صوّت التحالف الرباعي الذي يقوده المليارديرعزيز أخنوش في 13 يناير على انتخاب حبيب المالكي، القيادي في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، رئيساً لمجلس النواب. وقد دعم حزب الأصالة والمعاصرة، الذي يُعتبر الخصم الأساسي لحزب العدالة والتنمية (البيجيدي)، انتخاب المالكي. أما زعيم حزب العدالة والتنمية، عبد الإله بنكيران، فاعترض بشدّة على انتخابه مشدّداً على أنه خط أحمر، لا بل "إرغام يوصل مشاورات (تشكيل الحكومة) إلى الباب المسدود"1. ولكنه رضخ للضغوط ووافق ضمناً على انتخاب المالكي رئيساً لمجلس النواب قبيل التصويت في البرلمان في 18 يناير الجاري على طلب المغرب الانضمام إلى الاتحاد الإفريقي. إلا أنه لا يزال يرفض المشاركة في ائتلاف حكومي يضم الاتحاد الاشتراكي، ما يتسبّب بتمديد أزمة الحكومة المستمرة منذ أزيد من مائة يوم. لقد رفض بنكيران رفضاً قاطعاً أن يضم إلى تحالفه الحكومي الاتحاد الاشتراكي وهو الحزب اليساري الذي يحافظ على نفوذه رغم تراجعه الانتخابي المطرد منذ ما يزيد عن عقد من الزمن. خصوصاً وأن زعيم العدالة والتنمية فعل كل ما استطاع قبل خمس سنوات، أي لدى عمله على تكوين حكومته الأولى نهاية 2011، وقدّم كل التنازلات والتطمينات الممكنة للحزب، ولكن هذا الأخير رفض رفضاً باتاً المشاركة في الائتلاف الحكومي الذي كان يقوده الإسلاميون آنذاك. إلا أن هناك عوامل أقوى من مشاعر بنكيران تجاه الاتحاد الاشتراكي. فالسبب الأساسي للأزمة الراهنة يكمن في صراع خفي على السلطة بين القصر وحزب العدالة والتنمية. فالرباعي الذي يقوده الملياردير عزيز أخنوش والذي يتكون من أحزاب (الأحرار والاتحاد الدستوري والحركة الشعبية والاتحاد الاشتراكي)، يقدّم دعماً كاملاً للقصر الذي يبادله أيضاً هذا الدعم. يعطّل هذا الحلف الرباعي المحاولات التي يبذلها البيجيدي للمضي قدماً بتشكيل الحكومة، رغم أن كل الأحزاب المكوِّنة له قد عانت من تراجع مهم خلال انتخابات 7 أكتوبر التي حقق فيها البيجيدي أعلى نسبة حصل عليها حزب مغربي في التشريعيات منذ استقلال المغرب. السبب يرجع إلى أن الرباعي المذكور يحصل على الدعم الكامل من القصر. فأخنوش الذي انتُخِب رئيساً للأحرار بعد استقالة صلاح الدين مزوار في أكتوبر – رغم أن أخنوش لم يكن عضواً في قيادة الحزب، بل إنه استقال منه منذ خمس سنوات – يتلقى أوامره مباشرة من القصر حتى أصبحت الصحافة تسمّيه الصديق الجديد للملك. فمخطط النظام الخاص بولاية بنكيران الثانية هو أن يَتحكّم بالحكومية من الداخل، أي إن أخنوش يسعى إلى دخول الائتلاف الحاكم بكل ما يعني ذلك من سيطرة على مسار القرار الحكومي. اختيار القصر هذا هو استخلاص للدروس من الولاية الحكومية الأولى لبنكيران والتي عبّر خلالها زعيم العدالة والتنمية عن تبرّمه من التدخلات القادمة من خارجها وخصوصاً من فؤاد عالي الهمة وإلياس العمري. أما التأثير في القرار الحكومي من الداخل فيتيح للقصر الإيحاء بأنه يحترم مظاهر الدستور والممارسة السياسية. وحتى يكتمل هذان الأمران الأخيران، فإن الزعيم الطارئ لحزب الأحرار كان بحاجة إلى كتلة برلمانية محترمة عددياً وسياسياً. فالرباعي الذي يقوده أخنوش حالياً ممثّل ب103 من أعضاء مجلس النواب، وهو رقم لا بأس به. كان بإمكان الاتحاد الاشتراكي أن يوفّر لبنكيران رصيداً كبيراً من حسن النية السياسية. غير أن الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي، إدريس لشكر، يفضّل التنسيق مع الأحرار عوض العدالة والتنمية، فهو يريد الدخول إلى الائتلاف تحت مظلة أخنوش وليس بنكيران الذي وجّه إليه سهام انتقاداته. يتخوّف بنكيران من أن يتحول الحلف الرباعي المقرّب من القصر إلى أقلية معطِّلة داخل حكومته تفرض