بعد الساكنة.. المغرب يطلق الإحصاء الشامل للماشية    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد    إعطاء انطلاقة خدمات 5 مراكز صحية بجهة الداخلة وادي الذهب    إسدال الستار على الدورة الحادية عشرة لمهرجان "فيزا فور ميوزيك"    موجة نزوح جديدة بعد أوامر إسرائيلية بإخلاء حي في غزة    الإعلام البريطاني يعتبر قرار الجنائية الدولية في حق نتنياهو وغالانت "غير مسبوق"        ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب    الأمن الإقليمي بالعرائش يحبط محاولة هجرة غير شرعية لخمسة قاصرين مغاربة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية        منظمة الصحة العالمية تؤكد أن جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة        عمر حجيرة يترأس دورة المجلس الاقليمي لحزب الاستقلال بوجدة    الأرصاد: ارتفاع الحرارة إلى 33 درجة وهبات رياح تصل 85 كلم في الساعة    ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    قاضي التحقيق في طنجة يقرر ايداع 6 متهمين السجن على خلفية مقتل تلميذ قاصر    ترامب يستكمل تشكيلة حكومته باختيار بروك رولينز وزيرة للزراعة    مظلات ومفاتيح وحيوانات.. شرطة طوكيو تتجند للعثور على المفقودات    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    إفريقيا تنتقد ضعف التمويل المناخي    الاحتفال بالذكرى السابعة والستين لانتفاضة قبائل ايت باعمران    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    كوب 29: رصد 300 مليار دولار لمواجهة التحديات المناخية في العالم    غوتيريش: اتفاق كوب29 يوفر "أساسا" يجب ترسيخه    "طنجة المتوسط" يرفع رقم معاملاته لما يفوق 3 مليارات درهم في 9 أشهر فقط    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    دولة بنما تقطع علاقاتها مع جمهورية الوهم وانتصار جديد للدبلوماسية المغربية    الصحة العالمية تؤكد أن جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ عامة        انقسامات بسبب مسودة اتفاق في كوب 29 لا تفي بمطالب مالية طموحة للدول النامية    المغرب يعزز دوره القيادي عالميا في مكافحة الإرهاب بفضل خبرة وكفاءة أجهزته الأمنية والاستخباراتية    هزة ارضية تضرب نواحي إقليم الحسيمة    مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    أشبال الأطلس يختتمون تصفيات "الكان" برباعية في شباك ليبيا    لقجع وبوريطة يؤكدان "التزام" وزارتهما بتنزيل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بالمالية والخارجية    اللقب الإفريقي يفلت من نساء الجيش    نهضة بركان يتجاوز حسنية أكادير 2-1 ويوسع الفارق عن أقرب الملاحقين    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    بوعشرين: أصحاب "كلنا إسرائيليون" مطالبون بالتبرؤ من نتنياهو والاعتذار للمغاربة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في بعض فصول مقدمة ابن خلدون


