حاوره: رضوان مبشور نستمع في هذا الحوار إلى المحلل السياسي أحمد نور الدين، وهو بالمناسبة ينحدر من منطقة فيكيك، التي يعرفها جيدا، حيث يحدثنا بإسهاب عن خلفيات وأبعاد أزمة "العرجة" كما يعرج كذلك على بعض الحقائق التاريخية التي تؤكد مغربية تلك المناطق الفيكيكية التي تعتبرها الجزائر أراض لها.
حتى نناقش ما يحدث اليوم في منطقة العرجة بفيكيك في عمقه، كيف تحلل خلفيات وأبعاد ما وقع؟ أي محلل سياسي يقارب الأزمة الحالية في فيكيك و»العرجة» لا يمكن أن يقفز على الخلفية التي تحكم النظام العسكري الجزائري، وهي خلفية مرتبطة بالشق الداخلي والشق الجيوستراتيجي الإقليمي: الشق الداخلي مرتبط بالحراك الجزائري الذي يرفع شعارات واضحة تتحدث عن إسقاط النظام العسكري، ونشطاء الحراك يسمون اليوم أطراف النظام ب «العصابات»، وهي حقا عصابات نكتشفها من خلال الصراع بين أجنحة الحكم في الجزائر، من خلال اعتقال جنرالات ثم إطلاق سراحهم بعد وفاة القايد صالح ووصول سعيد شنقريحة إلى القيادة العليا، ومنهم الجنرال خالد نزار وتوفيق مدين وطرطاق، إضافة إلى سجن السعيد بوتفليقة شقيق الرئيس السابق ووزراء أولين على غرار أحمد أويحيى وعبد المالك سلال، هذا كله يعني أن هناك أزمة داخلية وتصفية للحسابات بين من يطلق عليهم الحراك الجزائري اسم «العصابات». النظام الجزائري حاول الالتفاف على الحراك من خلال تغيير رئيس مريض (بوتفليقة) برئيس جديد، علما أن الجزائريين قاطعوا الانتخابات الرئاسية كما قاطعوا انتخابات التصويت على الدستور الجديد، كما يحاول النظام القائم الالتفاف على مطالب الشارع من خلال حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة، مع استمرار الحراك في المطالبة برحيل النظام ككل وليس حل البرلمان وإجراء بعض الرتوشات الطفيفة على وجه النظام. النظام الجزائري استعمل جميع الأوراق وبقيت له ورقة «العدو الخارجي» وهي ورقة تستعملها الأنظمة الشمولية والديكتاتورية، حيث تحاول التحكم في شعوبها وكتم أنفاسها من خلال التلويح بالعدو الخارجي الذي يهدد الأمن الداخلي، وطبعا فالعدو الجاهز في عقيدة النظام الجزائري منذ استقلاله هو المغرب، ويمكن أن نعود لفيديو مسجل لقائد أركان الجيش شنقريحة في 2016 يصف فيه المغرب ب»العدو» وقبل أشهر وصفه في كلمة له ب»العدو الكلاسيكي». وهكذا، ففي عز الأزمة الداخلية الجزائرية يحاول النظام العسكري أن يقنع الداخل أن هناك تهديدات خارجية قادمة من المغرب. ونرى كيف أن الجزائر تتسلح بشكل كبير وهي اليوم تعتبر خامس دولة في العالم من حيث الإنفاق على التسلح، وتأتي مباشرة بعد القوى الكبرى، حيث أنها تستورد أكثر من 45 في المائة من مقتنيات السلاح في القارة الإفريقية، أكثر من دول كبرى مثل جنوب إفريقيا ونيجيريا ومصر.
ما أفهمه من كلامك أن التحرشات التي تقوم بها الجزائر في منطقة «العرجة» بفيكيك هي للاستهلاك الداخلي الجزائري فقط؟ نعم، هذا هو الواقع. فهي بصدد البحث عن متنفس لأزماتها المتعددة، فهي تعاني من أزمة داخلية اقتصادية وأزمة سيولة وانخفاض حاد في قيمة العملة وتراجع أسعار النفط وقلة المواد الأساسية في السوق، دون أن ننسى أزماتها السياسية. الجزائر التي يحكمها تفكير عسكري يمكن فعلا أن تبحث عن إثارة نزاع مسلح مع المغرب من أجل القضاء نهائيا على الحراك وإخماد جميع الأصوات الجزائرية المعارضة سواء في الداخل أو في الخارج، وبالتالي إيجاد متنفس لهذا النظام.
