خلد الشعب المغربي، الأربعاء، الذكرى ال18 لرحيل الملك الراحل الحسن الثاني، وهي مناسبة يستحضر فيها المغاربة والعالم أجمع، مسار ملك متفرد طبع بدهائه وحنكته السياسية وصبره وسعيه الدؤوب، إلى مد الجسور مع معارضيه، مع التحولات الكبرى التي عرفتها المملكة خلال النصف الثاني من القرن العشرين، كما أثر بشخصيته ومكانته المرموقة وبعد نظره في الساحة الدبلوماسية الدولية. الحسن الثاني المولود ب9 يوليوز 1929، حكم المغرب بين 1961 و1999، ساهم برفقة والده الملك محمد الخامس في تحرير المغرب من الاستعمار الفرنسي، قبل أن يتسلم زمام السلطة في دولة استطاع قيادتها بيد من حديد، محققا استقرارا لم تحققه دول الجوار، وموجها البلاد نحو المعسكر الرأسمالي، في حين كانت معظم الدول العربية تساند المعسكر الاشتراكي. استطاع الحسن الثاني على مدار 38 عاما من الحكم، أن يجعل من المغرب محط أنظار العالم، مسخرا في ذلك ما كان يتمتع به من حنكة وبعد نظر، فكان على الصعيد الوطني، بانيا للمغرب الحديث، حيث تمكنت المملكة حديثة العهد بالاستقلال، من تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية، عكستها الإصلاحات التي باشرها وأطلقها الملك الراحل الحسن الثاني. واعتبرت استراتيجية تشييد السدود، التي تبناها الحسن الثاني منذ ستينيات القرن الماضي، أحد أهم سياسات الملك الشاب، حيث اعتبرت بمثابة "طوق النجاة" الذي راهن عليه المغرب من أجل الخروج من أزمة ندرة المياه، وصمود أمام فترات الجفاف المستقبلية، والتفادي للكوارث المحتملة للفيضانات، في حال عدم وجود آليات فعالة للتحكم في المياه وتخزينها للفترات الحرجة، حيث ساهمت الاستراتيجية، التي مكنت المغرب من تشييد أكثر من 128 سدا، في بروز أقطاب اقتصادية حقيقية٬ مكنت المغرب من تلبية الاحتياجات المتزايدة لمواطنيه واقتصاده من هذا المورد الحيوي.
وعلى المستوى الدولي، كان الراحل الحسن الثاني، مدافعا قويا وداعيا إلى الحوار والسلام، وهو ما تجلى بشكل خاص في النزاع العربي الإسرائيلي، حيث انخرط في تسوية ملفات النزاع بكل ثقله، وكان بذلك من بين الزعماء الذين تمكنوا من لعب دور مهم في دعم القضية الفلسطينية، حيث سهر على عقد القمة العربية بالرباط في 1974، والتي اعترفت لأول مرة في التاريخ بمنظمة التحرير الفلسطينية، كممثل وحيد وشرعي للشعب الفلسطيني.
كما أثبت الملك الراحل، نجاحه في تجاوز أعقد الأزمات وأدق الفترات التي عرفها العالم في القرن الماضي، لا سيما وأنه كان على الدوام مصدرا للاستشارة من لدن العديد من زعماء وقادة الدول، جاعلا من المملكة المغربية أرضا للتسامح والتعايش السلمي بين مختلف الديانات والتيارات الفكرية والمعتقدات السياسية، وكذلك أرض اللقاءات الحضارية والثقافية الكبرى.
وإقليميا، كان المغرب من الأعضاء المؤسسين لمجموعة من المنظمات الإقليمية والدولية ومساهما في نجاحها، مثل منظمة الوحدة الإفريقية، منظمة المؤتمر الإسلامي، اتحاد دول المغرب العربي، ولجنة القدس. أما دوليا، كان المغرب على عهد الملك الحسن الثاني، قبلة لعدد من الشخصيات العالمية، حيث زاره جل الزعماء والقادة السياسيين وأقطاب الفكر والإبداع من كل جهات العالم، فضلا عن استقباله الكثير من الرموز الدينية، كان أهمها استقبال البابا جون بول الثاني في مدينة الدارالبيضاء عام 1985.
