خبير أمريكي : المغرب أبان مجددا عن نجاعة استراتيجيته المتينة في مكافحة الإرهاب    تأهيل وإعادة هيكلة شبكة التطهير السائل: التزام دائم للشركة الجهوية متعددة الخدمات مراكش-آسفي لضمان جودة الخدمة العمومية للصرف الصحي    تفاصيل اكتشاف نفق لتهريب المخدرات بين المغرب وسبتة المحتلة    بنكيران: التنافس المبكر يغذي طموح "البيجيدي" بتصدر انتخابات 2026    اكتشاف نفق سري يستعمل في تهريب المخدرات الى سبتة    حجز أطنان من "الماحيا" بأيت اعميرة    اختتام النسخة الأولى لبرنامج فيفا كرة القدم للمدارس بالمغرب    المغرب التطواني يتعاقد مع جمال الدريدب خلفًا لمحمد بنرشيفة بعد فسخ العقد بالتراضي    الحكومة: انتهينا من تأهيل 934 مركزا صحيا أوليا    مقاطعة طنجة المدينة تساهم في فعاليات المنتدى الاقتصادي المغربي الافريقي بحضور وفد روسي رفيع    تحذير مقلق.. "ناسا" ترفع احتمالية اصطدام كويكب بالأرض    من ساحة السراغنة إلى قلب الدار البيضاء…ذاكرة لا تُمحى    طالبي ينال الجنسية الرياضية المغربية    الدكتور نجيب بوليف يصدر كتابه الجديد: "الانتقال الطاقي بالمغرب… اختيار أم ضرورة؟"    اندلاع حريق في سيارة نفعية بمدينة الحسيمة    نتنياهو: "يوم مؤلم" ينتظر إسرائيل    مبيعات الإسمنت ترتفع في المغرب    المغرب يلتقي بمصنعِين في الصين    وديتان للمنتخب المغربي في يونيو    إيقاف بيلينغهام وريال مدريد يستأنف    المغرب يوجه ضربة جديدة للتنظيمات الإرهابية بإحباط مخطط "داعش"    الأرصاد الجوية تترقب يومين من التساقطات الإضافية في شمال المغرب    مهنيون يسجلون تراجع أسعار اللحوم بالجملة .. وحماة المستهلك يشككون    أزمة المستحقات بين الشوبي ومالزي    "بويذونان".. دراما مشوقة على قناة "تمازيغت" تفضح خبايا الفساد ومافيا العقار بالريف    أطلنطاسند للتأمين تفوز بجائزة الابتكار في تأمين السيارات المستعملة ضمن جوائز التأمين بالمغرب وافريقيا 2025    شراكة استراتيجية في مجالي الدفاع والأمن بين الجيش المغربي ولوكهيد مارتن الأمريكية    تحت شعار «الثقافة دعامة أساسية للارتقاء بالمشروع التنموي الديمقراطي» الملتقى الوطني الاتحادي للمثقفات والمثقفين    بعد الكركرات.. طريق استراتيجي يربط المغرب بالحدود الموريتانية: نحو تعزيز التنمية والتكامل الإقليمي    مجلس النواب ينظم المنتدى الثاني لرؤساء لجان الشؤون الخارجية بالبرلمانات الإفريقية    ارتفاع كمية مفرغات الصيد البحري بميناء الحسيمة    المغرب التطواني يفك ارتباطه بمحمد بنشريفة ويخلفه الدريدب    عامل الحسيمة ينصب عمر السليماني كاتبًا عامًا جديدًا للعمالة    وزيرة الثقافة الفرنسية: المغرب يمثل مرجعية ثقافية عالمية    إعلان القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية 2025    الذكاء الاصطناعي يتفوق على البشر في تحليل بيانات أجهزة مراقبة القلب    مسؤول إسباني: المغرب مصدر إلهام للبلدان الإفريقية في جودة البنيات التحتية الطرقية    عمر هلال ل"برلمان.كوم": المغرب لديه الريادة في سياسة السلامة الطرقية    وفاة المطربة آسيا مدني مرسال الفلكلور السوداني    الاستعدادات لمونديال 2030 محور لقاء لقجع ورئيس الاتحاد الإسباني    ناشر مؤلفات بوعلام صنصال: "أخباره ليست ممتازة" بعد ثلاثة أشهر على سجنه    اللجنة الملكية للحج تتخذ هذا القرار بخصوص الموسم الجديد    أبطال أوروبا .. البايرن وبنفيكا وفينورد وكلوب بروج إلى ثمن النهائي والإيطاليون يتعثرون    رشيدة داتي: زيارتي للأقاليم الجنوبية تندرج في إطار الكتاب الجديد للعلاقات بين فرنسا والمغرب    رامز جلال يكشف اسم برنامجه الجديد خلال شهر رمضان    النفط يصعد وسط مخاوف تعطل الإمدادات الأمريكية والروسية    احتجاجات في الرباط تندد بزيارة وزيرة إسرائيلية للمغرب    حصيلة عدوى الحصبة في المغرب    ترامب يعلن عن إقالة مدعين عامين    منتدى يستنكر تطرف حزب "فوكس"    بعد تأجيلها.. تحديد موعد جديد للقمة العربية الطارئة    أزيد من 6 ملاين سنتيم.. وزارة الأوقاف تكشف التكلفة الرسمية للحج    دراسة تكشف عن ثلاثية صحية لإبطاء الشيخوخة وتقليل خطر السرطان    السعرات الحرارية الصباحية تكافح اكتئاب مرضى القلب    صعود الدرج أم المشي؟ أيهما الأنسب لتحقيق أهداف إنقاص الوزن؟"    الأمير رحيم الحسيني يتولى الإمامة الإسماعيلية الخمسين بعد وفاة والده: ماذا تعرف عن "طائفة الحشاشين" وجذورها؟    التصوف المغربي.. دلالة الرمز والفعل    الشيخ محمد فوزي الكركري يشارك في مؤتمر أكاديمي بجامعة إنديانا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في بعض فصول مقدمة ابن خلدون


