* إعداد: كريم بوخصاص منذ 2017، انطلق العمل داخل سجون المملكة ببرنامج فريد من نوعه حمل اسم "مصالحة" موجه لسجناء التطرف والإرهاب، خُتِمَ في البداية ب"سري للغاية"، لكنه اليوم وبعد أن مضت خمس سنوات على إطلاقه وبلوغه النسخة العاشرة في 2022، أصبحت نتائجه ظاهرة للعيان، فقد تحول عدد من الجهاديين إلى أكبر "التائبين"، ومنهما محمد دمير وعبد الله اليوسفي اللذين كانا من أوائل المستفيدين من البرنامج. في هذا الملف حوار حول تجربة الرجلين اللذين خرجا من ضيق سجن التطرف إلى رحابة رابطة العلماء المغاربة، وحديث شيق مع أحد مهندسي البرنامج، الدكتور المصطفى الرزرازي عن المبهم منه، كما نستقرئ آراء الخبير في الحركات الجهادية محمد مصباح. قراءة ممتعة. «برنامج مصالحة كان فرصة العمر التي انتشلتني من الفكر المتطرف». بهذه الجملة المعبرة رد عبد الله اليوسفي السجين السابق بتهمة الإرهاب على سؤال «الأيام» بشأن رأيه في برنامج «مصالحة» الذي كان أحد أوائل المستفيدين منه عند إطلاقه سرا قبل خمس سنوات، قبل أن يضيف بنبرة حماسية: «لقد انتصرت على التطرف!». اليوسفي الذي اعتقل في تونس في يوليوز 2014 لارتباطه بتيار جهادي في أرض الياسمين، هو واحد من ضمن 239 مستفيدا من برنامج مصالحة، نجحوا في المصالحة مع ذاتهم ومع النص الديني ومع المجتمع، وأصبحوا يعتنقون فكر الاعتدال والوسطية، والذي ينهمك منذ مغادرته أسوار السجن في 22 يوليوز 2017 في تفكيك خطاب التطرف بمركز بحثي تابع للرابطة المحمدية للعلماء بعد استفادته من تكوين لمدة ستة أشهر. بين يوليوز 2014 ويوليوز 2017 مدة ثلاث سنوات قضاها اليوسفي في رحلة خلف القضبان بحثا عن اعتناق مذهب فكري جديد، خاصة بعد أن تفاجأ من تمظهر التيار الجهادي داخل السجن على شكل «أخطبوط» كما قال – ووجد ضالته في تبني النقد الذي قاده إلى تبديد سوء الفهم مع مفاهيم الجهاد والولاء والبراء وغيرها، ليُزَف ضمن 25 سجينا في النسخة الأولى من برنامج مصالحة سنة 2017، وكان أكثرهم حظا وحماسة في الآن ذاته، لكون مدة محكوميته انتهت قبل نهاية البرنامج. وبخلاف ما يفعله السجناء عادة حين يعانقون الحرية بعد سنوات من السَّجنِ، لم ينتقل اليوسفي إلى بيت العائلة في جماعة عمارت بإقليم الحسيمة، بل فضل البقاء في الرباط 15 يوما ليستفيد من آخر حصص البرنامج، حيث ظل ينتقل يوميا إلى سجن العرجات نواحي الخميسات وهو يحث نفسه وعائلته على الصبر على الفراق الذي اختاره طوعا إلى حين عَدِّهِ متخرجا من البرنامج. 129 مستفيداً من العفو الملكي لم يكن اليوسفي السجين الوحيد الذي عانق الحرية من خريجي الفوج الأول من «مصالحة»، وإن كانت حريته جاءت لاستكماله مدة محكوميته، لكن 13 سجينا آخرين منهم غادروا قضبان السجن بعفو ملكي بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب في 20 غشت 2017، ضمنهم متورطون في تفجيرات 13 ماي الأليمة، ومحمد دمير المحكوم بالإعدام والعضو البارز في خلية ما سمي ب»أمير الدم محسن فكري»، والذي كشف في حوار مع «الأيام» تفاصيل رحلته من ظلمات