مغامرة منطقية وأخلاقية يقوم بها كل من ينخرط في تلخيص الأعمال التي يُحررها أهل المنطق، خاصة إذا تعلّق الأمر برموز المنطق، حيث تصبح الصعوبة مضاعفة: 1 مغامرة منطقية، لأنك تريد تلخيص عمل يجتهد في حقل معرفي محارب ومحاصر في مجالنا التداولي الإسلامي، ويكفي الاطلاع على أشرطة مرئية لبعض المشايخ والدعاة، ممن يُعلنون صراحة عن عدائهم للمنطق، وهؤلاء يُحسبُ صراحة الإعلان عن ذلك، مقابل وجود تيار عريض من المشايخ والأتباع، يُشطنون المنطق، دون الإعلان عن ذلك. الأزمة لا تمسُّ فقط التيار الدياني المعادي للمنطق (والفلسفة والأخلاق، من حيث يدري أو لا يدري)، وإنما تمسُّ حتى الأقلام التي تشتغل في حقل المنطق، على قلتها، لأنها نادراً ما تُحرّر ملخصات أو قراءات في المنطق، وإن فعلت ذلك، فمن باب الإكراه الدراسي (بهدف نيل الدبلوم)، أو التقرب لهذا الإسم أو ذلك. لنا أن نتخيل، والحالة هذه، واقع الدراسات المنطقية في مجالنا التداولي، بين حصار الخصوم، وتقاعس أهل الدار، أو ما تبقى منهم. 2 نحن أيضاً إزاء مغامرة أخلاقية، لأن تلخيص عمل في المنطق، لا يمكن أن يروق في الغالب لمُحرر العمل، خاصة إذا شاب التلخيص بعض الأعطاب والقلاقل التي يُمكن أن تُشوّش على مقاصد وغايات التأليف الأصلي للعمل المعني؛ ولكن، ما يشفع لنا الانخراط في الشق "الأخلاقي" من المغامرة، المساهمة المتواضعة في التعريف بمثل هذه الأعمال التي نحسبُ أنها أعمالاً نافعة، لنا أولاً، وللغير، من باقي المجالات التداولية، في زمن طغت فيه ثقافة الاجترار والتبعة للغير، كما لو أنه صاحب المعرفة والإبداع، ونحن مُجرد مُقلدة. في هذا السياق، إذاً، يأتي هذا العرض/ الملخص لإحدى إصدارات أحد رموز الدرس المنطقي في مجالنا التداولي الإسلامي، المنطقي المغربي حمو النقاري. نحن في ضيافة كتاب: "المنطق في الثقافة الإسلامية"، وجاء العمل مُوزعا على مقدمة عامة وثمانية فصول، جاءت عناوينها كالتالي: كونية "المعلوم" ومحليَّته عند أبي نصر الفارابي ومفهوم الفلسفة الرابعة"؛ مجلس المناظرة كمؤسسة للفحص العلميّ في الحضارة الإسلامية العربية؛ حول علاقة المنطق بعلم الأصول عند ابن رشد؛ من أجل منطق لعلم الكلام؛ الاستدلال في علم الكلام: "الاستدلال بالشاهد على الغائب" نموذجاً؛ اللعب النظري بالقياس: منهج أبي الحَجّاج يوسف المُكلاتي في الرد على الفلاسفة في علم الأصول؛ حِكَمِيّة النظر الخلدوني في العمران البشري ومنطقيته؛ المنطق والتصوف: "نظرية الحق" في فكر ابن البنّا المراكشي؛ وأخيراً، التديّن بين الانتطاق المنطقي والاتصاف الصوفي: حالة ابن عربي. (حمو النقاري، المنطق في الثقافة الإسلامية، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، ط 1، 2013، وجاء العمل في 200 صفحة). همّ منطقي ومنهجي نقرأ في مقدمة العمل أن الهمّ المُوجّه لهذه الأبحاث همٌّ منطقي ومنهجي يترك جانباً الاهتمام بمضامين ومحتويات الثقافة الإسلامية ليغلِّبَ الاهتمام بما له تعلّق بآليات لناء هذه الثقافة وبأساليب التداول فيها وبها، وذلك في حلقة متكاملة تُمثّل مجتمعة محطات تجسّد فيها ما يمكن تسميته العقل الإسلامي: حلقة الفلسفة وحلقة علم الكلام وحلقة علم التاريخ وحلقة التصوف. والعمل إجمالاً، مساهمة من المؤلف، حمو النقاري، في الإجابة على بعض الأسئلة المعلقة وشبه المُغيّبة من التداول البحثي في شقيه الاستطلاعي (التعريفي) والنقدي (التقويمي)، ومنها الأسئلة التالية: كيف يكون تأثيل الحكمة وتَبئيتها وترويجها بين الجمهور؟ كيف فهمت المناظرة في الفلسفة؟ كيف قَلّلَ بغض الفلاسفة من قيمة علم أصول الفقه العقلانية؟ كيف يمكن التنظير منطقياً لعلم الكلام؟ كيف يكون إثبات حُجية الاستدلال بالشاهد على الغائب؟ كيف يُفضي التناظر بالنظرية القياسية إلى جعله لعباً نظرياً؟ إلى أين تتجلى الطبيعة المنطقية لعلم العمران؟ كيف يمكن استثمار المنطق في دراسة التصوف من خلال تدبر مفهوم الحق؟ وأخيراً، كيف يمكن استثمار المنطق في دراسة التصوف من خلال تدبر مفهوم علو الهمة؟ في الفصل الأول من العمل ("مجلس المناظرة كمؤسسة للفحص العلميّ في الحضارة الإسلامية العربية)، يرى النقاري أنه ما لكل منتسب لصناعة من الصنائع العلمية الحق في الانتصاب للعب دور معلمها أو المسؤول فيها، مستشهداً بما صدر عن الفارابي في هذا الصدد، من أنه يُشترطُ في المسؤول، ليصحّ التوجه إليه، شروطاً أهمها ثلاثة: شرط الإحاطة العلمية والقُدرة على التبليغ، شرط القدرة على الإنتاج العلمي، شرط التمكن من الحِجاج العلمي دفعاً لكل أنواع الاعتراض والمعارضة الواردة عليه. ولنا أن نتصور تقعيد هذه الشروط في الساحة العلمية اليوم، ومدى استيفاء العاملين في الساحة، لأبسط هذه الشروط. ويخلُص المؤلف في ثنايا حديثه عن علم مُتمكن منه، على غرار تمكن طه عبد الرحمن، أي موضوع المناظرة، إلى أن مجلس المناظرة الذي يجمع بين المتصاوبين أو المتصاححين أو المتلاقين، في علم من العلوم، مقام تواصلي حواري ينبغي أن يقوَّم ويحاكم بهذه القواعد والمعايير؛ فيكون تبعاً لذلك: إما مجلساً للمناظرة على وجه الحقيقة، وإما مجلساً لإدارة الكلام بين اثنين لا مدخل للمناظرة فيه. المنطق وعلم الأصول عند ابن رشد علاقة المنطق بعلم الأصول عند ابن رشد، هو عنوان الفصل الثاني من الكتاب، حيث يُطالب النقاري في ثناياه، وانطلاقاً من ابن رشد ذاته بمراجعة المواقف الرشدية مما هو ضروري وصناعي في أصول الفقه؛ مضيفاً في هذا الصدد أن المباحث المتعلقة بالمُناظرة والتدافع، سواء على مستوى تأويل النصوص، أو على مستوى توليد الأحكام منها، مباحث جوهرية ليس في الخطابة فقط ولكن في الكلام الفقهي أيضاً، وبالتالي لا يصحّ اختزال أصول الفقه، كنظر صناعي، إلى الجزء الذي يتضمن "النظر في الأدلة المستعملة في استنباط حكم حكم عن أصل أصل وكيف استعمالها" كما صرّح بذلك ابن رشد الشاب في اختصاره للمستصفى. وإذا تعينت هذه المراجعة، يضيف النقاري، فإن الأفق سينفتح لتتميم التقريب الرشدي للحكمة، في بُعدها الخطابي، بالانتهاض للقيام بالموازنة بين التقعيد "الخطابي" للمناظرة والتقعيد "الأصولي" لها. وخَلُصَ المؤلف في خاتمة الفصل إلى أن الكلام الفقهي من حيث مادته وقيمته، ومن حيث صورته ومنهجه، وانطلاقاً من حكمة ابن رشد الأرسطي، مندرج في الخطابة؛ وبصحة هذا