تمهيد
لقد حظيت مقدمة ابن خلدون بعناية شديدة لدى مختلف أصناف الباحثين المعاصرين المنتمين لفروع معرفية تمتد من الفلسفة إلى تاريخ العلوم البحثة مرورا بعلم الاجتماع و الديداكتيك و علم النفس التربوي و التاريخ والتصوف و علوم اللغة و الاقتصاد و العلوم السياسية، و لذلك فإن المقدمة الخلدونية لا ينبغي اعتبارها تمهيدا أو توطئة بالمعنى الشائع، فهي موسوعة شاملة لأصول كثير من المباحث العلمية المعاصرة، و هذا هو السر وراء ذيوعها في الأوساط الاكاديمية و اعتناء كبار فطاحلة المستشرقين الاوروبيين بها، بل إن أغلب من ينتسب إلى أهل الفكر في العالم العربي الاسلامي قد سبق له أن نهل من معينها، و نشير في هذا السياق إلى كل من المفكر المغربي محمد عابد الجابري الذي اشتغل على المقدمة في أطروحته الجامعية، و ركز اساسا على مقاربة مفهوم العصبية عند ابن خلدون، بينما نجد عبد الله العروي يعتمد هذه المقدمة كمرجع اساسي في العديد من مؤلفاته، و أفرد لها بنسالم حميش أطروحته الجامعية في السوربون، و استبطنها في روايته ( العلامة)، و اعترف المفكر المغربي طه عبد الرحمن في بعض حواراته بأنه يستوحي مناهجها في كتاباته المنطقية، و قبل ذلك فقد كانت مقدمة ابن خلدون موضوع أطروحة طه حسين في فرنسا لنيل الدكتوراه في التاريخ، و لا يسعنا استقراء كل الأبحاث التي أنجزت حولها في هذه التوطئة، فهذا ليس إلا غيضا من فيض.
و سنكتفي في هذه المقاربة المتواضعة بدراسة ما ورد في بعض فصول المقدمة المتعلقة بمناهج التعليم و التأليف و ما يتعلق بها من مباحث لسانية تعالج إشكالية اكتساب اللغات، و هذه الفصول وردت في الجزء الأخير من المقدمة.
و لعل من نافلة القول التذكير بأن مقدمة ابن خلدون ليست إلا تمهيدا لكتاب بعنوان العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر.
مفهوم التأليف و مناهجه لدى ابن خلدون
يفرد ابن خلدون 3 فصول لمسألة التأليف، و يشير في الفصل الأول منها إلى كون انتشار التصنيف في فرع من فروع المعرفة ليس أمرا إيجابيا، بل إنه يشكل عائقا ابستمولوجيا يحول دون التحصيل السليم للعلوم، و لكن المتأمل في عبارة ابن خلدون هنا يخلص إلى أن مقصده الأساسي ينصرف إلى تعدد المناهج و ليس إلى فعل التأليف المجرد، و يعبر ابن خلدون عن ذلك بقوله (اختلاف الاصطلاحات في التعليم، وتعدد طرقها)، و يمثل لذلك في الفقه بتعدد مناهج تدريس المذهب المالكي و التي بلزم بها الطالب و يستغرق عمره في تحصيلها حتى يستحق منصب الافتاء، و ينطبق هذا الوصف على كيفية تحصيل علوم العربية، و لذلك فإن ابن خلدون يحمل على هذه المناهج لأنها تؤدي إلى تعقيد الوسائل البيداغوجية و امتداد مراحل التعليم.
و الواقع أن ابن خلدون و إن كان يعيب على المتقدمين كثرة المناهج في التأليف كما ذكرنا، فإنه لا ينكر ما قد يترتب عن ذلك من فائدة لمن أراد التخصص و التعمق في علم من العلوم، و بلوغ أقصى المراتب في الاحاطة بمسائله، و لكن من يبلغ هذه الرتبة في حكم النادر من اهل العلم، و النادر لا حكم له، و هذا هو مناط القياس عند ابن خلدون، لأنه لا يقيس على من شذ من العباقرة بل إنه يؤسس لمنهج علمي على القاعدة العريضة لأغلب المتعلبين من أوسط أهل الفطنة و الذكاء، و هذا ينسجم مع المناهج التربوية المعاصرة التي تستند إلى مستويات الذكاء السائدة في تأسيس المنظومات البيداغوجية.