الغلو والتطرف إلى أنوار الوسطية والاعتدال. وحتى اليوم، استفاد 129 من رواد برنامج «مصالحة» من العفو الملكي، بحسب إحصائيات رسمية، من بينهم 10 معتقلات من أصل 13 بموجب قانون مكافحة الإرهاب. ورغم أن البرنامج أصبح معروفا اليوم بعد أن وصل نسخته العاشرة في 2022، إلا أن بداياته كانت مختومة ب»سري للغاية»، فلم يَرِد ذكره أول مرة إلا في بلاغ وزارة العدل الخاص بالمستفيدين من العفو الملكي في 20 غشت 2017، الذي كشف عن استفادة 14 معتقلا من سجناء الإرهاب من العفو الملكي بعد أن «راجعوا مواقفهم وتوجهاتهم الفكرية، ونبذوا التطرف والإرهاب، وأكدوا أنهم رجعوا إلى الطريق القويم». مراحل واستخبارات ! لم يكن برنامج «مصالحة» إلا حلقة من ضمن حلقات تدبير مملكة محمد السادس لملف سجناء التطرف والإرهاب، والتي لخصها محمد أكلمام مدير مديرية العمل الاجتماعي والثقافي بالمندوبية العامة لإدارة السجون، في ثلاثة مراحل، أولها ما بين 2003 و2011، وخلالها اعتمدت إدارة السجون على نظام اعتقال يرتكز على فصل هؤلاء السجناء عن باقي المعتقلين في أحياء خاصة بمؤسسات سجنية محدودة وبأعداد كبيرة بهدف تفادي تأثيرهم السلبي على باقي السجناء، لكن هذا التكتل جعل من الصعب على المؤسسات السجنية رصد وضبط ما يروج في أوساط هذه الفئة التي أضحت تشكل قوة ضاغطة تحاول فرض نظام خاص بها «بطرق غير قانونية»، وكان لهذا النظام انعكاس سلبي على المستوى الأمني أيضا، حيث تم تسجيل عدة أشكال احتجاجية وأحداث طارئة بدءا من الإضراب الجماعي الذي عرفته مؤسسة أوطيطة 2 سنة 2006، مرورا بعملية الفرار الجماعي التي عرفها السجن المركزي القنيطرة سنة 2008، ووصولا إلى أحداث التمرد الجماعي التي عرفها السجن المحلي سلا 1 سنة 2011. المرحلة الثانية شملت الفترة ما بين 2011 و2015، وفيها تم توزيع هذه الفئة من السجناء على مجموعة من المؤسسات السجنية دون فصلهم عن باقي معتقلي الحق العام، وكان الغرض من ذلك هو تفادي تكرار حالات التكتلات التي نتجت عنها الأحداث سالفة الذكر، إلا أن هذه المقاربة انطوت على عدة أخطار أهمها محاولة استقطاب سجناء الحق العالم، إضافة إلى «التفاعل المشبوه مع فئات خطيرة أخرى من السجناء المدانين على خلفية الاتجار في المخدرات وتكوين عصابات منظمة». أما المرحلة الثالثة فبدأت منذ 2016 إلى الآن، وتمثلت في إيواء سجناء الإرهاب البالغ عددهم 842 سجينا حتى 15 ماي في مؤسسات محدودة ذات بنيات ملائمة باعتماد مقاربة جديدة ترتكز على ثلاثة محاور أساسية، وهي الجانب الأمني الوقائي من خلال اتخاذ مجموعة من التدابير مع اعتماد مقاربة تأهيلية جديدة ترتكز على عدة برامج إدماجية متنوعة. وبالتوازي مع البحث عن شكل لإقناع سجناء التطرف بالوسطية، بدا واضحا عدم تخلي الدولة عن المراقبة الدقيقة لهذه الفئة من السجناء، حين أحدثت المندوبية العامة لإدارة السجون في 2015 «قسم الشؤون العامة والمراقبة» التابع مباشرة للمندوب، والذي يقوم بدور استخباراتي بعد أن عهدت إليه مهمة تتبع وتقييم سلوك هذه الفئة من المعتقلين بصفة