عليه سياسةً غير سياسته، خصوصاً وأن الأحرار عبّر عن معارضته، ومنذ البداية، لأي دعم مالي مباشر للأسر الفقيرة، بما يتعارض مع خطط إصلاح الدعم الحكومي التي وضعها حزب العدالة والتنمية وتقوم على توزيع دعم مالي مباشر على الأسر الفقيرة، الأمر الذي من شأنه أن يزيد من شعبية البيجيدي في أوساط قواعده الناخبة، بينما النخبة المخزنية تجد أن الشعبية الحالية للعدالة والتنمية كبيرة أكثر من اللازم. فالبيجيدي كاد يهزم النظام الانتخابي الذي يجعل من شبه المستحيل أن يحصل حزب واحد على الأغلبية المطلقة. لكن حتى لو كان بإمكان الأحرار وحلفائه التوصل إلى اتفاق مع العدالة والتنمية للانضمام إلى الائتلاف الحاكم، لقد رفض أخنوش أن يشمل الائتلاف الحكومي حزب الاستقلال الذي هو الحليف المفضَّل للبيجيدي. وقد عبّر أخنوش عن هذا الرفض حتى قبل الأزمة الديبلوماسية الموريتانية–المغربية التي أثارها تصريح الأمين العام للاستقلال والذي اعتبر فيه البلد الجار أرضاً تابعة للمغرب. هذه الأزمة استغلها القصر لليّ ذراع بنكيران الذي اضطر للتخلي في النهاية عن الاستقلال كشريك داخل الائتلاف الحكومي. إخراج حزب الاستقلال من الحكومة المرتقبة هو إضعاف لموقف بنكيران تجاه الحلف الرباعي، وذلك لأنّ حزب الاستقلال هو الحليف الذي يتمثّل بأكبر عدد من البرلمانيين داخل مجلس النواب، وكل البدائل أقرب إلى القصر. الهدف إذن هو عزل العدالة والتنمية ليس فقط داخل البرلمان وإنما أيضاً داخل الجهاز الحكومي، وهذا يبدو عبثياً لحزب بنكيران الذي صرّح أحد قيادييه لجريدة أخبار اليوم: "نحن لا يمكن أن نقبل بدخول رئيس الحكومة في أغلبية تُشكَّل له ولا يشكلها". لعبت نقاط قوة القصر دوراً كبيراً في هذا الصراع اللامتكافئ مند بداية الأزمة الحالية. فأغلب الأحزاب داخل البرلمان تأتمر بأوامر القصر، وهي تشكل معاً أغلبية عددية داخل مجلس النواب، وهذا يجعل من تشكيل أغلبية حول بنكيران شيئاً مستحيلاً من دون دعم ملكي. هذا الدعم حصل عليه بنكيران سنة 2011 في عملية تبادل مصالح بين العدالة والتنمية والقصر، فقيادة هذا الحزب للحكومة ساهمت في تهدئة الشارع. هذا فضلاً عن أن الإعلام تابع بكلّيته للقصر وكذلك حال الأغلبية الساحقة للصحف الورقية. وهكذا فالإعلام الرسمي وشبه الرسمي يساهم في الضغط على بنكيران لتقديم تنازل جديد عبر تصويره بأنه زعيم سياسي فاشل ومعزول. لكن في الحقيقة، برهن بنكيران عن صبر ومرونة أمام مناورات ومطالب المعسكر السياسي للقصر. فهو وافق أولاً على انتظار حوالي ثلاثة أسابيع بعد الانتخابات في السابع من أكتوبر، حتى يعقد الأحرار مؤتمره الاستثنائي ل"ينتخب" على رأسه أخنوش المقرب من القصر. كما وافق على إخراج حزب الاستقلال من التشكيلة الحكومية المرتقبة رغم أن هذا الحزب هو أقوى حليف للعدالة والتنمية. لكن الوقت يداهم، وليس أمام بنكيران سوى عدد قليل من الخيارات. قبول الاتحاد داخل الأغلبية البرلمانية ورفضه داخل الحكومة، وهذا أمر مقبولٌ سياسياً، هو حل وسط يحفظ ماء وجه الجميع. لكن إذا رفض الرباعي التابع للقصر هذا الحل وتشبث بنكيران برفضه دخول الاتحاد للحكومة، فهذا يعني امتداد الأزمة التي دخلت فيها البلاد منذ أربعة أشهر والتي قد تنتهي بحل مجلس النواب وتنظيم انتخابات جديدة. في المقابل، إذا وافق بنكيران على انضمام الاتحاد الاشتراكي إلى الحكومة، فذلك يعني استسلامه التام لشروط القصر ووضع حد نهائي للتوازن السياسي الجديد الذي أعطى رئيس الحكومة وضعاً دستورياً وسياسياً أتاح له مجالاً للممانعة تجاه تحكّم القصر التقليدي والكامل في السياسات العمومية. إن النخبة المخزنية، وبعدما تعاملت مع حزب العدالة والتنمية كمنقذ سنة 2011، ترى فيه الآن عبئاً وتعتبر أن دوره قد انتهى.