تمهيد
لقد حظيت مقدمة ابن خلدون بعناية شديدة لدى مختلف أصناف الباحثين المعاصرين المنتمين لفروع معرفية تمتد من الفلسفة إلى تاريخ العلوم البحثة مرورا بعلم الاجتماع و الديداكتيك و علم النفس التربوي و التاريخ والتصوف و علوم اللغة و الاقتصاد و العلوم السياسية، و لذلك فإن المقدمة الخلدونية لا ينبغي اعتبارها تمهيدا أو توطئة بالمعنى الشائع، فهي موسوعة شاملة لأصول كثير من المباحث العلمية المعاصرة، و هذا هو السر وراء ذيوعها في الأوساط الاكاديمية و اعتناء كبار فطاحلة المستشرقين الاوروبيين بها، بل إن أغلب من ينتسب إلى أهل الفكر في العالم العربي الاسلامي قد سبق له أن نهل من معينها، و نشير في هذا السياق إلى كل من المفكر المغربي محمد عابد الجابري الذي اشتغل على المقدمة في أطروحته الجامعية، و ركز اساسا على مقاربة مفهوم العصبية عند ابن خلدون، بينما نجد عبد الله العروي يعتمد هذه المقدمة كمرجع اساسي في العديد من مؤلفاته، و أفرد لها بنسالم حميش أطروحته الجامعية في السوربون، و استبطنها في روايته ( العلامة)، و اعترف المفكر المغربي طه عبد الرحمن في بعض حواراته بأنه يستوحي مناهجها في كتاباته المنطقية، و قبل ذلك فقد كانت مقدمة ابن خلدون موضوع أطروحة طه حسين في فرنسا لنيل الدكتوراه في التاريخ، و لا يسعنا استقراء كل الأبحاث التي أنجزت حولها في هذه التوطئة، فهذا ليس إلا غيضا من فيض.
و سنكتفي في هذه المقاربة المتواضعة بدراسة ما ورد في بعض فصول المقدمة المتعلقة بمناهج التعليم و التأليف و ما يتعلق بها من مباحث لسانية تعالج إشكالية اكتساب اللغات، و هذه الفصول وردت في الجزء الأخير من المقدمة.
و لعل من نافلة القول التذكير بأن مقدمة ابن خلدون ليست إلا تمهيدا لكتاب بعنوان العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر.
مفهوم التأليف و مناهجه لدى ابن خلدون
يفرد ابن خلدون 3 فصول لمسألة التأليف، و يشير في الفصل الأول منها إلى كون انتشار التصنيف في فرع من فروع المعرفة ليس أمرا إيجابيا، بل إنه يشكل عائقا ابستمولوجيا يحول دون التحصيل السليم للعلوم، و لكن المتأمل في عبارة ابن خلدون هنا يخلص إلى أن مقصده الأساسي ينصرف إلى تعدد المناهج و ليس إلى فعل التأليف المجرد، و يعبر ابن خلدون عن ذلك بقوله (اختلاف الاصطلاحات في التعليم، وتعدد طرقها)، و يمثل لذلك في الفقه بتعدد مناهج تدريس المذهب المالكي و التي بلزم بها الطالب و يستغرق عمره في تحصيلها حتى يستحق منصب الافتاء، و ينطبق هذا الوصف على كيفية تحصيل علوم العربية، و لذلك فإن ابن خلدون يحمل على هذه المناهج لأنها تؤدي إلى تعقيد الوسائل البيداغوجية و امتداد مراحل التعليم.
و الواقع أن ابن خلدون و إن كان يعيب على المتقدمين كثرة المناهج في التأليف كما ذكرنا، فإنه لا ينكر ما قد يترتب عن ذلك من فائدة لمن أراد التخصص و التعمق في علم من العلوم، و بلوغ أقصى المراتب في الاحاطة بمسائله، و لكن من يبلغ هذه الرتبة في حكم النادر من اهل العلم، و النادر لا حكم له، و هذا هو مناط القياس عند ابن خلدون، لأنه لا يقيس على من شذ من العباقرة بل إنه يؤسس لمنهج علمي على القاعدة العريضة لأغلب المتعلبين من أوسط أهل الفطنة و الذكاء، و هذا ينسجم مع المناهج التربوية المعاصرة التي تستند إلى مستويات الذكاء السائدة في تأسيس المنظومات البيداغوجية.
يقول ابن خلدون مبينا عدم خضوع العباقرة من آحاد الناس للقواعد العامة لعلم التربية ( و هذا نادر من نوادر الوجود)، يقصد بذلك من أحاطت ملكته بعلم من العلوم حتى استولى عليها.
ثم يعطف ابن خلدون في فصل لاحق على بيان المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف و يجملها في سبعة أولها استنباط و تاسيس علم جديد أو مباحث مستحدثة، و ثانيها شرح و بيان أمهات الكتب العصية على الفهم، و ثالثها بيان الأخطاء الابستمولوجية في الأنظمة المعرفية الشهيرة و رابعها إتمام فرع معرفي بإلحاق بعض المباحث به، و خامسها تهذيب و ترتيب مسائل العلوم و سادسها تاسيس علم جديد انطلاقا من جمع مباحث متفرقة بين فروع معرفية مختلفة، و آخر هذه المقاصد هو تلخيص أمهات الكتب المطولة و اختصارها.
و الواقع أن ابن خلدون استعار هذه المقاصد من فلسفة أرسطو الذي كان يرى أن المؤلف لا يجوز له محاكاة المؤلفات السابقة و نسبتها إلى إبداعه.
ثم ينتقد ابن خلدون في فصل لاحق ذلك الشغف و الولع بكثرة الاختصار في العلوم الذي كان سائدا في فترة متأخرة من التاريخ الاسلامي و الذي ترتب عنه إخلال منهجي و بيداغوجي يحول دون فتح المجال للنقاش و تحصيل الملكات النافعة و تؤدي إلى ذيوع ثقافة الحفظ و التكرار التي تعتبر عائقا ابستمولوجيا يمنع من تطور العلوم.
و لذلك فإن ابن خلدون يقوم برسم ملامح نظريته الديداكتيكية التي تعتبر بديلا عن منظومة الحفظ في فصل يبحث عن وجه الصواب في تعليم العلوم، و يمكن إجمال هذا المنهج التربوي في ضرورة مراعاة التدريج و عدم حرق و تجاوز المراحل و المستويات التعليمية، و هذا ما يتفق مع النظريات الحديثة في علم التربية.
و يلاحظ ابن خلدون أن الجودة في التعليم تحصل بمراعاة هذه المراحل و التي يتم فيها تكرار شرح و بيان المسائل العلمية بكيفية بيداغوجية يستهل التلقين فيها بشرح اساسيات العلوم و مبادئها الأولية على وجه الإجمال ثم يتم الارتقاء بالمتعلم إلى مستوى اخر تبين فيه مواضع الخلاف و الاجتهادات و المقاربات الابستمولوجية ليتم في اخر المطاف بسط المسائل العلمية على وجه التفصيل و الاسهاب و رفع كل غموض أو تعقيد محتمل حتى يرسخ المتعلم و تجود ملكته في ذلك الفرع المعرفي موضوع التعليم.
و في هذا السياق يحمل ابن خلدون بشدة على مناهج التعليم التي يتم استهلال العملية التربوية فيها بإلزام المتعلم بمناقشة و فهم المباحث المعمقة و الدقيقة التي لا تناسب مستواه المعرفي، بل إنها لا تناسب إلا الراسخين في ذلك التخصص العلمي الذين بلغوا غاية الإحاطة به.
و يتميز المنهج الخلدوني البيداغوجي بمراعاة خصوصية الفرع العلمي موضوع التلقين، إذ أنه لا يجوز في نظره خلط المباحث العلمية المكونة للتخصص الدقيق بغيرها من المسائل المنتمية لفرع معرفي اخر، لأن في ذلك تشتيتا لذهن المتعلم و مانعا له من رسوخ ملكته، و يسري نفس الأمر بالنسبة لضرورة مراعاة التتابع و التكرار في الحصص التعليمية و أن لا يفصل بينها فترات انقطاع قد تحول دون استجماع عناصر الملكة التعليمية.