خاصة، وذلك من خلال مراقبة تحركات السجناء المتطرفين ورصد أنشطة الاستقطاب ونشر الفكر المتطرف العنيف، وتشديد المراقبة والتتبع على السجناء المتشددين والممولين والمحرضين والمتزعمين، ورصد وتتبع علامات التشدد المؤدي إلى التطرف العنيف وكذا علامات فك الارتباط وفرص إعادة التأهيل، إضافة إلى رصد فساد الموظفين وتسريب الممنوعات. الأضلاع الخمسة لبرنامج "مصالحة" يتم تنزيل «مصالحة» عبر خمسة محاور هي: أولا: التأهيل الفكري والديني الذي يقع تحت مسؤولية الرابطة المحمدية للعلماء ووزارة الأوقاف (ممثلة في المجالس العلمية)، ويروم تفكيك الخطاب المتطرف وتصحيح بعض المفاهيم وتحديد الخلل في خطابات الغلو والتطرف، وتمكين السجناء من مفاتيح لحل شفرات الخطاب المتشدد الذي يسبب تطرفا على المستوى الديني والسلوكي. ثانيا: التأهيل القانوني والحقوقي من خلال مساعدة السجناء على فهم واستيعاب الإطار القانوني المنظم لعلاقة الأفراد بالمجتمع وبالدولة، انطلاقا من جدلية الحقوق والواجبات ومن مدخل المواطنة الإيجابية. ثالثا: المصاحبة النفسية التي يتكلف بها المصطفى الرزرازي من خلال إكساب النزلاء كفاءات معرفية وسلوكية تمكنهم من تحصين ذواتهم وتفادي الانسياق مع الخطابات المتطرفة والاندماج الايجابي بعد الإفراج. رابعا: الجانب الاقتصادي، حيث يواكب رجل الأعمال والخبير الاقتصادي حماد قسال السجناء من أجل بناء مشروع ذاتي أو مجتمعي يسهل اندماجهم المهني في مرحلة ما بعد السجن. خامسا: أعمال تطبيقية كمحاكاة تجربة التطرف والاستماع إلى شهادات الضحايا. الأرقام الصعبة لسجناء الإرهاب يبلغ عدد سجناء الإرهاب حاليا 842 سجينا، 469 منهم (55.70 في المائة) محكومون نهائيا، فيما البقية إما ناقضون أو مستأنفون أو احتياطيون لم يصدر في حقهم أي حكم، يقبعون في 14 سجنا (في سجنين مركزيين و12 محليا)، لكن أغلبهم شباب من الفئة العمرية بين 20 و40 سنة، بحوالي 78 في المائة (657 سجينا)، فيما يتراوح عمر 138 سجينا بين 40 و60 سنة، يشكلون 20.9 في المائة من إجمالي سجناء هذه الفئة، ولا يتجاوز عدد المسنين (فوق 60 سنة) سوى سبعة سجناء، أما البالغون أقل من 20 سنة فمجرد سجينين اثنين. والمشترك بين أغلب هذه الفئة من السجناء أن مستواهم التعليمي ضعيف جدا عند إيداعهم السجن، حيث أن 58.91 في المائة منهم إما أميون (47 سجينا) أو مستواهم لا يتجاوز الابتدائي (209 سجناء) أو الإعدادي (240 سجينا)، بينما يشكل عدد الذين يصنف مستواهم التعليمي ب»المتوسط» ما نسبته 21.38 في المائة (180 سجينا)، فيما لا يتجاوز أصحاب المستوى التعليمي «الجامعي» 19.71 في المائة (166 سجينا). ومما يلفت الانتباه في سجناء الإرهاب حالتهم العائلية، حيث أن أغلبهم عازبون ب475 سجينا يشكلون 56.41 في المائة، بينما يشكل المتزوجون منهم ما نسبته 39.79 في المائة (335 سجينا)، والمطلقون نسبة 3.80 في المائة ب32 سجينا. بالنسبة لتوزيعهم حسب مدة العقوبة، فإن 17 سجينا منهم محكومون بالإعدام، و23 منهم بالمؤبد (من بينهم 6 من المتابعين في عملية أطلس