الاندراج تتهافت دعوى الفصل بين أصول الفقه والفلسفة، في جانبيها العملي والنظري، وتتأكد ضرورة الوصل بين أصول الفقه والخطابة الفلسفية خاصة. في الفصل الثالث من الكتاب، (من أجل منطق لعلم الكلام)، نقرأ إقراراً نقارياً بأن أبي الوليد ابن رشد اعتدّ في "كشفه" بمنطق وحكمة أرسطو، لولا بيت القصيد أن "المنطق" و"الحكمة" اليوم يوجدان في أطوار تعلو بكثير الطور الأرسطي. منطق وحكمة جديدات وقمينان بأن يُعْتَدَّ بهما في الكشف عن مناهج أدلى القدامى والمعاصرين المجايلين لنا أيضاً. ونقرأ في خلاصات هذا الفصل أن من مظاهر قصور الدرس المعاصر للفكر الكلامي الإسلامي العربي القديم، بل وللفكر الإسلامي العربي اليوم، "ندرة" الاهتمام "بالمناهج المسلوكة في ما تُقلّد من الاعتقاد". وهذه نُدرة مُبرّرة بكون أغلب دارسي الكلام المعاصرين، بمن فيهم من المستشرقين، لم يدركوا فائدة تجشُّم عناء الاجتهاد لامتلاك "العُدّة" العلمية التي بدونها لا يستقيم طلب الاهتمام بتدبّر "مسائل المنهج" بل ولا يُتصوَّر إمكان إنجازه أصلاً. في ثنايا هذا الفصل، وكما عاينا ذلك في الباب الأول من عمله الأخير "منطق تدبير الاختلاف من خلال أعمال طه عبد الرحمن" [الشبكة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط 1، 2014]، نعاين عدة منطقية رهيبة لدى حمو النقاري (أنظر على الخصوص جداول ص 55 وص 59)، وهي عدة علمية منطقية، اتضحت بشكل جلّي في كتابيه السابقين "منطق الكلام من المنطق الجدلي الفلسفي إلى المنطق الحجاجي الأصولي" [دار الأمان، الرباط، ط 1، 2005]. و"المنهجية الأصولية والمنطق اليوناني من خلال أعمال أبي حامد الغزالي وتقي الدين ابن تيمية: [دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط 2، 2010، وصدرت طبعة أخرى من العمل مؤخراً عن الشبكة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط 1، 2013]. في الفصل الرابع من العمل (الاستدلال في علم الكلام: "الاستدلال بالشاهد على الغائب" نموذجاً) نعاين صرخة نقدية لحمو النقاري، في وجه التبعية شبه المطلقة للمنطق الأرسطي، والتي برأيه، حُرمت الفلسفة الإسلامية العربية القديمة، ومن يعتد بها من المتفلسفين المحدثين، من استثمار مقومات خاصة بها لغوية وعلمية، مضيفاً في مقام آخر من الفصل أنه بمقومات غيرنا اللغوية، وبما أحالت إليه من إمكانات نظرية، وبما فتحته من آفاق استشكالية واستدلالية، يتقوى فينا الإيمان بإجرائية استثمار اللغة، استثمار أقرب لغة لتا وهي اللغة العربية؛ وهو استثمار لا يفصلنا عن استثمار لغة غيرها، بل على العكس من ذلك يوصلنا بغيرنا ولكن في رحاب جديدة قد يكون لها من الأفق ما لا تُرى حدوده ومن النفع ما لا تُقدّر قيمته. وبخصوص تقييم أطروحة أو طريق "الاستدلال بالشاهد على الغائب"، فيصفه بالنقاري بأنه طريق علمّي مثمر، في الفكر النقدي المعاصر، متى ووجِه بقدرات نقدية متتالية ومتتابعة، وبقي مع ذلك سالماً وقائماً، بما يتطلب التدقيق/ الاستفسار التالي: هل استنفد ناقدو الاستدلال بالشاهد على الغائب "قدراتهم" النقدية؟ أم أنهم ينتقدون معتقدين أنهم في حلّ من كل ارتباط؟ "اللعب النظري بالقياس: منهج أبي الحَجّاج يوسف المُكلاتي في الرد على الفلاسفة في علم الأصول"، هو عنوان الفصل الخامس من الكتاب، وخلُص فيه إلى أن المُكلاّتي (ت . 626 ه) في تناظره مع الفلاسفة، من خلال كتابه "لُباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول"، يظهر إنشاءً لدعاويه الأشعرية الخاصة وحفظاً لها من جهة، وتحريراً لدعاوى خصومه المشّائية واعتراضاً عليها من جهة أخرى، لم يسلك أساليب المناظرة وآداب البحث التي كان للأصوليين فضل تحريرها وضبطها، وإنما سلك منهج الفلاسفة المناطقة لاعباً وفق قواعد النظرية القياسية الأرسطية التي رسّخها فلاسفة الإسلام بدءاً من أبي نصر الفارابي في الحقل الثقافي الإسلامي العربي. المكوِّن المنطقي في المشروع النظري الخلدوني جاءت الفصول الثلاثة الأخيرة مُخصّصة للسفر التأملي مع بعض أعمال أعلام من الفكر الإسلامي، في زمن الإبداع وتحرير العلوم التي تنفع الناس، ويتعلق الأمر بابن خلدون، ابن البنا المراكشي، ومحيي الدين بن عربي. "حِكَمِيّة النظر الخلدوني في العمران البشري ومنطقيته"، هو عنوان ترحال حمو النقاري مع بعض أوجه الإبداع الخلدوني، معتبراً في هذا الصدد أن النظر الخلدوني في العمران البشري ينتسب إلى الحكمة من جهة وإلى المنطق من جهة أخرى: فهو ينتسب إلى الحكمة من خلال توجهه إلى اعتبار وعَقْل العوارض والأحوال الذاتية للواقعات الإنسانية العمرانية باعتبارها موجودات. وبهذا الانتساب تصبح العلوم التي تنطوي عليها الحكمة ثمانية علوم وليس سبعة علوم فقط. (ففضلاً على المنطق والأرتماطيقي والهندسة والهيئة والموسيقى والطبيعيات والإلهيات هناك علوم العمران البشري [الخلدوني] الذي يكون مطلوبه النظري "العوارض الذاتية التي تعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال العمران"). وهو ينتسب إلى المنطق منة خلال توجّهه إلى جعل معارف هذا العلم وحقائقه بمنزلة قواعد وأصول تُكوّن مجتمعه أداء وآلة يُتوسّل لها لتصحيح الأخبار المنقولة وتزييفها. وما دمنا في ضيافة أهل المنطق، سوف يخلُصُ النقاري إلى أن المكوِّن المنطقي مُكَوِّن رئيس من مكونات المشروع النظري الخلدوني لِعَلمنة فحص أحوال العمران البشري وتقنينها؛ وإنه لمن الغريب حقاً، يضيف النقاري، ملاحظة خُلوِّ أغلب الدراسات التي خُصّصت لدرس المشروع الخلدوني، عرضاً وتقويماً، من إيلاء المكون المنطقي في هذا المشروع ما يستحقه من عناية واعتبار. أما المحددّات التي خولت للمؤلف التأكيد على أن المكوِّن المنطقي مُكَوِّن رئيس من مكونات المشروع النظري الخلدوني، فمردها أن النص الخلدوني في بيانه وأدائه وتدليله، وهو يستلهم المنطق المعهود في عصره، كان نصاً ذا ثراء بنائي قَلَّ نظيره، كَثُرَتْ فيه التدليلات وتنوّعت في طرقها وأساليبها، مًحترمة مقتضيات المجال التداولي العقدي واللغوي لمن خاطبته وتوجّهت إليه، نصًّا تعاضدت فيه مراعاة مقتضيات البرهان الصناعي ومراعاة مقتضيات التدليل الطبيعي ومراعاة مقتضيات التدليل الحِجَاجي؛ فكان النص الخلدوني، بذلك، أحد الشواهد النصية النموذجية، الإسلامية العربية القديمة، الذي تمثلت فيه خصوصية