ولكن المشكلة لاتكمن فقط في تيار فكري يهتم بالماضي ويحاول جاهدا أن يجد فيه حلولا للحاضر والمستقبل بل المشكلة هي عندما يطبع هذا المنحى الفكري عصرا مغربيا بكامله. كيف نفهم أن يكون الشاب يفكر وكأنه شيخ هرم؟ كيف يعقل أن يكون شيوخ المغاربة المفكرين (عبد الكبيرالخطيبي، عبد الله العروي، عبد اللطيف اللعبي، أبراهام السرفاتي...) أكثر تحررا وانفتاحا على الثقافات الأخرى من شبابه؟ بإمكاني أن أفهم تشبث الشباب المنخرط في مشروع ماضوي بالفكر التقليدي وذلك بخضوعه لشيوخه ولكنني لا أفهم أن يكون الشباب الذي يصرح بأنه ينتمي للحداثة، وأن يكون هذا الشباب يلوك أفكار القرن التاسع عشر الأوروبي أو أفكار شيوخ الفكر المغربي حتى وإن كانوا حداثيين، دون أن يلتفت إلى واقعه اليومي المعيش ويطرح السؤال حول مصيره انطلاقا منه ودون أن ينخرط في عصره؟ لا أعرف كيف أشرح أن ينخرط الشباب جسديا وعمليا في الإقبال على منتوجات التكنلوجيا الحديثة وأن يستهلك آخر ما أنتج على مستوى الصورة والموسيقى واللباس ولكنه يتوقف في قراءاته عند حدود القرن التاسع عشر الأوروبي ويحتمي في الغالب بملاءمة الفكر التقليدي مع الفكر الحديث الذي أنتج في القرن الثامن عشر؟ يسألني طلبتي بكثير من المكر عن كيفية ملائمة الحداثة وما بعد الحداثة لحياتنا اليومية وكيف يمكن لأمهاتهم وجداتهم فهم الحياة وفق هذا المنظور؟ يسألونني وفي عيونهم حيرة عميقة حيرة ذلك الذي يجد نفسه أمام طريقين لكنه لازال يتردد في الأخذ بأحدهما. أعرف جيدا أن الأمر لا يتعلق لا بأمهاتهم ولا بجداتهم ولكن الأمر يتعلق بهم هم وصعوبة التخلص من منظومة تربوا فيها ولا يعرفون شيئا غيرها. هذه المنظومة صنعتها المدرسة المغربية كما خطط لها بتأن ومكر مكيافليين. ابتدأ مشروع التحول في التعليم المغربي من 1965. فبعدما تم التراجع عن المشروع التحديثي السياسي الذي نادى به الجناح اليساري للحركة الوطنية واسترجاع الملكية على عهد محمد الخامس لغريزتها السلطوية أصبح الباب مشرعا لإقامة نظام تعليمي يعيد انتاج الخضوع والعبودية. ولم تجد الدولة أحسن من العودة للتراث لإعادة تنشيط الفكر السلطوي. تزامن هذا مع حرب أكتوبر العربية الإسرائلية والتي وجد فيها دعاة التعريب فرصة المطالبة بالتخلص من بقايا الاستعمار ومنها اللغة. ولكن العودة للغة العربية كانت تعني فقط العودة للثقافة العربية التقليدية وغربلتها من كل ما من شأنه أن يمس بالعمود الفقري للسلطة الأبوية الذكورية البطريكية بصفة عامة. وكان النظام يعرف جيدا أن الفرنسية تحمل في طياتها فكرا لا يتلاءم مع تكوين الرعية التي يريد. لذا فإن الدولة حرصت على أن تكون الفرنسية في التعليم تقنية فقط تنتج التكنوكراط والتكنولوجيين لتبقى روح المغربي مرتبطة بالفكر العربي التقليدي. كل ما يعيد النظر في السلطة البطريكية التي هي أساس الاستبداد كان من اللازم أن يبقى خارج التعليم التقليدي. لذا حرص حراس النظام، وهوم جيش من رجال التربية والتكوين، على أن تبقى بنية التفكير أبوية تقليدية، من هؤلاء من كان يعي مايقوم به ومنهم من كان يقوم بهذا مدفوعا بغريزته الرجعية. تعود بي الذاكرة إلى استجواب مطول كانت أنجزته مجلة الثقافة الجديدة في ملف خاص عن الثقافة المغربية ونشرته مجلة الكرمل الفلسطينية نظرا لأن السلطات المغربية كانت قد قررت توقيف الثقافة الجديدة من جملة مجلات أخرى. في هذا الاستجواب أكد محمد عابد الجابري أنه يرفض سيكموند فرويد والسبب «أنه (أي فرويد) يهتك أعراضنا». علم النفس التحليلي بالطبع يخلخل بنية النظم البطريكية لذا أفهم موقف هذا الشخص والذي هو نفسه الذي وضع برنامجا للفلسفة سارت عليه أجيال وأظنها لا زالت عليه إلى اليوم. وهو الشخص نفسه الذي وضع تصور تدريس الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع بالجامعات المغربية منذ تعريب الفلسفة (والتي كان عرابه أيضا) إلى حدود الإصلاح الجامعي في بداية سنة 2000. وبعملية حسابية بسيطة سوف نرى أن جل ممتهني الفلسفة اليوم هم من نتاج برامج هذا الشخص. آفة المدرسة أيضا استثناء مغربي