إسني الإرهابية سنة 1994)، بينما يصل عدد المحكومين بمدة بين 20 و30 سنة ما مجموعه 22 سجينا، وبين 10 و20 سنة 85 سجينا، فيما يشكل المحكومون بين سنتين وعشر سنوات أغلبية السجناء ب309 من السجناء المحكومين نهائيا، أما بأقل من سنتين فلا يتجاوز عددهم 13 سجينا. وضمن سجناء الإرهاب والتطرف يوجد 14 من جنسيات مختلفة، ضمنهم جزائريان وتشادي وسويسري وسوري وعراقي، وثلاثة لديهم جنسية مزدوجة (جزائرية فرنسية) واثنان (مغربية فرنسية) وآخران (مغربية بلجيكية). المصطفى الرزرازي أحد مهندسي "مصالحة" في حوار حصري: لم نسجل ظاهرة العود ونُدرك الحاجة للمرافقة الخارجية باعتبارك أحد المشرفين عليه، هل يمكنك رسم معالم برنامج «مصالحة» الخاص بتأهيل النزلاء المتابعين في قضايا الإٍرهاب؟ أحدث المغرب برنامج مصالحة، وهو برنامج يتأسس على مقاربة تكاملية، تشمل التكوين في العلوم الشرعية والدينية، انطلاقا من منهجية تتأسس على جدلية تفكيك خطاب التطرف والكراهية، ثم إعادة تأهيل النزلاء المشاركين من أجل اكتساب مهارات النقد والاستدلال الشرعيين انطلاقا من العقيدة الأشعرية المالكية الوسطية، ودورات تكوينية في المجالين الحقوقي والقانوني وحصص تكوينية وتواصلية حول القوانين الدولية والمحلية المنظمة للجرائم الإرهابية. إضافة إلى ذلك، يخصص البرنامج جزءا هاما منه للتكوين الخاص بتعزيز المهارات الاقتصادية والاجتماعية للسجناء، من خلال ورشات تكوينية وتأهيلية، تهدف إلى تعزيز كفاءاتهم المعرفية والتقنية في تدبير الاندماج السوسيو اقتصادي، وتنمية خبراتهم في الكسب الشريف من خلال امتلاك مفاتيح التدبير المقاولاتي. هذا علاوة على مصاحبة نفسية متخصصة طيلة فقرات البرنامج. وتتميز خصوصية هذا البرنامج في كونه يستجيب لخصوصيات هذه الفئة الخاصة من النزلاء، وللخصوصيات المرتبطة بالمناخ الثقافي والفكري والديني والاجتماعي، إضافة إلى كونه برنامجا ينضبط لكل المقررات الدولية والممارسات الفضلى، بما يشمل مذكرة روما حول إعادة إدماج السجناء المتابعين في ملفات التطرف العنيف والإرهاب، والتي تعتبر من المرجعيات الأساسية بما تحتوي عليه من توصيات توجيهية تؤسس للممارسات الجيدة لإعادة تأهيل المتطرّفين العنيفين وإعادة دمجهم بالمجتمعات. تضاف إليها مذكرة مراكش -لاهاي، ثم مذكرة الرباط التي تدعو إلى أن تعمل أنظمة المؤسسات السجنية على منع أية أعمال تطرفية أخرى من السجناء وتمنع الأنشطة الإرهابية التي يتم توجيهها أو دعمها من داخل منظومة السجن، بالإضافة إلى السعي لاجتثاث التطرف وإعادة دمج السجناء في المجتمع وبالتالي الحد من حالات العودة إلى الانحراف. بعد خمس سنوات من إطلاقه وبلوغه الدورة العاشرة، كيف يمكنك تقييم نتائج برنامج مصالحة؟ مرت فعلا خمس سنوات على انطلاق البرنامج، تم تنفيذ تسع دورات، وانطلقت النسخة العاشرة قبل بضعة أسابيع فقط. إلى اليوم استفاد من البرنامج 239 نزيلا، من مجموع عدد المعتقلين على ذمة الإرهاب اليوم وعددهم 842 نزيلا، وهو ما يعني أكثر من 25 في المائة. وقد تم الإفراج عن 129 منهم بعد استفادتهم من العفو الملكي، من بينهم 8 فتيات من مجموع 13. من آليات تقييم نجاحات برنامج مصالحة، هناك أربعة مؤشرات أساسية يمكن الاستئناس بها: المؤشر الأول، هو أن البرنامج اختياري وليس إجباريا، وهو ما يعني أن البرنامج استند إلى قاعدة أن المؤسسة السجنية لا يمكنها فرض برامج بالقوة على السجناء مسلوبي الحرية بمقتضى حكم قضائي يحدد طبيعة العقوبة حصريا في سلب الحرية. هذا الاختيار الحضاري الذي نهجته المندوبية، أدى إلى إقبال متزايد للراغبين في المشاركة في البرنامج. المؤشر الثاني، هو انعدام ظاهرة العود في أوساط المستفيدين من برنامج مصالحة. فقد سجلت حالة واحدة عاد صاحبها ضمن جرائم الحق العام، وليس ضمن الجرائم الإرهابية. في حين نذكر أنه قبل إطلاق برنامج مصالحة، كان عدد سجناء قضايا الإرهاب الذين التحقوا بمناطق التوتر (سوريا والعراق) حوالي 276 حالة. المؤشر الثالث، هو أن البرنامج ليس حوارا فكريا، أو ما اصطلح عليه عربيا ب»المراجعات»، لأن المراجعات كما عاشها العالم العربي، ارتبطت بقادة لتنظيمات جهادية، راجعوا ثم تراجعوا عن منظوماتهم الفكرية والتنظيمية، وأعلنوا معها فك الارتباط. أما لدينا فخصوصية المغرب هي أن المتورطين في مخالفة القانون تحت طائلة قانون الإرهاب 03-03 أو النص المعدل له القانون 14.86 لم يمثلوا تنظيمات إرهابية ولكن خلايا إرهابية، وهذا بفضل الأجهزة الأمنية المغربية التي قامت بتفتيت كل محاولات التشكيل التنظيمي، كان آخرها الجماعة الإسلامية المغربية المقاتلة التي تم تفتيتها بالكامل في تسعينيات القرن الماضي، وبدايات القرن الحالي التي تم تفتيها بالكامل. صحيح أن بعض الشيوخ الذين اعتقلوا على خلفية أحداث 2003، كانوا قد أقدموا على كتابة رسائل تراجع، لكن الأمر ظل محصورا على فئة محدودة من الشيوخ وبعض القادة، ولم يمتد ليشمل الفئات الواسعة منهم. وأخيرا، المؤشر الرابع، هو اعتماد البرنامج على أحدث تقنيات التقييم العلمي للجوانب الفكرية والسلوكية والوجدانية للمشاركين. كيف استطعتم مواجهة معضلة التحاور مع متطرفين أغلبهم من شريحة المنقطعين عن الدراسة في مراحل تتراوح ما بين الإعدادي والثانوي، ولا يملكون قدرة للإقناع، وتطرفوا من مداخل وجدانية ونفسية واجتماعية؟ فعلا، من خصوصيات المعتقلين على ذمة قضايا التطرف والإرهاب، خلال السنوات العشر الأخيرة، أن أعدادا كبيرة منهم ذوي مستوى دراسي متدني، غالبا دون الباكالوريا، مع تركز حول التعليم الابتدائي والإعدادي، وهي خاصية سادت طبيعة الفئات المستهدفة من فكر «داعش»، عكس آليات الاستقطاب السابقة عند «القاعدة» التي كانت تستهدف المتعلمين أكثر. ربما هذا إحدى الأسباب التي جعلت المغرب يتبنى إطلاق برنامج غير حواري، وغير منحسر في التأهيل الديني، لأن مكامن الخلل ليست فقط دينية، بل تمتد إلى جوانب اجتماعية ونفسية. دائما ما يكون هاجس القائمين على أي برنامج لتغيير قناعات المتطرفين، حالات العود، والتي سجلت في مرات عديدة بالنسبة لهذه الفئة من السجناء، كيف يتعامل البرنامج مع هذا الهاجس؟ أو بصيغة أخرى، ما هو السبيل لمعرفة تخلي سجين عن فكره المتطرف؟ كما أشرت سابقا، حالات العود الكبيرة التي سجلت وسط سجناء الإرهاب والتطرف، عرفها المغرب قبل 2017. حيث تفيدنا إحصائيات المكتب المركزي للأبحاث القضائية أن من مجموع حوالي 1600 مغربي الذين التحقوا بسوريا والعراق، هناك حوالي 276 كانوا سجناء سابقين. بعد إطلاق البرنامج، من مجموع المستفيدين بالبرنامج – كما أشرت سابقا – حالة العود تكاد تنعدم. وهذا مؤشر آخر على جدوى البرامج التأهيلية والمصاحبة. يؤاخذ البعض على برنامج مصالحة بُطء وتيرته، حيث لم يستطع في غضون خمس سنوات تأهيل إلا 239 نزيلا؟ أعتقد أن هذا الانتقاد هو لصالح برنامج مصالحة وليس ضده، لأنه ليس عرضا مسرحيا أو محاضرة ينتهي بانتهائها. وإلا سقطنا فقط في البهرجة والادعاء. البرنامج يتأسس على جدول زمني يتراوح ما بين 300 إلى 390 ساعة في كل نسخة، يتدخل فيه حوالي خمسة عشر فاعلا من الرابطة المحمدية، ووزارة الأوقاف ووزارة العدل، والنيابة العامة، والمجلس الأعلى للسلطة القضائية، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، ومندوبية حقوق الإنسان، وخبراء في علم النفس والتدبير المقاولاتي، إضافة إلى أطر المندوبية المكلفين بالمرافقة الداخلية للمستفيدين خلال فترة البرنامج، ناهيك عن لجنة علمية مختصة يرأسها المندوب العام لإدارة السجون وإعادة الإدماج. ومع ذلك، يبدو أن المؤسسات العامة باتت تُدرك الحاجة الماسة اليوم إلى المرافقة خارج السجن. بما يشمل المصاحبة الإدارية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية بشكل متخصص ومتفرغ لمصاحبة النزلاء السابقين في قضايا الإرهاب والتطرف العنيف، وأحيانا مصاحبة أسرهم وأبنائهم، خاصة حين يتعلق الأمر مثلا بالعائدين من مناطق التوتر. محمد مصباح الخبير في الحركات الجهادية: لا وصفة جاهزة لتغيير أفكار المتطرفين وهذه مكامن ضُعفِ «مصالحة» بعد أن بلغ نسخته العاشرة، ما هو تقييمك لبرنامج «مصالحة» لإدماج سجناء التطرف والإرهاب؟ برنامج مصالحة بلغ مرحلة تفرض نقده وتقييمه وتقويمه، خاصة أنه مشروع يروم تعزيز تجربة المغرب في مكافحة التطرف. وفي هذا السياق يمكن تقديم الملاحظات التالية: أولا: أن انطلاقته جاءت متأخرة، ففي الوقت الذي انطلقت موجة التطرف منذ ما قبل أحداث 16 ماي 2003 الأليمة، نجد أن البرنامج لم ير النور إلا بعد مرور نحو 15 سنة، والواضح أن معالجة الجوانب الإيديولوجية والسلوكية المرتبطة بالحركات الجهادية عرفت مقاومة أو عدم اهتمام كاف لسنوات. ثانيا: أن أسلوبه فيه نوع من الإبداع، وهذا يُحسَبُ للبرنامج، حيث أن محاوره متكاملة يتداخل فيها الفكري والديني والحقوقي والنفسي، وتستهدف تحقيق المصالحة مع الذات، والمصالحة مع النص الديني، والمصالحة مع المجتمع. ثالثا: غياب أي تقييم للبرنامج من جهة مستقلة، وهذه مشكلة تنطبق على كل البرامج الاجتماعية للدولة. صحيح أن من حق المندوبية العامة لإدارة السجون إجراء تقييم ذاتي للبرنامج أو الاحتفال بالمنجز، لكن لا يمكن معرفة