالبحث عن إكسير الحياة في عالم يهدده الظمأ، لكن محاولاتهم باءت بالفشل حتى مع عمق يتجاوز المائتي متر، إضافة إلى العدد الكبير من معاصر زيت الزيتون التي أغلقت أبوابها بمناطق تعتبر مصدر الزيوت ذات الجودة الأولى بالمملكة، ليتناسل تساؤل مخيف آخر مع كل توغل أكثر بهذه الأقاليم: ماذا ينتظر المملكة؟
سباق مع الزمن !
يطرح هذا الخطر المتنامي أكثر من علامة استفهام بشأن الأسباب التي أدت إلى انهيار المخزون الاستراتيجي للمملكة من الماء، وفي نفس الوقت بات يستنفر الدولة، خاصة بعد الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية الأخيرة، الذي رسم خارطة طريق تروم تعبئة الجهود لتجاوز إشكالية ندرة المياه التي تشهدها المملكة، وما تفرضه من تحديات راهنية وأخرى مستقبلية، عبر تأكيده على أن سياسة الماء ليست مجرد سياسة قطاعية، بل تعد شأنا مشتركا يتطلب التقائية كل القطاعات المعنية.
منذ أسابيع، تسابق الحكومة الزمن من أجل إعداد استراتيجية حول الماء بحلول العام 2050، والتي قدمتها أمام أنظار الملك محمد السادس في استقباله لرئيس الحكومة عزيز أخنوش ووزير التجهيز والماء نزار بركة ومسؤولين آخرين قبل أيام.
وفضلا عن الاستراتيجية التي سيجري الكشف عنها في الأيام المقبلة، يبقى المغرب مطالبا بشكل استعجالي بتجاوز حالة «الإجهاد المائي البنيوي»، كما ورد في تقرير حديث للبنك الدولي، ليحاول محاصرتها بمنع السقي بمياه السدود، كما هو الشأن في سد «بين الويدان» الذي كان مصدر سقي مئات الآلاف من الهكتارات في سهول تادلة إلى جهة تانسيفت، وصولا إلى قلعة السراغنة.
ولا تشمل هذه الإجراءات «بين الويدان» وحدها، فقد أصدرت وزارة الداخلية تعليمات للسلطات المحلية بتحديد توزيع المياه عندما يكون ذلك ضروريا، ومنع سقي المساحات الخضراء وملاعب الغولف بماء الشرب، كما مُنع الاستغلال غير القانوني للآبار والمنابع أو المجاري المائية، بينما بدأت بوادر تغيير في خطة المملكة من خلال التعويل على بناء محطات تحلية مياه البحر بدل السدود، حيث تؤكد معطيات خاصة، أن الحكومة ماضية في بناء 20 محطة لتحلية مياه البحر في أفق العام 2030، ويفترض أن توفر جزءا هاما من ماء الشرب.
سد بين الويدان .. "غريق" يَمُدُّ يد العون ل"غريق"!
يعتبر سد «بين الويدان» أقدم سدود المملكة. انطلق تشييده من طرف المستعمر الفرنسي عام 1948، وبدأ استغلاله رسميا في العام 1953، وجاء تصميمه على شكل قوس على وادي العبيد من طرف المهندس الفرنسي «أندريه كوين»، ويصنف كأعلى سد في إفريقيا، بينما يعتبر ثاني أكبر سدود المملكة بعد سد المسيرة بإقليمسطات المشيد في العام 1975، وذلك بطاقة استيعابية تقدر ب1.215 مليار متر مكعب، كما أنه الثاني من حيث إنتاج الطاقة الكهربائية بأزيد من 600 مليار كيلوواط في الساعة.