يقول ابن خلدون مبينا عدم خضوع العباقرة من آحاد الناس للقواعد العامة لعلم التربية ( و هذا نادر من نوادر الوجود)، يقصد بذلك من أحاطت ملكته بعلم من العلوم حتى استولى عليها.
ثم يعطف ابن خلدون في فصل لاحق على بيان المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف و يجملها في سبعة أولها استنباط و تاسيس علم جديد أو مباحث مستحدثة، و ثانيها شرح و بيان أمهات الكتب العصية على الفهم، و ثالثها بيان الأخطاء الابستمولوجية في الأنظمة المعرفية الشهيرة و رابعها إتمام فرع معرفي بإلحاق بعض المباحث به، و خامسها تهذيب و ترتيب مسائل العلوم و سادسها تاسيس علم جديد انطلاقا من جمع مباحث متفرقة بين فروع معرفية مختلفة، و آخر هذه المقاصد هو تلخيص أمهات الكتب المطولة و اختصارها.
و الواقع أن ابن خلدون استعار هذه المقاصد من فلسفة أرسطو الذي كان يرى أن المؤلف لا يجوز له محاكاة المؤلفات السابقة و نسبتها إلى إبداعه.
ثم ينتقد ابن خلدون في فصل لاحق ذلك الشغف و الولع بكثرة الاختصار في العلوم الذي كان سائدا في فترة متأخرة من التاريخ الاسلامي و الذي ترتب عنه إخلال منهجي و بيداغوجي يحول دون فتح المجال للنقاش و تحصيل الملكات النافعة و تؤدي إلى ذيوع ثقافة الحفظ و التكرار التي تعتبر عائقا ابستمولوجيا يمنع من تطور العلوم.
و لذلك فإن ابن خلدون يقوم برسم ملامح نظريته الديداكتيكية التي تعتبر بديلا عن منظومة الحفظ في فصل يبحث عن وجه الصواب في تعليم العلوم، و يمكن إجمال هذا المنهج التربوي في ضرورة مراعاة التدريج و عدم حرق و تجاوز المراحل و المستويات التعليمية، و هذا ما يتفق مع النظريات الحديثة في علم التربية.
و يلاحظ ابن خلدون أن الجودة في التعليم تحصل بمراعاة هذه المراحل و التي يتم فيها تكرار شرح و بيان المسائل العلمية بكيفية بيداغوجية يستهل التلقين فيها بشرح اساسيات العلوم و مبادئها الأولية على وجه الإجمال ثم يتم الارتقاء بالمتعلم إلى مستوى اخر تبين فيه مواضع الخلاف و الاجتهادات و المقاربات الابستمولوجية ليتم في اخر المطاف بسط المسائل العلمية على وجه التفصيل و الاسهاب و رفع كل غموض أو تعقيد محتمل حتى يرسخ المتعلم و تجود ملكته في ذلك الفرع المعرفي موضوع التعليم.
و في هذا السياق يحمل ابن خلدون بشدة على مناهج التعليم التي يتم استهلال العملية التربوية فيها بإلزام المتعلم بمناقشة و فهم المباحث المعمقة و الدقيقة التي لا تناسب مستواه المعرفي، بل إنها لا تناسب إلا الراسخين في ذلك التخصص العلمي الذين بلغوا غاية الإحاطة به.
و يتميز المنهج الخلدوني البيداغوجي بمراعاة خصوصية الفرع العلمي موضوع التلقين، إذ أنه لا يجوز في نظره خلط المباحث العلمية المكونة للتخصص الدقيق بغيرها من المسائل المنتمية لفرع معرفي اخر، لأن في ذلك تشتيتا لذهن المتعلم و مانعا له من رسوخ ملكته، و يسري نفس الأمر بالنسبة لضرورة مراعاة التتابع و التكرار في الحصص التعليمية و أن لا يفصل بينها فترات انقطاع قد تحول دون استجماع عناصر الملكة التعليمية.