متميزة للفعل التعقلي المُقعّد والمُؤصّل للظاهرة الإنسانية في بعيدها العمراني والاجتماعي. [من باب الاستئناس والاستزادة، وفي معرض التدليل الخلدوني من حيث احترامه للمنطق المعهود ومن حيث انفلاته من قيود هذا المنطق، يُحيل المؤلف في هامش ص 129، على بحث طه عبد الرحمن الدقيق "طبيعة الاستدلال في النص الخلدوني"، ضمن كتاب "اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، المركز الثقافي العربي، بيروتالدارالبيضاء، ط 1، 1998، ص 387-400]. بالنسبة لابن البنا المراكشي، وجمعه بين المنطق والتصوف، فقد خصّصَ له المؤلف الفصل السابع من العلم ("المنطق والتصوف: "نظرية الحق" في فكر ابن البنا المراكشي")، ونقتبس من تأملات النقاري لطيفة دقيقة للغاية، لا زالت غائبة عن لائحة عريضة من الكتاب والباحثين في الفكر الإسلامي، وتفيد هذه الإشارة ما يلي: حين نريد الاقتراب من خصوصية المجهود النظري لدى النُّظّار المسلمين القدامى ومن قيمته، عن الوشائج التي ربطته بهمه الأصلي، همّ اعتبار ضرورة الوصل بين التعبد والتديّن من جهة والتعلم والتفقه من جهة أخرى. تأسيساً على مقتضى هذه الإشارة، يرى النقاري أن ابن البنا المراكشي العددي (654 – 724 ه) يُمثل نموذجاً للنُّظّار المسلمين العرب الذين تجسدت في أعمالهم مجهودات التأصيل العقدي لمعلوماتهم ومعارفهم، سواء تلك لاتي بنوها بأنفسهم أم تلك التي تقلدوها من غيرهم، وقد اشتغل في هذا المحور من العمل (الفصل السابع كما سلف الذكر)، على حضور ذلك التزاوج بين العلم والدين بصفة عامة، والمنطق والتصوف بصفة خاصة، عند العلامة، بل وكيف رُتّبَ "الذِّكْر" على "العقل" في هذا التزويج، متوخياً تقديم حالة ابن البناء كشاهد يشهد لإمكان "التأثيل" التصوفي للمنطق المنقول عن الفكر اليوناني بتوسط فلاسفة الإسلام ومتكلميه، بغض النظر عن فحص قيمة هذا التأثيل وتقدير منفعته العلمية والعملية. [لمن يريد الترحل مع مفهوم التأثيل، يراجع على الخصوص كتاب الجزء الثاني من مشروع "فقه الفلسفة" لطه عبد الرحمن، وجاء تحت عنوان فقه الفلسفة: القول الفلسفي كتاب المفهوم والتأثيل"، المركز الثقافي العربي، بيروتالدارالبيضاء، ط 1، 1999]. إعادة قراءة ابن عربي نأتي للفصل الأخير من العمل، ونعتقد أننا إزاء فصل صادم نوعاً ما بالنسبة لأغلب قراء أعمال محيي الدين بن عربي، ومن شتى المرجعيات، نقول هذا ونحن نأخذ بعين الاعتبار أن الرجل، يكاد يُعادل نيتشه هناك في المجال التداول الغربي، من فرط تعدّد واختلاف القراءات التي طالت أعماله. الجديد في قراءة حمو النقاري، تأسيساً على أرضية منطقية صلبة، تلك الإشادة النقارية الصريحة بإشارات ما اصطلح عليه ب"النص الأكبري"، نسبة إلى لقب "الشيخ الأكبر"، ابن عربي دون سواه. إشادة المؤلف، باعتباره أحد رموز علوم المنطق في المجال التداولي الإسلامي، وصلت إلى مرتبة الحديث عن نص أكبري (من خلال الاشتغال على إحدى أعمال ابن عربي) يعتبر نموذجاً يشهد لحيوية الفكر الأكبري التي لم يدرك كنهها، قطعاً، لا الفيلسوف العربي الذي لم يتمرس بالتراث الفكري الإسلامي العربي بكل فضاءاته المعرفية المتكاملة