تاريخيا، اكتسب السد أهمية كبرى من خلال توفيره مياه السقي لأزيد من 80 ألف هكتار من منطقة بني موسى، و37 ألف هكتار في سهل «تساوت السفلى»، إضافة إلى توفيره الماء الصالح للشرب لمدينتي بني ملال وأفورار، فيما يجري العمل على تزويد مناطق سوق السبت وولاد عياد ودار ولد زيدوح وحد موسى بالماء الصالح للشرب، لكن مع قلة التساقطات المطرية وضعف التساقطات الثلجية من حيث المساحة والسمك انخفضت الواردات المائية للسد، بينما ساهم استعمال مياهه في برامج سقي المدارات السقوية والأشجار المثمرة في تراجع منسوبه، حيث لا يتجاوز حجم ملئه حاليا 235 مليون متر مكعب بنسبة 19.3 في المائة.
وفي ظل نضوب مخزونه من المياه، اتخذت السلطات العمومية منذ خمس سنوات، تدابير تقييدية لتنظيم مياه السقي، وذلك من خلال اعتماد إمدادات أقل من الأحجام المطلوبة، وخلال السنة الفارطة والجارية جرى توقيف الإمدادات بكل المدارات السقوية، وتخصيص مياه بين الويدان لتوفير الماء الصالح للشرب فقط، كأولوية قصوى. في 2022، جرى لأول مرة تحويل ما يقارب مئة مليون متر مكعب انطلاقا من السد لتقوية حقينة سد المسيرة الذي يزود العديد من المدن كالدارالبيضاءوالجديدةوآسفي وسيدي بنور واليوسفية وبرشيد وسطات وبنجرير والمناطق المجاورة.
نصف سدود المملكة بنصف طاقتها وسبعة تسير نحو التوقف
تاريخيا، انكبت المملكة على تنمية العرض المائي الوطني عبر تعزيز سياسة السدود، ويتم حاليا مواصلة إنجاز أشغال 20 سدا من الحجم الكبير بكلفة إجمالية تقدر بحوالي 31 مليار درهم وسعة تخزينية تصل إلى 6.4 مليار متر مكعب، منها ثلاثة سدود في طور الانتهاء بكل من تيداس بخنيفرة، وتودغى بتنغير، وأكدز بزاكورة، وثلاثة سدود في طور إطلاق الأشغال بكل من تاغزيرت ببني ملال، وتامري بعمالة أكادير إداونتنان، وواد لخضر بأزيلال، وسدين كبيرين تم إطلاق طلبات العروض لإنجاز أشغالهما بكل من العرائش وصفرو بكلفة مالية تقدر ب2 مليار درهم، لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل هذه السياسة ناجعة؟
اليوم، بعد مضي خمس سنوات على جفاف غير مسبوق في المملكة، يظهر واضحا أن سياسة السدود لا تؤتي أكلها، ومع ذلك تستمر المملكة في نفس السياسة، ويظهر ذلك بشكل واضح من عدد السدود التي تكاد تنضب من الماء.
وبحسب معطيات رسمية توصلت بها «الأيام» عن حقينة السدود، فإن أزيد من نصف سدود المملكة التي تؤمن المخزون الاستراتيجي للمملكة من الماء (33 من أصل 62) يقل مخزونها من المياه اليوم عن 50 في المائة من طاقتها الاستيعابية، ضمنها سبعة سدود تقل نسبة ملئها عن 10 في المائة، وهي: المسيرة (4.3 في المائة)، وأحمد الحنصالي (6.2 في المائة)، وعبد المومن (6.7 في المائة)، وإمفوت (7.1 في المائة)، والحسن الثاني (10.6 في المائة)، ومحمد الخامس (6.8 في المائة)، فيما نضب سد توزكي من الماء تماما.
الجفاف الحالي هو الأخطر في تاريخ المغرب
يحكي التاريخ المعاصر للمملكة عن تعرضها لموجات متتالية من الجفاف، أبرزها تلك التي حصلت خلال الفترة ما بين 1940-1945، وأيضا بين 1980-1985، لكن الموجة الجديدة في الفترة الممتدة ما بين 2018 و2022 تبقى الأشد جفافا على الإطلاق، بعدما بلغ إجمالي وارداتها حوالي 17 مليار متر مكعب، وهو ما يشكل أدنى إجمالي للواردات خلال خمس سنوات متتالية في تاريخ المغرب.
