يعتبر المفكر الموريتاني وأستاذ الأخلاق السياسية بجامعة قطر، محمد المختار الشنقيطي، أحد الوجوه البارزة التي ما انفكت تعلن عن موقفها الرافض لاستمرار النزاع المفتعل في الصحراء، وتنتصر للتاريخ والجغرافيا بالدعوة إلى تضميد هذا الجرح الغائر كما يسميه في جسد المغرب العربي فورا وللأبد. في هذا الحوار يقدم الشنقيطي قراءته للحزم المغربي في منطقة الكركرات ويبسط العدة الاستراتيجية لحسم الملف لصالح مغربية الصحراء.
– يعرف النزاع المفتعل في الصحراء تطورات على الأرض بعدما أعلن الجيش المغربي تدخله في منطقة الكركرات (حيث يوجد المعبر الحدودي البري الوحيد للمغرب مع غرب إفريقيا) للرد على استفزازات البوليساريو التي تعيق الحركة التجارية، كيف تابعت هذه التطورات؟
** المعبر الحدودي في (الكركرات) شريان حيوي للمغرب وموريتانيا ودول غرب إفريقيا، ومحاولة "البوليساريو" سد هذا المعبر هو نوع من قطع الطريق، الذي لا يمكن القبول به شرعا ولا منطقا. وقد أحسنت المملكة المغربية في التصدي بحزم لذلك، وأتمنى أن تتعاون السلطة الموريتانية مع السلطة المغربية في التصدي لقطَّاع الطرق، الذين يحاولون سد الشريان الواصل بين البلدين الشقيقين. فليست موريتانيا بأقل حاجة لهذا المعبر من المغرب. فمصلحة موريتانيا وأمنها في التعاون مع المغرب لضمان فتح المعبر الحدودي، وأمن الشريط الحدودي، ثم التعاون مع كل الدول المغاربية لتحقيق اعتراف الجميع بمغربية الصحراء، وتضميد هذا الجرح المغاربي القديم، والتغلب على سوء التفاهم المزمن بين الشقيقتين الكبيرتين الجزائر والمغرب حول هذا الموضوع.
– لطالما عبرتَ عن موقفك الواضح من النزاع المفتعل، كيف ترى جبهة "البوليساريو" معيقا للوحدة المغاربية؟
** أنا لست من أهل الحياد الزائف والمواقف الرمادية في الموضوعات الحيوية مثل وحدة الشعوب. والصراع في الصحراء جرحٌ قديم وعميق في خاصرة المغرب العربي: يسمم العلاقات بين الشعوب المغاربية، ويمنع الوحدة بينها، سعيا وراء وهم دولة خيالية، لا مكان لها في التاريخ أو الجغرافيا، سوى الإصرار على التشبث بمواريث الاستعمار الإسباني البغيض. وموقفي واضحٌ جدا، وهو ضرورة التخلص من هذا الجرح فورا وإلى الأبد، من خلال اعتراف الجميع بمغربية الصحراء، احتراما لوحدة المملكة المغربية، وتسهيلا للوحدة المغاربية التي تطمح إليها جميع شعوبنا. لقد عانى الصحراويون كثيرا، وهم أكبر ضحايا هذا النزاع، لكنهم ليس ضحايا الوحدة والتوحد -كما تقول دعاية البعض- بل هم ضحايا ميليشيات التجزئة والتفرقة المعروفة باسم البوليساريو.
– ماذا يلزم من الناحية الاستراتيجية لإنهاء هذا النزاع الذي عمر طويلا؟ وما هي مسؤولية دول المنطقة؟
** الحل الوحيد والحكيم للنزاع في الصحراء هو حكم ذاتي ضمن الدولة المغربية الواحدة، وتجاوز سوء التفاهم بين الشقيقتين الكبيرتين: المغرب والجزائر، حول هذا الموضوع، تمهيدا لوحدة مغاربية جامعة، يجد فيها الجميع -بمن فيهم الصحراويون- أنفسهم في فضاء حضاري واسع ومشترك، بعيدا عن الأنانيات القبلية والعصبيات السياسية. أما حق تقرير المصير الذي تلوح به البوليساريو ومناصروها فليس حقا مطلقا في القانون الدولي، بل هو مبدأ تقرَّر على يد (عصبة الأمم) في صدر القرن العشرين لتسهيل تحديد الحدود بين دول العالم، وقد تراجع هذا المبدأ -باكتمال رسم الحدود بين الدول- لصالح مبدأ سيادة الدول ووحدة حوزتها الترابية. وكم من جماعة تريد الانفصال اليوم عن دولها لا يسعفها القانون الدولي في ذلك رغم رفعها شعار تقرير المصير. كما أن التمتع بحق تقرير المصير مقيَّدٌ في القانون الدولي بشرطين: عدم الإضرار بالشعوب والدول الأخرى، ووجود هوية جماعية متميزة جوهريا عن الشعوب المراد الانفصال عنها. وهما شرطان لا ينطبقان على مطالب البوليساريو. فانفصال الصحراء إضرار بالدولة المغربية وتمزيقًا لها، كما أن الصحراء مجال جغرافي فسيح، يتمدد في دول كثيرة، ومنها الدول المغاربية الخمس وغيرها.
ولا وجود لهوية ثقافية أو عرقية تميز أهل الصحراء عن الهوية العربية الإسلامية الجامعة للفضاء المغاربي كله. فما يجمع بين شعوب الفضاء المغاربي أعمقُ وأعرقُ من "الدراعة" و"الملحفة" و"أتاي" و"اللهجة الحسانية" و"اشويرات البيظان"…الخ مع احترامي ومحبتي لكل هذه الأمور، فأنا بيظاني موريتاني في نهاية المطاف. لكن التسويق لاختلافات فولكلورية شكلية مثل هذه -توجد داخل كل أمم الأرض- وتجاهل وحدة الدين واللغة والجغرافيا والتاريخ والحضارة والمستقبل.. بلاهة سياسية وضيق أفق لا أستسيغهما.
– وأنت العارف بتفاصيل المنطقة المغاربية، كيف يمكن أن تنهض الوحدة المغاربية بمستقبل شعوب المنطقة؟
** لا مستقبل للشعوب المغاربية بدون الوحدة المغاربية. وتوجد دواع مبدئية ومصلحية كثيرة تجعل هذه الوحدة واجبا وضرورة. ففي كل من الدول الخمس ما تحتاجه من شقيقاتها الأربع، وما يمكن أن توفره لهن من مصالح، وإذا حصل تكامل بين الدول الخمس، ولو في شكل وحدة تنسيقية مرنة، تفتح الحدود لحركة الناس، والتبادل التجاري الحر، والتعاون الثقافي والعسكري.. الخ، فستكون المنطقة المغاربة كتلة قوية، بمساحة شاسعة، وثروات ضخمة، وشعوب شابة فتية. لكن الأمر يحتاج إلى شرطين: أولهما تحول ديمقراطي حقيقي في كل الدول المغاربية بتحررها من الاستبداد السياسي.
فالشعوب الحرة هي وحدها القادرة على تحقيق الوحدة، والاستبداد هو أكبر عدو للوحدة. وثانيهما تغير عميق في الثقافة السياسية القديمة التي شابتها شوائب العصبيات الضيقة، والانطلاق إلى الأفق الحضاري الإسلامي الرحب الذي كان ولا يزال هو العروة الوثقى والرباط الجامع للشعوب المغاربية.