و لا يجوز في المنهج التعليمي الخلدوني الجمع بين تخصصين معرفيين في ان واحد لأن القدرة الذهنية للمتعلم غير قادرة على الاحاطة بهما معا جملة واحدة، فلا بد من إفراد كل علم ببرنامج خاص.
مفهوم الحجاج و الاستدلال الطبيعي عند ابن خلدون
يرى ابن خلدون أنه رغم الأهمية التي لا تنكر لعلم المنطق و كونه منهج للفكر الانساني و ما يتفرع عنه من علوم، إلا أنه يمكن الاستغناء عنه بما يسمى في عصرنا بالحجاج الطبيعي أو ما يسميه ابن خلدون ( الطبيعة الفكرية)، و تأتي المعايير المنطقية و معها القواعد النحوية في مرحلة لاحقة للإنتاج الفكري، و بمعنى اخر فإن أهمية هذه المعايير و القواعد تبرز بمناسبة التأليف و إخراج ثمرات الفكر ليستفيد منها الغير، و لكنها لا تكون مصاحبة لفعل الابداع و الاجتهاد العلمي لأن ذلك يثقل ذهن العالم و يحول دون إطلاق العنان لحرية الفكر.
و الواقع أن نظرية ابن خلدون في التمييز بين الاستدلال المنطقي الصوري و الحجاج الطبيعي يمكن اعتبارها من المحاولات الأولى في هذا المجال، و تلتقي في معالمها و اصولها مع أحدث النظريات في المنطق و الاستدلال و التي تجمع على ضرورة تجاوز المنطق الارسطي الكلاسيكي الذي أصبح قاصرا عن الاحاطة بميادين الفكر الانساني.
و يمكن اعتبار نظرية ابن خلدون أصلا لنظريات حجاجية عديدة، بعضها ينتمي إلى البلاغة وبعضها ينتمي إلى المنطق أو المنطق الطبيعي، وهناك من عالج الحجاج من منظور لساني، ويتمثل الحجاج بالنسبة إلى برلمان (C.Perelman) في مجموعة من التقنيات الخطابية الموجهة إلى إقناع المتلقي أو الرأي العام. وهو إن كان يلح على ضرورة التمييز بين البرهنة والحجاج، فإنه يعتبر البرهنة شكلا من أشكال الحجاج، إلا أنها تختلف عنه من حيث إنها تركز على جانب واحد هو الجانب الصوري الاستنتاجي. فإذا كانت البرهنة يمكن أن تقدم على شكل حساب، فإن الحجاج يهدف إلى الإقناع والتأثير والاتفاق، ولا يمكن تصوره إلا في إطار نفسي اجتماعي.