ويعتبر السبب الرئيسي لهذه الموجة الخطيرة التي جعلت وزيرا سابقا مجربا مثل لحسن الداودي يعتبرها «جرس إنذار لحصول مجاعة»، التراجع الكبير للتساقطات المطرية ب50 في المائة على الصعيد الوطني مقارنة مع معدل التساقطات الاعتيادي، إضافة إلى التباين المجالي الذي تعرفه نسبة التساقطات حيث تتركز 51 في المائة منها في 7 في المائة فقط من المساحة الوطنية بكل من حوضي اللوكوس وسبو. كما أن حجم المخزون المائي بحقينات السدود بلغ إلى غاية فاتح دجنبر 2022، حوالي 3.82 مليار متر مكعب، أي ما يعادل 23.8 في المائة كنسبة ملء إجمالي مقابل 34.6 في المائة سجلت في نفس الفترة من السنة الماضية، فيما لم تساهم التساقطات المطرية الأخيرة سوى في ارتفاع المخزون إلى 5.23 مليار متر مكعب بنسبة 32.4 في المائة.
ويسجل متوسط الفرد من المياه تراجعا كبيرا، حيث يقدر متوسط نصيبه في السنة ب 620 مترا مكعبا. ومن المرتقب أن ينخفض إلى 560 مترا مكعبا سنة 2030 بفعل التزايد السكاني، إضافة إلى التباين المسجل وطنيا في متوسط حصة الفرد من الماء سنويا، ففي بعض المناطق يصل إلى 1000 متر مكعب، وفي مناطق أخرى لا يتجاوز 100 متر مكعب.
الخلل: سلاح السدود بدل تحلية مياه البحر
منذ الاستقلال، تعتبر سياسة السدود السلاح الوحيد الذي يجابه به المغرب العدو المتمثل في العطش، وتَكرّس الوضع في العقدين الأخيرين من خلال تشييد 50 سدا كبيرا ومتوسطا، والانخراط في تشييد 20 سدا آخرا توجد في طور الإنجاز، علما أن الخطة المرسومة منذ 2009 تروم بناء 57 سدا في أفق 2030، شُيِّدَ منها 14 سدا.
ورغم لجوء المملكة في العقد الأخير إلى تحلية مياه البحر، لكن ذلك يتم بشكل متباطئ، دون أن يعرف السبب في التأخر في تنفيذ هذه المشاريع التي ظهرت أهميتها أكثر من سلاح السدود، إذ لا يتجاوز عدد محطات تحلية مياه البحر حاليا 9 محطات من أصل 20 كهدف محدد لسنة 2030، والتي توفر 147 مليون متر مكعب في السنة، فيما يتوفر المغرب حاليا على 149 سدا كبيرا بسِعة إجمالية تفوق 19 مليار متر مكعب، و137 سدا صغيرا لدعم ومواكبة التنمية المحلية، إضافة إلى 158 محطة لمعالجة المياه العادمة، و16 منشأة لتحويل المياه، و88 محطة لمعالجة مياه الشرب، بالإضافة إلى آلاف الآبار لاستخراج المياه الجوفية.
وفي ظل الخلل الواضح في اعتماد الأسلحة الضرورية لمواجهة ندرة المياه في المملكة، تدافع الحكومة الحالية عن نفسها، بإعلانها أنها تتبنى منذ بداية ولايتها، إطارا منهجيا واضحا بهذا الخصوص، وذلك بمنح السياسة المائية أولوية خاصة في برنامجها الحكومي، سواء من خلال التوجه نحو إعادة هيكلة منظومة الحكامة المائية وتعزيز النجاعة والالتقائية، أو من خلال ضمان توزيع عادل للموارد المائية مجاليا، مع ما يتطلبه ذلك من تنزيل محكم لبرامج السدود وتحلية مياه البحر ومعالجة المياه العادمة ومياه الأمطار، وتحسين مردودية قنوات مياه السقي والشرب.