هل يمكن أن تصل تطورات الوضع الحالي إلى درجة إعلان الحرب ضد المغرب عبر مدخل أزمة العرجة؟ هذه مقاربة كلاسيكية، لكنها في الحالة الجزائرية مقاربة غبية. بالعودة إلى بعض الكتب التي تدرس في مدارس أركان الحرب الغربية، يمكن أن نفهم أن العامل الحاسم في الحرب قبل السلاح هو قوة الاقتصاد. من المعروف أن الحرب آلة جهنمية لابتلاع الاقتصاد وابتلاع أرقام فلكية من ميزانية الدولة. والنظام الحاكم في الجزائر يخيل إليه من خلال مقتنياته العسكرية وعتاده الحربي أنه يمكن أن يحسم المعركة بسهولة، وهذا غير صحيح. وهكذا فعوامل الحسم في الحرب أكبر من العتاد العسكري. دون أن ننسى أن الحرب هي كذلك خطر على الجزائر، فأي ضربات يمكن أن توجه إلى آبار النفط وإلى أنابيب الغاز وإلى الموانئ ستشل بشكل تام اقتصاد البلاد، الذي هو اقتصاد ريعي يعتمد على المحروقات فقط.
لكن في مقابل ذلك كيف يمكن أن نفسر الصمت الرسمي المغربي، هل هو الصمت الذي يسبق اتخاذ قرارات عاصفة مثل ما حدث مؤخرا في أزمة الكركرات، أم أن المغرب يعرف ألاعيب النظام الجزائري وبالتالي فهو لا يريد أن يعطي «قبلة الحياة» لنظام متهالك يريد تصريف أزماته التي يتخبط فيها وعلى رأسها الحراك الذي يشكل صداعا حقيقيا في رأس النظام العسكري؟ الاحتمال الأخير الذي تفضلت به هو الأقرب للواقع. لا أعتقد أن هناك صمتا يسبق العاصفة لأن الأمور محسومة في المنطقة فالمغرب يسيطر على أراضيه ولم يبق سوى خلاف حدودي حول بضع كيلومترات منها منطقة «العرجة». يمكن أن نفسر هذا الصمت المغربي على أنه استدراج للجزائر لترتكب أخطاء. وأعتقد أن العقل الاستراتيجي للمغرب في اتخاذ القرارات فهم بحكم المعطيات المتوفرة لديه من خلال استقراء الوضع السياسي الداخلي في الجزائر إضافة إلى المعلومات الاستخباراتية (فهم) الكثير من الأمور، وبالتالي فالمغرب لا يريد الرد على الجزائر على الأقل في الوقت الراهن. وبالعودة إلى التاريخ، نتذكر كيف أن الجيش الجزائري هجم على شمال منطقة فيكيك في 8 أكتوبر 1963 كما هاجم منطقة حاسي بيضا، وكان هذا التصرف الجزائري فخا وقع فيه المغرب، في الوقت الذي كانت هناك حرب ضروس ما بين جيش التحرير الجزائري والقيادة الجزائرية التي كانت ترفض تسليم الحكم لمن كانوا خارج البلاد، وبعدما رد المغرب على الجزائر في إطار ما يعرف بحرب الرمال توحدت الجبهات المتصارعة في الجارة الشرقية واستتب الأمر واستطاع هواري بومدين أن يوحد المتصارعين خلفه. المغرب يعرف أن هذا النظام يحتضر وبالتالي لا يمكن أن يلقي للنظام الجزائري بحبل النجاة من خلال الرد على هذا الاستفزاز في منطقة العرجة.
لكن في مقابل ذلك هناك من ينتقد هذا الصمت، وخاصة على المستوى الحكومي وعلى مستوى الإعلام الرسمي، خاصة وأننا نرى كيف أن الجزائر قامت بتجييش إعلامها الرسمي في منطقة العرجة التي سوقت لها أنها منطقة جزائرية؟ أنا ابن منطقة فيكيك، ويمكن أن أذهب معك في نفس الاتجاه وأن أنتقد هذا الصمت الرسمي، لكن أعتقد أن الموقف الاستراتيجي يرجح هذا النوع من الصمت.
أنت ابن فيكيك وتعرف المنطقة جيدا، ورب قائل يقول في تفسيره لهذا الصمت إن منطقة العرجة هي منطقة جزائرية بموجب الاتفاق الموقع سنة 1972، فهذا على الأقل ما يروج له اليوم الإعلام الجزائري. هذا التحليل خاطئ، ولدى أسباب سأعرضها عليك لأبين لك أن منطقة العرجة هي منطقة مغربية: من حيث التأويل، تتحدث اتفاقية 1972 عن أن الحدود الفاصلة بين المغرب والجزائر هي قمم الجبال ولم تتحدث عن منطقة العرجة، حيث أن فيها كثبانا رملية، وحين تتحدث الاتفاقية عن الكثبان الرملية تجعل الحدود الطبيعية هي «الوادي غير المسمى»، وإذا رجعنا إلى المنطقة سنجد أن واد العرجة هي منطقة مغربية بحكم التاريخ والجغرافيا. هناك رسالة لمولاي الحسن الأول إلى شيخ الجماعة بفيكيك سيدي بومدين الزناكي والمؤرخة سنة 1891 وتتحدث آنذاك عن منطقة العرجة وتسميها بالاسم، مما يعني أن هناك إثباتات تاريخية أن منطقة العرجة مغربية، وواد العرجة معروف اسمه بينما تتحدث اتفاقية 1972 عن «الواد غير المسمى»، كما أن أهل فيكيك يعرفون اسم هذا الواد وهو واد العرجة.