أما جان بليزغريز فينظر إلى الحجاج باعتباره نشاطا منطقيا خطابيا، إنه نشاط خطابي لأن الأمر يتعلق بتفكير كلامي؛ أي أن الوسيلة المستعملة للتواصل هي اللغة، وهو نشاط منطقي لأنه يتمثل في مجموعة من العمليات الذهنية، ولأنه ينتمي بالتالي إلى ما يعرف بالمنطق الطبيعي، إن الحجاج – بالنسبة إلى غريز – هو مجموعة من الاستراتيجيات الخطابية لمتكلم ما، يتوجه بخطابه إلى مستمع معين، من أجل تغيير الحكم الذي لديه عن وضع محدد. ويتأسس الحجاج عنده، انطلاقا من مفهوم الخطاطة التي هي أهم منه، فليس هناك إنتاج خطابي لا يؤدي إلى إنتاج خطاطات وتمثيلات عن العالم الآخر، ولكن ليست كل غاية خطابية حجاجية بالضرورة .

أما النموذج الذي اقترحه أزفالد ديكرو، فهو نظرية لسانية تدرس الحجاج في اللغة، باعتباره ظاهرة لغوية. الحجاج، بالنسبة إلى هذا اللغوي، فعل لغوي ووظيفة أساسية للغة الطبيعية، ثم إنه مؤشر له في بنية اللغة فهناك أدوات وروابط وعبارات لغوية يتمثل دورها الوحيد أو الأساسي في القيام بالعمليات الحجاجية.

فالخطاب الطبيعي إذن، ليس خطابا برهانيا، وبالتالي فهو لا يحترم مبادئ الاستنتاج المنطقي أو البرهنة الرياضية(démonstration)، ولا القوانين المنطقية التي نجدها في منطق القضايا أو منطق المحمولات أو في أي نسق آخر من الأنساق المنطقية والرياضية. فما نجده في الخطاب أو في اللغات الطبيعية هو الحجاج وهو منطق اللغة أو هو – على الأصح – تصور من التصورات الممكنة لهذا المنطق الذي يحكم اللغة الطبيعية والذي يختلف اختلافا كبيرا عن المنكق الياضي أو المنطق الصوري، يختلف عنه من حيث طبيعته ومجاله واشتغاله. أما بخصوص الاستدلال فهناك في الحقيقة ألفاظ عديدة يشار بها إلى الاستدلال وأنواعه وأنماطه. فاللغة العربية تتضمن مصطلحات عديدة منها :الاستدلال والحجاج والبرهنة و الاستنتاج والاستنباط والاستقراء و التدليل والتعليل والتبرير والقياس...الخ. ولكن المصطلح العام الذي يشير إلى جنس الفعل هو مصطلح الاستدلال.

و هكذا فإن ابن خلدون يعتبر من الأوائل الذين تنبهوا إلى عدم ضرورة مراعاة المقولات المنطقية الارسطية في الانتاج العلمي، غير أنه يعترف في فصل اخر بأن للمنطق ثمرة واحدة، وهي شحذ الذهن في ترتيب الأدلة، والحجاج لتحصيل ملكة الجودة، والصواب في البراهين.
و لهذا فإن ابن خلدون يعيب على من يشتغل بكل من النحو و المنطق اشتغالا يستغرق مراحل الدراسة و التعليم، لأنه يرى أن هذه العلوم لا تتعدى كونها الة لغيرها من العلوم الاساسية أو ما يصطلح عليه ابن خلدون ( العلوم المقصودة).
ملامح النظرية البيداغوجية عند ابن خلدون

إن من يتأمل في ثنايا ما جاء في مقدمة ابن خلدون مما له علاقة بالعملية التعليمية عموما يتبين له أن الرجل يؤسس لنظرية خاصة لها معالمها و شروطها و مناهجها و الياتها، ذلك أن اساس هذه النظرية يعتمد مفهوم الملكة، و هذا المفهوم يتكرر كثيرا في مجموعة من الفصول التي تتناول أنواع العلوم و أصناف الصناعات، و المقصود بالملكة تلك القدرة على الاحاطة بفن من الفنون سواء كان علما نظريا أو تقنية صناعية.

و لقد حظيت نظرية ابن خلدون في التدريس بالملكات بعناية و اهتمام بعض الباحثين المغاربة في علوم التربية مؤخرا، و ذلك بعد فشل بعض النماذج المستوردة من الغرب كما هو الحال مثلا بالنسبة لنموذج الكفايات الذي شغل رجال التعليم فترة من الزمن حتى تبين للمختصين عدم مسايرته و مواكبته للإشكاليات العديدة التي تترتب عن العملية التعليمية.