وقد مكنت هذه المجهودات من تعميم التزود بالماء الصالح للشرب في المجال الحضري بنسبة 100 في المائة انطلاقا من منظومات مائية مستدامة، كما يتم متابعة تعميم التزود بالماء الشروب في العالم القروي، حيث بلغت المنشآت المنجزة نسبة ولوج تصل إلى 98.5 في المائة، فضلا عن سقي أزيد من 2 مليون هكتار من الأراضي الفلاحية، وتعزيز آليات الحماية من الفيضانات، والمساهمة في إنتاج الطاقة الكهربائية.
مليار درهم لتجنب السيناريو الأسوأ
بعد دق جرس الإنذار، وتجنبا للسيناريو الأسوأ المتمثل في خروج الوضع عن السيطرة، رفعت حكومة عزيز أخنوش الاعتمادات المالية المخصصة للماء في السنة المالية الجارية (2023)، من خلال تخصيص غلاف مالي يقدر ب10.6 ملايير درهم برسم ميزانية 2023، بزيادة ب5 ملايير درهم عن السنة الماضية، وذلك لتنفيذ مجموعة من المشاريع البنيوية والهيكلية المرتبطة بالماء.
كما انكبت الحكومة، وفق ما هو مُعلن، على اتخاذ حزمة من الإجراءات ذات الطابع الاستعجالي، وفي مقدمتها إعطاء الأولوية للماء الصالح للشرب في المناطق المتضررة، خاصة على مستوى أحواض ملوية وأم الربيع وتانسيفت، والتصدي بحزم لمختلف التأثيرات السلبية الناجمة عن الجفاف كالهجرة القروية وتضرر سلاسل الإنتاج الفلاحي.
كما وضعت الحكومة برنامجا استعجاليا لمواجهة إشكالية ندرة المياه، رصدت له غلافا ماليا بقيمة 3 مليار درهم، يهم كافة الأحواض المائية المتضررة من نقص المياه، فضلا عن توقيع مجموعة من الاتفاقيات بين مختلف المتدخلين لإعادة توزيع العجز وتجاوز تبعاته. وهمت هذه التدابير أربعة أحواض مائية، ويتعلق الأمر بكل من حوض أم الربيع، وتانسيفت، وملوية، وجهة درعة تافيلالت، بكلفة إجمالية تقدر ب2.335 مليار درهم.
فعلى مستوى حوض أم الربيع: تم الانتهاء من إنجاز قناة ربط شبكة مياه الشرب لشمال الدارالبيضاء بجنوبها، إضافة إلى وضع المضخات، التي مكنت من الشروع في استغلال الأجزاء السفلية لحقينة سد المسيرة، فضلا عن إطلاق طلب التعبير عن الاهتمام لإنجاز محطة تحلية البحر بجهة الدارالبيضاءسطات، والتي ستتم في إطار شراكة بين القطاعين العام والخاص. وقد تم تحديد آخر الشهر الجاري كموعد لتقديم العروض. علاوة على التسريع في إنجاز محطة تحلية مياه البحر بآسفي، علما أن هذه المحطة ستساهم في توفير 30 مليون متر مكعب من الماء الصالح للشرب، منها 10 ملايين متر مكعب قبل متم سنة 2023. كما سيتم تأمين تزويد مدينة الجديدة بالماء الشروب، انطلاقا من محطة تحلية مياه البحر بالجرف الأصفر التابعة للمكتب الشريف للفوسفاط.