نجاحه من عدمه إلا من خلال تقييم مستقل يهتم بالبحث في مؤشرين اثنين، وهما: نسبة العود؛ والاندماج في المجتمع بعد مغادرة السجن. وحتى الآن لم تصدر إحصاءات رسمية بشأن حالات العود للمستفيدين من البرنامج، وإن كنت أرجح أن تكون النسبة ضئيلة أو لا تكاد تُذكَر، بحكم أن السجناء المستفيدين يكونون غالبا في مراحل متأخرة من مراجعاتهم الفكرية والإيديولوجية، وتأتي استفادتهم من البرنامج لأخذ الشرعية وتسهيل عملية خروجهم من السجن. أما بخصوص مسألة الاندماج ما بعد السجن، فلا نتوفر عن المعطيات الكافية لتقييم ذلك، ونحتاج معرفة تفاصيل أكثر عن مدى سهولة اندماج السجناء المستفيدين من البرنامج في المجتمع. رابعا: أن كلفة البرنامج محدودة، حيث تراهن الدولة على الموارد المتاحة لدى إدارة السجون والرابطة المحمدية للعلماء، بخلاف تجارب دولية أخرى لجأت إلى خلق مؤسسات مستقلة لإعادة إدماج هذه الفئة من السجناء ولم تكتف بالموارد القائمة، خاصة أن نجاح أي سياسة عمومية يفرض تقييم حجم الموارد المخصصة لها. ويمكن القول إن برنامج «مصالحة» يتم تنزيله بأقل كلفة أو بدون تكلفة، ولا أتصور أن هذا العنصر سيكون مساعدا ليُحقق البرنامج ذلك التأثير المطلوب منه على مستوى إعادة إدماج السجناء المستفيدين في المجتمع ودعم أسرهم اجتماعيا وإعادة تأهيلهم نفسيا. تبقى الظاهرة الجهادية مُعَقدة، وتفكيك إيديولوجيتها من أصعب العمليات على الإطلاق، لأنها مرتبطة بنسق فكري له جذور عميقة في التاريخ، فإلى أي مدى يمكن لبرنامج محدود في الزمن وفي هامش التدخل أن يُغَير فكر إنسان من التطرف العنيف إلى المصالحة مع الذات والنص الديني والمجتمع؟ يصعب الإجابة عن هذا السؤال، لأن لا أحد من الباحثين ولا من التجارب المقارنة تحدث عن وجود وصفة جاهزة، كل ما هنالك هو بعض الممارسات الفضلى التي يمكن أن نستلهم منها أربعة مداخل للنجاح، أولها وجود إرادة سياسية معبر عنها، وثانيها صياغة سياسة عمومية واضحة بموارد محددة وكافية، وثالثها تحديد الحاجيات من البرنامج بدقة، ورابعها وجود برنامج متكامل لا يُرَكز على البعد الإيديولوجي وحده، بل يشمل البعدين النفسي والاجتماعي أيضا، وهذا المدخل تحقق في هذا البرنامج. ويبقى مكمن الضعف في «مصالحة» هو مدى حصول مواكبة للسجناء المستفيدين بعد استفادتهم من العفو الملكي، وأيضا عدم إدماج المجتمع المدني والحقوقي في تدبير هذا الملف إلى جانب الجهود التي تقوم بها الدولة. أليس المطلوب اليوم هو أن يمتد نطاق تدخل برنامج «مصالحة» إلى خارج المؤسسة السجنية، بحكم أن الكثير من أفراد المجتمع يحملون أفكارا متطرفة حتى إن لم يصدر عنهم عنف؟ صحيح. ينبغي أن تشمل مكافحة التطرف والوقاية منه دورة الحياة بأكملها، وما السجن إلا حلقة واحدة من حلقات يحصل فيها التطرف، مع الاحتياط في توسيع نطاق مفهوم التطرف بشكل يدفع حتى إلى استهداف الأشخاص المحافظين داخل المجتمع، وهي مسألة ينبغي تفاديها لأنها تخلق نوعا من البلبلة في المجتمع. عندما نتحدث عن التطرف فإن المقصود به هو الاستعداد لاستعمال العنف لأسباب إيديولوجية، لذلك تعد المقاربة الوقائية والاستباقية مهمة جدا، والتي نقصد بها أن تكون لدى المجتمع ميكانيزمات للدفاع تنطلق بشكل تلقائي حين يتم اكتشاف بعض بؤر التطرف، فعلى سبيل المثال عندما يظهر شباب يحملون أفكارا متطرفة في حي سكني فإننا لا نحتاج في المرحلة الأولى إلى تدخل الدولة، بل إلى تدخل مكونات المجتمع المحلي من إمام المسجد والجمعيات المحلية وغيرها التي يجب أن ترافق هؤلاء الشباب وتصاحبهم قبل أن تتحول قضيتهم إلى قضية سياسية وأمنية. إن المقاربة الوقائية ترتبط بما يسمى «community resilience» (مرونة المجتمع)، وهي نوع من ميكانيزمات الدفاع الموجودة في المجتمع نفسه وليس في التطرف بل في كل الانحرافات التي يعاقب عليها القانون، فالمجتمع المحلي ينبغي أن يتحلى بالتضامن العضوي للحفاظ على لحمة المجتمع. وبطبيعة الحال، عندما تصبح القضية أمنية حينها يجب أن تتدخل أجهزة الدولة بكل حزم كما هو مؤطر في القانون والدستور. بالنسبة لمعالجة الآثار المترتبة عن التطرف، فإن ذلك يتطلب نوعا من الذكاء والحكمة في التعامل، خاصة أن التجربة التي عاشتها المجتمعات تكشف أن المقاربة الأمنية لوحدها غير كافية، لذلك يبقى من الضروري أن تتعامل الدولة مع هذا الموضوع بحكمة في كل المراحل. انطلاقا من خبرتك في رصد الحركات الجهادية في المنطقة وتفكيك الفكر الجهادي، ماذا يلزم البرنامج لتحقيق كل أهدافه المرجوة؟ وأين يتمايز مع تجارب الحوار الأخرى مع السلفية الجهادية في العالم العربي؟ البرنامج حتى الآن يمتلك كل عناصر النجاح، وهذه مسألة لا يمكن إنكارها، بل ينبغي البناء عليها من خلال اعتماد ثلاثة قرارات: أولهما مأسسة المشروع وإعطائه بعدا مؤسساتيا من خلال إنشاء مؤسسة وطنية لإعادة إدماج سجناء التطرف، ويمكن أن تكون تابعة لمؤسسة محمد السادس لإعادة إدماج السجناء، لكن بمهمة ورسالة خاصتين وموارد بشرية ومالية كافية لإنجاز هذه المهمة. وعندما نتحدث عن إحداث هذه المؤسسة فليس من أجل إنشائها وحسب، بل من أجل أن تكون لديها وظيفة وتكون منفتحة على المجتمع ولا تكون امتدادا لأجهزة الدولة الأمنية، بل أن تكون ذات نفس حقوقي واجتماعي ونفسي، ومندمجة في المجتمع نفسه، وهذا الأمر يتطلب قرارا سياسيا. القرار الثاني وهو إدماج المجتمع المحلي والمدني في جهود مكافحة التطرف سواء على مستوى الوقاية أو العلاج، وهذه المسألة لا يجب أن تكون اختيارية. وما نلاحظه اليوم، أن هذه المسألة تُدَارُ حتى الآن بحدود دنيا، حيث مازال لدى الدولة تحفظ من إدماج المجتمع المدني بالرغم من أنه سيكون عنصرا مساعدا ويُحَقق نوعا من التكامل معها. أما القرار الثالث فيتمثل في تغليب المقاربة الحقوقية والإنسانية والمقاربة الاجتماعية على المقاربة الأمنية، خاصة أن المغرب تجاوز المرحلة الصعبة التي كان يعرف فيها تهديدات أمنية كبيرة تُهَدد استقراره، ومن شأن المقاربة الحقوقية أن تساعدنا في التحكم في الظاهرة دون أن تأتي بنتائج عكسية، وهذا لا يلغي بطبيعة الحال تبني الحزم لحماية أمن واستقرار البلاد.