لكن البعض قد يقول إن هذه الوثيقة مغربية، وقد توجد وثائق أخرى جزائرية تثبت العكس؟ لمن يقول هذا الكلام يمكن أن نحيله على وثيقة محايدة، وهو بروتوكول 1901 الذي أبرمته فرنسا مع المغرب، علما أن فرنسا كانت حينها متحيزة للجزائر، وهو بروتوكول يسمي بالاسم منطقة العرجة وواد العرجة، فكيف يمكن أن يكون لهذا الوادي اسم سنة 1891 و1901 وألا يكون له اسم سنة 1972. إضافة إلى ذلك فأهل فيكيك لديهم صكوك ملكية وظلوا يمارسون حقوقهم على هذه الأراضي إلى غاية 2021. ويمكن أن أقول أن الصمت المغربي هو من ساهم في ترويج الأطروحة الجزائرية.
وهناك خرائط يتم اليوم ترويجها تعتبر العرجة منطقة جزائرية. هذه الخرائط ينشرها الإعلام الجزائري وتورطت بعض الجرائد المغربية في إعادة نشرها دون التحقق منها، وهي الخرائط نفسها التي قدمتها الجزائر للأمم المتحدة مصحوبة بنص اتفاقية 1972، حيث أن المغرب لم يصادق على هذه الاتفاقية إلا في حدود سنة 1989، وإلى حدود الساعة لم تفرج السلطات المغربية عن هذه الخرائط، والصمت المغربي هنا مريب، وعلى الدولة أن تفرج لنا عن هذه الخرائط.
بلغة القانون، كيف يمكن لدولة أن تسلب أراض يستغلها فلاحون من دولة أخرى لعقود من الزمن؟ من الناحية القانونية، الملكية الخاصة أو الحقوق العينية تعلو فوق مسائل السيادة، بحكم أن السيادة لدى الدول يمكن أن تتغير من سنة إلى أخرى. ويمكن أن ننظر إلى خرائط الدول الأوروبية اليوم التي ليست هي نفس الخرائط خلال القرن الماضي. فخارطة ألمانيا اليوم ليست هي خارطة ألمانيا قبل قرن فقط من الزمن، ونفس الشيء بالنسبة لإيطاليا وبولونيا… ويمكن أن نلاحظ مثلا أن منطقة الألزاس واللورين غيرت الخريطة ما بين فرنساوألمانيا في أكثر من مرة. وهكذا فتغير السيادة لا يسقط بأي حال من الأحوال الحقوق العينية للأفراد، ففلاحو العرجة يملكون وثائق تثبت أحقيتهم لأراضيهم، بعضها يمتد لقرن أو قرنين أو ثلاثة قرون من الزمن، وملكيتهم لهذه الأراضي لا يمكن أن تسقط سواء أكانت اتفاقية 1972 تمنح تلك الأراضي للمغرب أو للجزائر. من الناحية القانونية، فالاتفاقيات تكون لديباجتها في العرف القانوني قوة قانونية أقوى حتى من الفصول، وفي ديباجة اتفاقية 1972 نجد الإشارة إلى اتفاقية «للا مغنية» التي وقعت في 1845 وإلى بروتوكول 1901 الموقع بين فرنسا والمغرب، وهاتان الاتفاقيتان تشيران إلى منطقة العرجة بفيكيك، دون أن ننسى أن منطقة فيكيك تمتد إلى ما وراء الحدود التي رسمتها فرنسا. وبروتوكول 1901 يعترف لأهل فيكيك بهذه الحقوق. إذا عدنا للمنطق القانوني فالذي يخرق جزءا من الاتفاقية يسقط هذه الاتفاقية بالمرة، وفي هذه الحالة من خرق الاتفاقية هي الجزائر. والفصل الثالث من بروتوكول 1901 يشير إلى أن حق أهل فيكيك محفوظ للوصول إلى أراضيهم ليس فقط إلى شرق الحدود المغربية الجزائرية ولكن إلى حدود السكة الحديدية التي تمر من الجزائر. حيث أنه من المعلوم أن السكة الحديدية الرابطة بين وهران وبني ونيف التي تبعد ب 80 كيلومترا عن مركز منطقة فيكيك توجد وراء الحدود الجزائرية.