و يعتبر الباحث المغربي الاستاذ محمد الدريج من أبرز من انتبه في الاونة الأخيرة لأهمية مفهوم الملكات عند ابن خلدون، و قام بمحاولة بناء نموذج بيداغوجي و ديداكتيكي يعتمد هذا المفهوم جملة و تفصيلا و يحاول إسقاطه على المناهج التربوية، وتستوجب نظرية محمد الدريج تجديد المقررات والمضامين الدراسية لتنسجم مع فلسفة الملكات.بمعنى أن تستهدف هذه المحتويات استكشاف الملكات لدى المتعلم، سواء أكانت أساسية أم نوعية، مع تصنيف المضامين حسب الملكات المستهدفة. ولابد من التدرج في بناء هذه المضامين من السهولة والبساطة إلى المعقد والمركب. ولابد من مسايرة ما استجد من المناهج والتصورات والنظريات، والتكيف السريع مع ما استحدث من معلومات وأفكار، كالانفتاح على العوالم الرقمية، والاستفادة من القراءة الممسرحة، وفلسفة التنشيط، وتنمية الذكاءات المتعددة، وتطوير الملكات المختلفة والمتنوعة. وينضاف إلى ذلك، أنه لابد من ترقية ملكات المتعلم المختلفة، كملكة الكتابة، وملكة القراءة، و غيرها.

وينطلق المدرس من فلسفة الملكات كما يحددها الأستاذ الدكتور محمد الدريج، فيبين في جذاذاته طبيعة الملكات المستهدفة في الدرس، ويصنفها إلى ملكات أساسية وملكات نوعية، قد ترتبط بالدرس فقط أو تكون ملكة مستعرضة أو مندمجة مع باقي المواد والوحدات والمجزوءات الأخرى. كأن يحدد المدرس طبيعة الملكة التي يريد اختبارها وصقلها وشحذها، فيختار الملكة اللغوية – مثلا- في حصة اللغة أو النحو والإنشاء والتعبير، فيحضر المدرس مجموعة من الأنشطة التي تعزز هذه الملكة وتقويها وتنميها.

و إذا تأملنا في بعض ما ورد في فصول المقدمة المخصصة للقضايا التعليمية يتبين أن ابن خلدون يتبنى أحيانا بعض المواقف الأصيلة التي لا نجدها عند غيره، فهو يرى مثلا أن ملكة اللغة العربية لا يمكن أن تتحصل من مجرد الاقتصار على تعليم القران، و هو يشير هنا إلى المناهج التي كانت متبعة في التدريس في كل من تونس و المغرب و التي تستهل بحفظ القرأن و عدم خلطه بغيره من المعارف اللغوية و العلوم الأخرى حتى يتم الطالب حفظ كتاب الله حفظا تاما. و يستدل ابن خلدون على عدم حصول ملكة اللغة العربية من مجرد حفظ القران باستدلال عجيب، إذ أنه يرى أن القران لا ينشأ عنه في الغالب ملكة لكون البشر مصروفون عن الاتيان بمثله، و يكون حظ صاحبه هو الجمود و القصور في التعبير، لأنه لن يستطيع النسج على منوال النص القراني و يأتي بمثله، فالقران نص معجز لا يمكن لأحد أن يحاول تقليده أو محاكاته.

و لذلك فإن ابن خلدون يتفق مع ما ذهب إليه القاضي ابو بكر بن العربي من وجوب استهلال التعليم بحفظ الاشعار و تلقين مبادئ الحساب ثم الاتنقال بعد ذلك إلى تعليم القران و تحفيظه، إلا أن ما يعاب على هذا المنهج حسب ابن خلدون أنه يعد مخاطرة بمصير المتعلم الذي قد ينقطع عن التعليم في مراحله الاولى ( الهدر المدرسي) فنفوت عليه فرصة تعلم القران و حفظه، إلا أنه مع ذلك فإن هذا النهج هو الراجع متى وقع اليقين بخلاف ذلك.

ثم إن ابن خلدون يحمل بشدة على المناهج القاسية في التعليم، و التي كانت سائدة في عصره، و التي كانت مرتبطة بوسائل التأديب ، و ما يترتب عنها من اصناف العقوبات التي ترمي إلى التحكم في المتعلم و حمله على بذل أكبر مجهود، في حين أن من شأن كل ذلك أن يؤدي إلى فساد معاني الانسانية و الاستقلالية، و هو ما يتفق مع النظريات الحديثة في علوم التربية، و يتفق مع المناهج المعتمدة في الدول الصناعية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.