أما على مستوى حوض تانسيفت: فقد تم اتخاذ تدابير استباقية همت إنهاء أشغال جلب المياه من سد المسيرة، وتأهيل شبكة التوزيع لمدينة مراكش لتلبية حاجياتها، ثم برمجة إنجاز 16 سدا من السدود الصغرى والتلية، وتعزيز اللجوء إلى المياه الجوفية عبر إنجاز أثقاب جديدة لدعم التزود بالماء الصالح للشرب، مع تأهيل شبكة التوزيع لمدينة مراكش، ودعم تزويدها انطلاقا من سد مولاي يوسف، علما أن إمدادات منطقة مراكش من الماء الصالح للشرب أصبحت مهددة بفعل ضعف التساقطات، وهو ما جعل المسؤولين يطلقون حملة لترشيد استعمال المياه في انتظار نزول الأمطار. أما على المدى المتوسط، فتقول الحكومة، إنها تعمل بشراكة مع المكتب الشريف للفوسفاط، على دراسة إمكانية إمداد هذه المنطقة بالماء الشروب من خلال تحلية مياه البحر، انطلاقا من مدينة آسفي.
وبخصوص حوض ملوية: فقد تم العمل على الشروع في استغلال مياه محطات الضخ «أولاد ستوت» و»مولاي علي» لتزويد الناظور والدريوش ورأس الماء وبركان والسعيدية بالماء الصالح للشرب، مع إنجاز قناتين للشرب انطلاقا من سد مشرع حمادي، وبرمجة إنجاز 11 سدا من السدود الصغرى والتلية، إضافة إلى اقتناء وحدات متنقلة لتحلية المياه المالحة المستخرجة من الطبقات المائية الجوفية، وبرمجة تحلية مياه البحر في الجهة الشرقية على مستوى مدينة الناظور.
في حين عرفت جهة-درعة تافيلالت مباشرة إنجاز أثقاب استكشافية مكنت من تعبئة موارد جوفية إضافية، مع الشروع في استغلال سد الحسن الداخل لدعم الماء الشروب لمحور درعة-تافيلالت، وتعلن الحكومة أنها ستعمل قريبا على توفير الإمدادات الكافية لمنطقة زاكورة انطلاقا من سد أكدز الذي سيتم الشروع في استغلاله قريبا، مع برمجة إنجاز 33 سدا من السدود الصغرى والتلية.
الخطر الداهم !
هناك ما هو أخطر من الجفاف الحالي الذي يعتبر الأشد في تاريخ المملكة الشريفة، والذي يهدد مستقبل الحياة في البلاد. إنه الاستغلال المفرط للمياه الجوفية الذي بلغ ذروته في السنوات الأخيرة، بفعل تشجيع مخطط المغرب الأخضر منذ 2008 على الزراعات التي تستنزف الفرشة المائية والتي توجه للتصدير، في وقت تعرف فيه المملكة أكبر عجز على مستوى الواردات المائية خلال القرن الحالي، حيث سبق لوزارة التجهيز والماء أن أعلنت أن الاستغلال المفرط للفرشة المائية أدى إلى انخفاض مستوى الماء في الآبار بما بين ثلاثة وسبعة أمتار خلال سنة 2022.
وفضلا عن مشكل الاستغلال غير الآمن للمياه الجوفية، سبق لرئيس الحكومة عزيز أخنوش أن فجر في جلسة لمساءلته في البرلمان رقما مذهلا عن حجم المياه الضائعة بسبب غياب المراقبة، والمتمثلة في ضياع أزيد من مليون متر مكعب من مياه نهر أم الربيع يوميا بصفة غير مرخصة، إضافة إلى ضياع حوالي 40 في المائة من المياه عبر سيلانها من القنوات المائية، ناهيك عن إشكالية مصبات الأنهار في البحر، وهو ما يفرض الحاجة للتفكير في سبل تجميعها وتوجيهها إلى المناطق الأكثر تضررا لمواجهة الخصاص الحاصل.