وهناك محطات أساسية، تبقى خالدة في حياة الحسن الثاني السياسية، وهي قضية الصحراء المغربية، ومحاولات اغتياله المستمرة، ففي عام 1975 أعلن الملك الحسن، حق المغرب في الصحراء الواقعة يومئذ تحت الاستعمار الإسباني، وقرر الملك إطلاق المسيرة الخضراء تجسيدا لمغربية الصحراء، وضمت المسيرة 350 ألف مغربي اجتازوا حدود الصحراء، رافعين القرآن الكريم والعلم المغربي.
وتعرض الحسن الثاني، ل6 محاولات اغتيال في ال38 عاما التي قضاها في الحكم، خرج منها جميعها سالما، ما كرس لأسطورة "البركة" التي لاصقت الملك الراحل خلال سنوات حياته، وكانت محاولة "الصخيرات" 1971 التي صادفت احتفال الملك بعيد ميلاده 42، حيث هاجم 1400 جندي الحفل مخلفين 100 ضحية و200 مصابا، ونجا الحسن الثاني عندما اختفى في أحد جوانب المكان.
وبعدها بأقل من عام، وقعت محاولة "القنيطرة" حيث تعرضت طائرة الحسن الثاني وهو في طريق عودته من فرنسا، لهجوم من 4 طائرات مقاتلة من نوع "إف 5"، في محاولة اغتيال من تدبير قوات الطيران المغربية، فهبطت طائرة الملك اضطراريا بمطار القنيطرة، ما دفع المقاتلات إلى قصف المطار، ولم يتوقف القصف إلا بعد إعلان الملك نفسه وبصورة تمويهية أنه مات، وأن محاولة اغتياله نجحت.
تميز نظام الحكم في عهد الحسن الثاني، وربما بعد كل ما تعرض له من مؤامرات سعت لإسقاط نظام حكمه وقتله، بكونه نظاما قمعيا وسلطويا بشكل مطلق، ووصم عهده في الماضي "الأسود"، وب"سنوات الجمر والرصاص"، كما اتهمت منظمات حقوق الإنسان الملك الراحل، بممارسات غير لائقة تجاه المعارضة المغربية، بل ذهبت إلى أن مئات المغاربة اختفوا على أيدي أجهزة الأمن المغربية منذ مطلع الستينيات إلى أواخر الثمانينيات، لكن هذا لم يمنع سياسة الملك الحسن الثاني، التي ظلت تنحو نحو إيجاد توازن سياسي في المغرب، فكثيرا ما نادى بضرورة التعايش بين الملكية والأحزاب المعارضة.
وتوجت السياسة التوازنية، بأحداث حكومة التناوب في التسعينيات، حيث تسلم السلطة للمرة الأولى مرة في المغرب حزب من المعارضة، وهو حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في فبراير 1998، أي سنة واحدة فقط قبل رحيل الحسن الثاني، تاركا بذلك بصمة واضحة في تحريك المشهد السياسي المغربي، وانفتاحه نحو مشاركة مكوناته في العمل السياسي التداولي بين أحزاب القصر وأحزاب المعارضة.
الحسن الثاني "ظاهرة سياسية" يصعب تكرارها في التاريخ مرة أخرى، فهو لم يكن فقط متفردا في حياته، لكنه كان أيضا متفردا في مماته، أما مراسم التشييع المهيبة وغير المسبوقة لجنازته، لم تكن إلا دليلا عما كان يتميز به الملك، من حضور طاغ وشخصية كاريزمية، أبهرت العالم وأثرت في الشعب رغم كل المآخذ.
وتحت عنوان "المغرب يبكي ملكه"، كتبت الصحافة العالمية بانبهار عن جنازة ملك خرج أكثر من مليوني من شعبه إلى شوارع العاصمة، لإلقاء النظرة الأخيرة على عاهلهم الراحل، كما شارك في تشييع جثمانه أكثر من 60 رئيس دولة وحكومة، وشارك في جنازته زعماء وقادة أطراف في صناعة السلام بالشرق الأوسط، الذي طالما سعى إليه العاهل المغربي الراحل، وبينهم الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ورئيس إسرائيل عيزرا فايتسمان، ورئيس الوزراء الاسبق إيهود باراك، حيث أشاد الجميع بدور الملك الراحل من أجل تحقيق السلام في المنطقة.