والمتعاضدة، ولا المستشرق الأجنبي الذي لم يتذوق خصوبة اللغة العربي وعناها.. من هنا، كان الفكر الأكبري مستغلقا عند أغلبنا. جاء الفصل تحت عنوان: "التديّن بين الانتطاق المنطقي والاتصاف الصوفي: حالة ابن عربي"، ولأهمية الإشارات النقارية الواردة في أكبر فصول العمل (من 151 إلى ص 184)، ارتأينا التوقف عند سبع إشارات لأهميتها القصوى، إلى درجة قد تدفع قارئ أعمال ابن عربي فى إعادة قراءة هذه الأعمال، خاصة أن المؤلف في هذا الفصل بالذات، اشتغل على بضع نصوص فقط من أعمال ابن عربي: 1 كان الفكر الأكبري فكراً "خفيفاً"، لا بالمعنى القدحي للخفة، وإنما بمعنى القدرة الفائقة على استشراف أرحب الآفاق والمجاز إليها بمختلف المجازات، المعهود منها وغير المعهود. وليس غريباً أن يكون الأسلوب الخطابي المناسب لخفة النظر هو الأسلوب المجازي الذي تَقِلُّ فيه الإثباتات والتقريرات، بالمعنى المنطقي واللغوي، وتكثر فيه التلميحات والتلويحات. 2 النظر الأكبري نموذج أمثل للنظر الخفيف والمرح، العميق ولاسامي، المجدّد والمؤسس، مثله في ذلك مثل النظر الفلسفي المرح عند نيتشه والنظر الفلسفي اللغوي الوجودي عند هايدغر في التفلسف الغربي المعاصر. 3 لا تعويل على الفكر في معرفة الله تعالى، وإنما التعويل على "عُلُوِّ الهمة". لكن كيف يكون العاقل عالي الهمةّ يقدم الشيخ الأكبر جملة من الوصايا "العلمية" و"العملية" يؤدي العمل بها إلى إعلاء همة العامل بها: 1 أول وصية علمية في إعلاء الهمة هي التحرر من قيود الفكر والعقل والدخول في المجاهدات والخلوات؛ 2 من الوصايا العلمية الأخرى الوصية بالتقليل من طلب العلوم التي لا تنفع في الدار الآخرة، اللهم إلا أن تكون علوماً تمسُّ الحاجةُ الضرورية إليها؛ 3 من الوصايا العلمية لإعلاء الهمة أيضاً، التحذير من سلطة الخيال والتنبيه إلى وجوب الاحتراز منه حتى يقع الكشف والمشاهدة. 4 التصوف الأكبري وإن كان تصوفاً اتصافياً فإنه أيضاً تصوف معرفي؛ فبالاتصاف الذي يتخلق فيه المتصف يؤم طلب التحقق والاطلاع على حقائق راجعة إلى ذات الله تعالى أو صفاته أو أفعاله أو مفعولاته؛ وهذا الاطلاع لا يحصل إلا بعلو الهمة وبتقديم التخلق من خلال المجاهدة والخولة والرياضة على مقتضى شروطها المحددة، فيحصل التأهب والاستعداد والتهيؤ لتلقّي وتقبّل المعارف الربّانية. 5 الفكر الصوفي الأكبري/ خصوصاً في جانبه التخييلي، ما هو إلا بنية سطحية إخبارية تُخفي وراءها بنية عميقة إنشائية، يسترسل، بخفة نظرية وعُلُو همة، في استثمار وجوه التماثل والاختلاف بين الألفاظ والمفاهيم. 6 فهم الفكر الأكبري يتوقف على الوقوف على هذه البنية العميقة الإنشائية وعلى الإمساك بها، وإلا فلن يُفهم الشيخ الأكبر، بل وقد يُستهجن ويُستقبح عقديًّا كما وقع فعلاً حين اتهم في دينه من لدن ابن تيمية [وأتباعه، بالأمس واليوم]. 7 التصوف الأكبري سعي تديّني متميز، لا هو بالسعي الانتطاقي المنطقي، ولا بالسعي الاتصافي الصوفي، إنه سعي منكفئ على الذات وراجع إليها؛ انكفاء ورجوعاً لا تعويل فيهما على الفكر والنظر وإنما هو تعويل على "علو الهمة" بشروطه "العلمية" وشروطه "العملية".