و لا يجوز في المنهج التعليمي الخلدوني الجمع بين تخصصين معرفيين في ان واحد لأن القدرة الذهنية للمتعلم غير قادرة على الاحاطة بهما معا جملة واحدة، فلا بد من إفراد كل علم ببرنامج خاص.
مفهوم الحجاج و الاستدلال الطبيعي عند ابن خلدون
يرى ابن خلدون أنه رغم الأهمية التي لا تنكر لعلم المنطق و كونه منهج للفكر الانساني و ما يتفرع عنه من علوم، إلا أنه يمكن الاستغناء عنه بما يسمى في عصرنا بالحجاج الطبيعي أو ما يسميه ابن خلدون ( الطبيعة الفكرية)، و تأتي المعايير المنطقية و معها القواعد النحوية في مرحلة لاحقة للإنتاج الفكري، و بمعنى اخر فإن أهمية هذه المعايير و القواعد تبرز بمناسبة التأليف و إخراج ثمرات الفكر ليستفيد منها الغير، و لكنها لا تكون مصاحبة لفعل الابداع و الاجتهاد العلمي لأن ذلك يثقل ذهن العالم و يحول دون إطلاق العنان لحرية الفكر.
و الواقع أن نظرية ابن خلدون في التمييز بين الاستدلال المنطقي الصوري و الحجاج الطبيعي يمكن اعتبارها من المحاولات الأولى في هذا المجال، و تلتقي في معالمها و اصولها مع أحدث النظريات في المنطق و الاستدلال و التي تجمع على ضرورة تجاوز المنطق الارسطي الكلاسيكي الذي أصبح قاصرا عن الاحاطة بميادين الفكر الانساني.
و يمكن اعتبار نظرية ابن خلدون أصلا لنظريات حجاجية عديدة، بعضها ينتمي إلى البلاغة وبعضها ينتمي إلى المنطق أو المنطق الطبيعي، وهناك من عالج الحجاج من منظور لساني، ويتمثل الحجاج بالنسبة إلى برلمان (C.Perelman) في مجموعة من التقنيات الخطابية الموجهة إلى إقناع المتلقي أو الرأي العام. وهو إن كان يلح على ضرورة التمييز بين البرهنة والحجاج، فإنه يعتبر البرهنة شكلا من أشكال الحجاج، إلا أنها تختلف عنه من حيث إنها تركز على جانب واحد هو الجانب الصوري الاستنتاجي. فإذا كانت البرهنة يمكن أن تقدم على شكل حساب، فإن الحجاج يهدف إلى الإقناع والتأثير والاتفاق، ولا يمكن تصوره إلا في إطار نفسي اجتماعي.

أما جان بليزغريز فينظر إلى الحجاج باعتباره نشاطا منطقيا خطابيا، إنه نشاط خطابي لأن الأمر يتعلق بتفكير كلامي؛ أي أن الوسيلة المستعملة للتواصل هي اللغة، وهو نشاط منطقي لأنه يتمثل في مجموعة من العمليات الذهنية، ولأنه ينتمي بالتالي إلى ما يعرف بالمنطق الطبيعي، إن الحجاج – بالنسبة إلى غريز – هو مجموعة من الاستراتيجيات الخطابية لمتكلم ما، يتوجه بخطابه إلى مستمع معين، من أجل تغيير الحكم الذي لديه عن وضع محدد. ويتأسس الحجاج عنده، انطلاقا من مفهوم الخطاطة التي هي أهم منه، فليس هناك إنتاج خطابي لا يؤدي إلى إنتاج خطاطات وتمثيلات عن العالم الآخر، ولكن ليست كل غاية خطابية حجاجية بالضرورة .

أما النموذج الذي اقترحه أزفالد ديكرو، فهو نظرية لسانية تدرس الحجاج في اللغة، باعتباره ظاهرة لغوية. الحجاج، بالنسبة إلى هذا اللغوي، فعل لغوي ووظيفة أساسية للغة الطبيعية، ثم إنه مؤشر له في بنية اللغة فهناك أدوات وروابط وعبارات لغوية يتمثل دورها الوحيد أو الأساسي في القيام بالعمليات الحجاجية.

فالخطاب الطبيعي إذن، ليس خطابا برهانيا، وبالتالي فهو لا يحترم مبادئ الاستنتاج المنطقي أو البرهنة الرياضية(démonstration)، ولا القوانين المنطقية التي نجدها في منطق القضايا أو منطق المحمولات أو في أي نسق آخر من الأنساق المنطقية والرياضية. فما نجده في الخطاب أو في اللغات الطبيعية هو الحجاج وهو منطق اللغة أو هو – على الأصح – تصور من التصورات الممكنة لهذا المنطق الذي يحكم اللغة الطبيعية والذي يختلف اختلافا كبيرا عن المنكق الياضي أو المنطق الصوري، يختلف عنه من حيث طبيعته ومجاله واشتغاله. أما بخصوص الاستدلال فهناك في الحقيقة ألفاظ عديدة يشار بها إلى الاستدلال وأنواعه وأنماطه. فاللغة العربية تتضمن مصطلحات عديدة منها :الاستدلال والحجاج والبرهنة و الاستنتاج والاستنباط والاستقراء و التدليل والتعليل والتبرير والقياس...الخ. ولكن المصطلح العام الذي يشير إلى جنس الفعل هو مصطلح الاستدلال.

و هكذا فإن ابن خلدون يعتبر من الأوائل الذين تنبهوا إلى عدم ضرورة مراعاة المقولات المنطقية الارسطية في الانتاج العلمي، غير أنه يعترف في فصل اخر بأن للمنطق ثمرة واحدة، وهي شحذ الذهن في ترتيب الأدلة، والحجاج لتحصيل ملكة الجودة، والصواب في البراهين.
و لهذا فإن ابن خلدون يعيب على من يشتغل بكل من النحو و المنطق اشتغالا يستغرق مراحل الدراسة و التعليم، لأنه يرى أن هذه العلوم لا تتعدى كونها الة لغيرها من العلوم الاساسية أو ما يصطلح عليه ابن خلدون ( العلوم المقصودة).
ملامح النظرية البيداغوجية عند ابن خلدون

إن من يتأمل في ثنايا ما جاء في مقدمة ابن خلدون مما له علاقة بالعملية التعليمية عموما يتبين له أن الرجل يؤسس لنظرية خاصة لها معالمها و شروطها و مناهجها و الياتها، ذلك أن اساس هذه النظرية يعتمد مفهوم الملكة، و هذا المفهوم يتكرر كثيرا في مجموعة من الفصول التي تتناول أنواع العلوم و أصناف الصناعات، و المقصود بالملكة تلك القدرة على الاحاطة بفن من الفنون سواء كان علما نظريا أو تقنية صناعية.

و لقد حظيت نظرية ابن خلدون في التدريس بالملكات بعناية و اهتمام بعض الباحثين المغاربة في علوم التربية مؤخرا، و ذلك بعد فشل بعض النماذج المستوردة من الغرب كما هو الحال مثلا بالنسبة لنموذج الكفايات الذي شغل رجال التعليم فترة من الزمن حتى تبين للمختصين عدم مسايرته و مواكبته للإشكاليات العديدة التي تترتب عن العملية التعليمية.

و يعتبر الباحث المغربي الاستاذ محمد الدريج من أبرز من انتبه في الاونة الأخيرة لأهمية مفهوم الملكات عند ابن خلدون، و قام بمحاولة بناء نموذج بيداغوجي و ديداكتيكي يعتمد هذا المفهوم جملة و تفصيلا و يحاول إسقاطه على المناهج التربوية، وتستوجب نظرية محمد الدريج تجديد المقررات والمضامين الدراسية لتنسجم مع فلسفة الملكات.بمعنى أن تستهدف هذه المحتويات استكشاف الملكات لدى المتعلم، سواء أكانت أساسية أم نوعية، مع تصنيف المضامين حسب الملكات المستهدفة. ولابد من التدرج في بناء هذه المضامين من السهولة والبساطة إلى المعقد والمركب. ولابد من مسايرة ما استجد من المناهج والتصورات والنظريات، والتكيف السريع مع ما استحدث من معلومات وأفكار، كالانفتاح على العوالم الرقمية، والاستفادة من القراءة الممسرحة، وفلسفة التنشيط، وتنمية الذكاءات المتعددة، وتطوير الملكات المختلفة والمتنوعة. وينضاف إلى ذلك، أنه لابد من ترقية ملكات المتعلم المختلفة، كملكة الكتابة، وملكة القراءة، و غيرها.

وينطلق المدرس من فلسفة الملكات كما يحددها الأستاذ الدكتور محمد الدريج، فيبين في جذاذاته طبيعة الملكات المستهدفة في الدرس، ويصنفها إلى ملكات أساسية وملكات نوعية، قد ترتبط بالدرس فقط أو تكون ملكة مستعرضة أو مندمجة مع باقي المواد والوحدات والمجزوءات الأخرى. كأن يحدد المدرس طبيعة الملكة التي يريد اختبارها وصقلها وشحذها، فيختار الملكة اللغوية – مثلا- في حصة اللغة أو النحو والإنشاء والتعبير، فيحضر المدرس مجموعة من الأنشطة التي تعزز هذه الملكة وتقويها وتنميها.

و إذا تأملنا في بعض ما ورد في فصول المقدمة المخصصة للقضايا التعليمية يتبين أن ابن خلدون يتبنى أحيانا بعض المواقف الأصيلة التي لا نجدها عند غيره، فهو يرى مثلا أن ملكة اللغة العربية لا يمكن أن تتحصل من مجرد الاقتصار على تعليم القران، و هو يشير هنا إلى المناهج التي كانت متبعة في التدريس في كل من تونس و المغرب و التي تستهل بحفظ القرأن و عدم خلطه بغيره من المعارف اللغوية و العلوم الأخرى حتى يتم الطالب حفظ كتاب الله حفظا تاما. و يستدل ابن خلدون على عدم حصول ملكة اللغة العربية من مجرد حفظ القران باستدلال عجيب، إذ أنه يرى أن القران لا ينشأ عنه في الغالب ملكة لكون البشر مصروفون عن الاتيان بمثله، و يكون حظ صاحبه هو الجمود و القصور في التعبير، لأنه لن يستطيع النسج على منوال النص القراني و يأتي بمثله، فالقران نص معجز لا يمكن لأحد أن يحاول تقليده أو محاكاته.

و لذلك فإن ابن خلدون يتفق مع ما ذهب إليه القاضي ابو بكر بن العربي من وجوب استهلال التعليم بحفظ الاشعار و تلقين مبادئ الحساب ثم الاتنقال بعد ذلك إلى تعليم القران و تحفيظه، إلا أن ما يعاب على هذا المنهج حسب ابن خلدون أنه يعد مخاطرة بمصير المتعلم الذي قد ينقطع عن التعليم في مراحله الاولى ( الهدر المدرسي) فنفوت عليه فرصة تعلم القران و حفظه، إلا أنه مع ذلك فإن هذا النهج هو الراجع متى وقع اليقين بخلاف ذلك.

ثم إن ابن خلدون يحمل بشدة على المناهج القاسية في التعليم، و التي كانت سائدة في عصره، و التي كانت مرتبطة بوسائل التأديب ، و ما يترتب عنها من اصناف العقوبات التي ترمي إلى التحكم في المتعلم و حمله على بذل أكبر مجهود، في حين أن من شأن كل ذلك أن يؤدي إلى فساد معاني الانسانية و الاستقلالية، و هو ما يتفق مع النظريات الحديثة في علوم التربية، و يتفق مع المناهج المعتمدة في الدول الصناعية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.